لعل ظاهرة الإضمار أن تكون جديدة في تعبير الجزائريين وفي لغة تواصلهم. فإلى زمن غير بعيد كان التصريح هو السائد عندهم وبدرجات سلمهم الاجتماعي جميعا. فضمير هم، الذي يعين جمع الغيبة، كما يقول النحويون، تتردد وتيرته على ألسنة الجزائريين، بشكل يكاد يتغلب على بقية الضمائر، حين يتكلمون عن أوضاعهم العامة. بل يكون سحق ضمير نحن: الضمير الجمعي الفخم، المحدد لاثنين إلى ما لا نهاية، والذي كان الجزائري، إلى خاتمة السبعينيات، لا يزال يردده فخرا وعزة، معبرا به عن مفرد متكلم بصيغة الجمع خاصة. وتحول ضمير أنا من سياقات التفاؤل والحلم والشعور براحة الضمير لأداء الواجب، أيا كان نوعه، والاطمئنان على الغد وأخذ أسباب الحياة بعزيمة الرجال، إلى التعبير وبشكل سودوي عن التذمر والقلق والخبال والخوف والجوع والحرقة والانتحار والتهديد والوعيد والسباب والشتم واللعن والتفاخر بالاحتيال وخرق القانون وانتهاك الحقوق والقتل؛ نكاية في ضمير هم، الذي أمسى يحيل، وبشكل ملتبس، على قوة خفية. كما صار إلى التعبير عن فردانية متقوقعة مهووسة مشحونة بطاقة تدميرية كامنة؛ شعورا بأن هم جردوه من كل شيء، حتى الأرض التي ولد فيها، ورموه إلى البحر. ففي حديث الواحد إلى الآخر، إذا تعلق الأمر بما يصيب الصالح العام من أعطاب، يتم اتخاذ هم ذريعة لتحييد أنا؛ يأسا مما ينقع نقعا حياة الجزائريين وإخفاءً لعجز الهمة عن الإسهام في حل أو في علاج، كتأدية الواجب في مكان العمل للمدة المحددة مثلا، والتصرف بإحساس مدني. يقول كل مقصر: إن هم لا يقومون بأدنى واجب مطلوب يتقاضون عنه راتبا من الخزينة العمومية. ويصر مختلس المال العمومي وناهبه ومبذره: هم فعلوا أكثر مني فلما ذا لا يحاسبون. ويتبرأ هذا المسئول مما ينسب إليه من أفعال خطيرة أمام التحقيق: تحركت بأوامر شفهية من هم. اسألوهم، هم. وهم، في هذه المؤسسة أو الشركة، في الإدارة أو السوق، في الجامعة أو المستشفى، في الميناء أو المطار، أشباح لا يُلمس لها ظلٌّ إلا إذا فاحت رائحة الفضيحة. وإذا استتب الأمن، مثلا، أو تدهور أكد هذا لذاك في الحالين: هم أرادوا ذلك. الأمر لا يتطلب دراسة سوسيولوجية لإدراك ذريعة التبرئة الذاتية التي صار الجزائري يلجأ إليها. فإنه، مقابل إحساسه المرعب بأنه يتم التخلي عنه في متاهة حالكة المسالك شيدتها إمبراطورية بيروقراطية وغذتها بأمصال رشوة موصولة بجسمه تنخر فيه، يتبنى الهروب حتى حدود الكفر بما يربطه إلى بلده فتنمو فيه قابلية التخريب الذاتي. بل، ويجعل نفسه في حل من مسئوليته الاجتماعية ويشهر براءته من أي تجريم، ويقف متفرجا أمام صراعات مزمنة من أجل النفوذ والتسرب إلى الدوائر التي تدر المال العمومي لتحويله بأساليب تكاد تصير مشروعة. وإنما كانت الدولة لتحمي مواطنها وتحافظ على مصالحه وتقاوم القوى الخفية وتعيد إلى الواقع شفافيته؛ لوضع حد لمظاهر الإحباط لتستعيد الضمائر دلائلها. [email protected]