أطلق ساقيه للريح وجرى بأقصى ما يستطيع دون أن يلتفت إلى الوراء، كان يحاول الخروج من المدينة ليسرح ويمرح في أرض الله الواسعة.. أوقفه أحدهم ليسأله عن الخطْب، فأجابه بعد أن أدرك بعض الأمان: إن السلطان قد أصدر فرَمَانا يقضي بفقء العين الثالثة لكل من ثبت عليه ذلك.. وقد فررت بنفسي لأنجو من عذاب شديد. فغر السائل فاه من الدهشة وصرخ: لكن في وجهك من الأعين اثنين فقط، فما الداعي لهذا الخوف والهروب وهجر الوطن والأهل والخلاّن.. استردّ بعض أنفاسه ثم ردّ وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة: المشكلة أن أعوان السلطان يقومون بعملية الفقء أولا ثم يحسبون عدد الأعين، فإن كانت ثلاثة فقد أصابوا الهدف، وإن كانت اثنتين فقط غادروا دون مجرد اعتذار للمسكين الذي سيقضى بقية حياته بعين واحدة. القصة رمزية دون شك، ولا نتصور أنها وقعت بحرفيتها حتى في عصور العقاب الجماعي وألوان التنكيل الذي شهدته بعض الأمم على يد جيوش المغول وأشباههم من الغزاة المتوحشين.. لكن المفارقة أن بعض الشعوب المعاصرة عايشت ما يشبه تلك القصة بأشكال وألوان أخرى وتابع العالم أجمع أحداث المآسي والويلات بعد أن قربت المسافات وتعددت وتنوعت وسائل الاتصال الحديثة التي تنقل لنا كل كبيرة وصغيرة في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى مدار اليوم والليلة. الجنود الأمريكيون في العراق وأفغانستان، وعناصر الشركات الأمنية الخاصة، على أهبة الاستعداد للقتل وأصابعهم على الزناد دائما فالأصل عندهم أن الجميع أعداء وبعدها يمكن التمييز.. وهكذا يطلق الجندي الأمريكي النار لمجرد شك بسيط ومن هناك تستطيع القيادة التحري فيما حدث وإن كان القتلى ذكورا أو إناثا وينتمون إلى القاعدة أو طالبان أم هم مجرد مدنيين عزّل أو حتى عناصر من الشرطة والجيش الأفغاني أو العراقي اختاروا المرور في الوقت والمكان الخطأ بالنسبة للدورية الأمريكية. المآسي التي نقتلها وسائل الإعلام الأمريكية كثيرة وآخرها ما اقترفه خمسة جنود في أفغانستان.. يقولون إن قائد وحدتهم »المعتوه« أمرهم بقتل مدنيين أفغان عزل بشكل وحشي.. والمصيبة بعد ذلك حيث يواجه هؤلاء الجنود تهمة القتل لأجل التسلية وقطع الأصابع وأجزاء أخرى من أجساد الضحايا والاحتفاظ بها كتذكار، وهي درجة متقدمة جدا في الوحشية والاستهانة بالآخر ظهرت في فضائح سجن »أبو غريب« بالعراق وأماكن أخرى. تذكرت قصة فرَمَان السلطان وفقء العين الثالثة وأنا أتابع تصريحات إد ميليباند الزعيم الجديد لحزب العمال البريطاني.. لقد تعهد الرجل بأن يخلّص الحزب من أشباح الماضي وقال إن على »العمال« أن يقرّ بالأخطاء التي ارتكبت طيلة ثلاثة عشر سنة بما في ذلك غزو العراق الذي وصفه بالخطأ الكبير.. تصريحات شبيهة سمعناها قبل ذلك من أقطاب الإدارة الجديدة في البيت الأبيض عندما حمّلوا الساكنين القدامى بعض الأخطاء في مسيرة الحرب على الإرهاب. نعم إن ما حدث هو مجرد أخطاء لا ترقى إلى درجة جرائم الحرب والإبادة الجماعية للشعوب والدوس على أحلامها من أجل مصالح الشركات الكبرى واللوبيات الاقتصادية والسياسية.. إنه منطق أعوان ذلك السلطان وأسلوبهم في تطبيق الفرمان.. مليون عراقي قتيل وملايين اليتامى والأرامل والمشردين والمعوقين، ومليارات الدولارات التي ضاعت في مشاريع ما يسمى إعادة الإعمار.. كل ذلك مجرد خطأ، ويحتاج فقط من زعيم حزب العمال الجديد إلى خطة تخلصه من أشباح الماضي ليصل إلى الحكم في الانتخابات القادمة.. ربما نسلّم له ببعض الحق لو استطعنا النظر من زاويته هو.. لكن.. أليس من حق الشعوب المتضررة أيضا أن تتساءل عن أسباب الجريمة ودوافعها الحقيقية ومتى تتخلص هي أيضا من أشباح الماضي التي صنعتها القرارات الأنانية المبنية على نظرية إلغاء حق الآخر في الوجود إذا تعارض مع المصلحة المنشودة. لقد اعتمد الأمريكيون في غزوهم للعراق على فرضية امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، وسوّقوا للفكرة حتى صدّقوها على ما يبدو، ودخلوا البلاد وقتلوا العباد وحرثوا الأرض طولا وعرضا بحثا عن تلك الأسلحة المزعومة، أو هكذا حاولوا إيهامنا، ثم ظهروا أمام العالم بعد ذلك بأيادي خالية، وقالوا إنهم أخطأوا التقدير فتقارير وكالتهم الاستخباراتية لم تكن دقيقة.. واعتذروا.. لكن بعد خراب مالطة وبعد أن شقّ الفأسُ الرأس. إن قصة فرمان السلطان وما حدث من أخطاء واعتذارات غربية ستكون مقبولة فقط إذا أخضعنا أنفسنا إلى درجات عالية من حسن الظن بهؤلاء القوم وحذفنا من ذاكرتنا الكثير من الصور والمواقف والنظريات التي تحكم طريقة تفكيرهم.. أما غير ذلك فإن كلاما كثيرا يمكن أن يقال في هذا السياق ويكون عبرة لنا في الجزائر ونحن نتابع هذا الاهتمام والضجيج الأمريكي الفرنسي حول الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، وعمليات الخطف التي تحدث من حين لآخر وما يتبعها من دفع مبالغ طائلة لتحرير الرهائن. ما أحوجنا إلى صرخات عالية تقول لهم كفاكم فقد مللناكم.. لقد أفزعتم العالم عقدا كاملا باسم الحرب على الإرهاب، وشرّعتم به لأنفسكم ما أردتم، وجعلتم من أحداث سبتمبر قميص عثمان وطفتم به جهات العالم الأربع وبكيتم وضربتم وانتقمتم.. ألم تطفئ هذه الحروب ظمأكم إلى الدماء.. ابحثوا لكم عن شرعية أخرى بعيدا عن أرواحنا واقتصادنا وثرواتنا وأرضنا وصحرائنا البريئة الطاهرة.. دعوا حكوماتنا وشعوبها تتدبر الأمر إن كان فيه شيء من الحقيقة.. لقد انكشف المستور ولو كنا في العصر الحجري بوسائل اتصاله البسيطة.. لو كنا هناك لأدركنا أن وراء الأكمة ما وراءها بعد تكرار المشاهد الهوليودية والخدع البصرية الغبية.