دخل رمضان على الناس في عامهم هذا، والمسلمون ُمثقَلون بالمتاعب والهموم المادية الطاغية، فهل انهزمت ثقافة رمضان الروحية وانسحبت، لتترك المجال واسعا إلى الثقافة المادية الجشعة، حتى أصبحت علامة مسجلة للمسلمين في شهر الصيام والقيام والتراحم ؟ يقول الكثير من الفقهاء: إن رمضان يأتي على المسلمين كل سنة، وهم على نوعيْن׃ غافلين ومتقين، فأمّا الغافلون فهم أولئك الذين لا يعرفون من هذا الشهر، إلا أنه حاجز دينيٌّ بينهم وبين بطونهم وفروجهم، من لحظة تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الليل إلى المغرب، وما عدى ذلك فكل شيء مباح، بل يفعلون قبل شهرهم وأثناءه، ما لم يفعلوه ربما في باقي شهور السَّنة، إلى أن حوّلوه من أيام معدودات للتوبة والرحمة والغفران، إلى ُأخَر للمعصية والفسوق والخسران، أما المتّقون فهم أولئك الذين فهموا مقاصد الصوم، فراحوا يعدّون أنفسهم لرحلة يتركون وراءها- إيمانا واحتسابا- كل ما يعتقدون أنه علق بهم من خطايا، ُيحرِّكهم رجاء صادق في رحمة ربِّهم المحمولة لهم مع رمضان، وأنهم مهما كثرت ذنوبهم، فإن مغفرة الله أوسع مما أذنبوا، يشْرعون في إعداد أنفسهم إلى سفرية الاغتسال الروحية، التي تبدأ عندهم من محطة شهر شعبان، وهم يأملون ألاّ تنتهي مع رحيل الزائر الواعد، إلا وقد تطهّروا وعادوا كما ولدتهم أمهاتهم. هذا بعضُ ما قيل منذ أن نزل رمضان مقيما على المسلمين مرة في الحول، غير أن هذا الشهر، أصبح يتكرّر كاسطوانة قديمة فقت مستمعيها، وتقلص عدد الذين يعملون من أجل أن يُكفِّر رمضانهم خطايا عامهم الذي مضى، ويمنع أخرى لاحقات، وازداد تعداد الذين يعتبرونه مناسبة للثراء وحتى للنصب والغش، ولم يعد وجود هؤلاء حكرا على مجتمع ما أو دولة معينة، بل أصبح»ظاهرة« إسلامية اجتاحت العالميْن العربيّ والإسلامي، ولاحقت المسلمين ولو كانوا في المجتمعات الغربية التي استوطنوها، ولم تنفع العِظات الدينية، ولا الخطب السياسية، ولا الوعيد حاد اللهجة، ممّن يملك وسائل الردع، في كبح جِماح الذين أعطوْا مفهوما يختلف عما جاء به الإسلام وتوارثته أجياله، من أنه شهر للتكافل والتراحم والعودة إلى الله، فأصبح في عرفهم شهرا للتمايز والتنافر والغوص في المعاصي، مع أن الله وعد- ووعْدُه الحق- أن الشياطين تصفد في رمضان . يدخل المسلمون شهر رمضان من أبواب متفرقة، فمنهم من يدخله من باب الربح السريع في الدنيا، بتخزين الكثير من المواد التي يكثر عليها الطلب، أو التي تسيل لعاب الصائم، بهدف عرضها بأسعار مضاعفة خلال أيام الشهر الفضيل، أو تغيير سجلِّه التجاري على مستوى النشاط ، إلى ما يمكن أن يستقطب الذي جوّع- فقط- البطْن وحرَم الفرْج، وتحويله إلى مجرّد كائن ثدييّ، تجرّه معِدَتُه إلى حيث لا ترغب قدماه، ويتم ذلك برعاية »ساميّة« من الإعلام، الذي يتبارى فيه المشْهرون والمعلنون، بتقديم الجديد والمزيد من الأطعمة والحفلات الفنية، وإهدار الكثير من الوقت فيما قد يضر المسلم في جسمه وعقله، إنها حالة تثبت انهزام ثقافة رمضان الروحية، وانتعاش الثقافة المادية الجشعة على حسابها، حتى أصبحت قلةً قليلةً تلك التي تشد فيه أزرها، وتوقظ ضميرها، وتستعيذ بربِّها من شيطانها، وتعزم على أن يكون شهرها بداية للإبحار في عالم الفضيلة والطهارة والتقرُّب إلى الخالق الرحمن الرحيم، من خلال القيام بالأعمال المشروعة وإتقانها، بهدف واحد هو خدمة العباد، وفد أيقنت أن الدِّين هو المعاملة . المتجوِّل في أسواق المجتمعات الإسلامية قبيْل شهر الصيام، يظن كأن الأمة مقبلة على حرب طويلة الأمد، حيث يستولي الطفيليون فيها، على معظم مفاتيح موائد الصائمين، عن طريق رفع أسعارها، وتحويل الأغلبية إلى مجرد كتلة بشرية متناثرة تائهة، تبحث عن كل المواد، تختزنها لوقت الحاجة حيث تعتقد أنها تلاحقها في ساعات الصيام، أما الدعاة الذين حرَّموا على البائع تخزينها أو رفع أسعارها، وعلى الشاري اللهث وراءها والتخاصم من أجلها، فلم يعودوا يؤثِّرون في الكثير ممَّن انساقوا وراء شهواتهم، التي جاء رمضان ليحُدَّ من بطشها على إنسانية الإنسان، كما أن المسئولين عن حماية القدرة الشرائية للمسلم فقدت أدوات الردع في أيديهم، كَّل القوة والهيبة اللتين يعطيهما لها القانون، وأصبحوا لا يخيفون أحدا، وانضم المحتكِرون والمحتكَرون، إلى طبقات كبيرة تعيش خارج قيّم رمضان، ممن أسماهم الفقهاء بالغافلين . إذا كان الغافلون قد تناسلوا واجتاحوا رمضان، وأفرغوه من قيّمه الروحية العالية، فإن أصحاب الأمر والنهي، مطالبون بإعادة الضّالين إلى جادة الصواب، بكل ما هو متاح من قوانين شرعية ووضعية، من أجل حماية المتّقين الذين تخلّصوا من سطوة شهواتهم، وزيادة أعداد َمنْ يسعوْن إلى أن يكون أول رمضانهم فيهم رحمة، ووسطه بينهم مغفرة، وآخره عليهم عتقا من النار، حتى لا نضيف مزيدا من الانكسارات إلى ما نحن فيه، من وضعية لا تسر صديقا ولا تفرح عدوا، وحتى لا نجعل من هذا الشهر، محطة يستدل بها الآخرون على حب المسلمين- بمختلف مذاهبهم وطوائفهم ولغاتهم وأوطانهم- للانهزام والهزيمة، وبذلك يكونون بكثرتهم الكثيرة، قد خسروا الآخرة، ولم يربحوا الدنيا، ومع ذلك لا يسعنا إلا أن نتضرّع إلى الله رافعين أكفَّنا إليه قائلين: اللهم اجعله بردا وسلاما، على كل من يحبك ويحب رسولك محمدا، صلى الله عليه وسلم، واجعله يا رب رحمة ومغفرة وعتقا من النار، يا مجيب الداعي إذا دعاك ...