زهور ونيسي ما تزال تحتفظ في تفاصيل وجهها بصرامة جيل من النساء ناضل كثيرا من اجل فرصته في الحياة والوجود، كانت أول امرأة كتبت الرواية في الجزائر بالعربية وأول وزيرة في النظام الجزائري رغم ارثها النضالي والثوري والأدبي الكبيرة ما تزال تحافظ على تواضعها واتزان حديثها. * إنها السيدة زهور ونيسي التي استقبلتنا في بيتها على طعم قهوة قسنطينية المذاق والتقاليد وفتحت أمامنا دفاترها القديمة في جلسة حميمية استعادت خلالها صاحبة "يوميات مدرسة حرة" بعض ذكرياتها ومواقفها المختلفة في صبيحة هادئة في بيتها الذي يحتفظ بين جدرانه بعبق الثقافة ونضال الزمن الأصيل. * عندما تتحدث السيدة ونيسي عن مسارها بين مختلف المناصب والمهام التي مارستها تتحدث بتواضع كبير قل ما نجده في زماننا فتقول إنها لم تؤدي خلال كل تلك المراحل إلا واجبها بنفس الشغف وروح المسؤولية والخوف أيضا من عدم تأدية هذا الواجب فكانت أديبة، صحفية، مدرسة، وزيرة ونائبة بالبرلمان، وهو الحس الذي ظل يلازمها حتى عندما تكتب نصوصها بنفس درجة الإحساس بالمسؤولية في مواجهة الرجال في المجالس العليا والمناصب الكبيرة التي أسندت إليها، وعنها تقول "كل مهمة من هذه المهام أضافت لي تجربة وخبرة وعلم كنت أفتقده وأعتبر نفسي محظوظة لأني استطعت أن أكون في كل هذه المناصب أنا نفسي كما هي بصراحتي وإمكانياتي". * عندما تتحدث إلى هذه المرأة يصعب كثيرا أن تثيرها أو تدفعها لإثارة مهما كانت جرأة أسئلتك وخبثك الصحفي، بساطة لأنها امرأة مارست الإعلام في زمن كانت فيه للكلمة هيبتها وخبرت دهاليز السياسة والحكم، لذا فهي تتجنب الجزم والقطع في إجاباتها وتترك دائما هامشا للاحتمال والتقدير. * لا تتردد كثيرا السيدة ونيسي في الدفاع عن تراث المدرسة الأصيلة الإصلاحية التي كانت إحدى خريجاتها كتلميذة في مدارس ابن باديس ثم كرائدة من رائدات التعليم الحر في الجزائر، لذا ترفض التهمة التي تلصق بهذه المدرسة في رعاية وإنجاب الإرهاب، لأن الرهان الذي رفعته الجزائر بعد خروج فرنسا هو فتح المدارس في فجر أول استقلال. * "ظاهرة الإرهاب جاءت من الخارج لأنها ربما كانت رد فعل لظروف أخرى لأن الفعل المتطرف لا ينتج إلا التطرف. وعليه فالإرهاب لم يأت من المدرسة الجزائرية، والذين يقولون بذلك هم أعداء اللغة العربية والمدرسة الوطنية، والظاهرة بدأت قبل الثمانينيات عندما خرج تلامذة مدرسة ديكارت ينادون بالتاريخ في المزبلة، والفكر الوهابي جاءنا من أفكار بعض الأفغانيين الذي جاؤوا للجهاد في الجزائر من بعض البلدان الإسلامية الأخرى" على العكس من ذلك تماما ترى صاحبة "اللونجة والغول" أن "ما وصلت إليه الجزائر اليوم هو جزء من المؤامرة التي حيكت بعد الاستقلال ضد الاتجاه الإصلاحي.. التهمة لا تلصق بالمدرسة الإصلاحية في خلق الإرهاب بل التهمة تسلط على الذين همشوا الحركة الإصلاحية بعد الاستقلال فلو أنهم احترموا الحركة الإصلاحية وروحها بأصالتها وتفتحها لما وقعنا في ما وقعنا فيه". * فالحركة الإصلاحية أزيلت من كل ما من شأنه أن يبني هذه الجزائر. الحركة الإصلاحية كان على رأسها ابن باديس وهو أول من دعا إلى تعليم البنات. في هذه المدارس كنا نجلس البنات إلى جانب الأولاد بدون عقدة، وكانت الحصانة هي الأخلاق وحسن التربية، ولم تكن يومها مسألة الحجاب مطروحة، كنا نلتزم بالسترة وبقينا إلى اليوم لا نتبرج في حركاتنا ولا في كلامنا ولا في لباسنا، كانت الحصانة يومها الأخلاق والتربية وليس الحلال والحرام. والحركة الإصلاحية التي همشت بعد الاستقلال هي التي حافظت على الروح الوطنية والشخصية الجزائرية والهوية الوطنية، وهي التي دفعت بالكثير من تلامذتها وأتباعها إلى اعتناق الثورة وحافظت على الحس الوجداني والوطني في هذه الجزائر، ربما لهذا حوربت بعد الاستقلال" تلك الحرب التي أرجعتها المتحدثة إلى جزء من صراع الاتجاهات على افتكاك المناصب والمنافع ورحلة البحث عن المصالح "ما رأيناه بعد الاستقلال لم يحدث حتى في وقت الحركة الوطنية قبل الاستقلال" لهذا ترى الوزيرة السابقة للتربية في نظام الشاذلي بن جديد أن الإصلاحات التربوية في الجزائر لم تكن خيرا كلها ولم تكن شرا كلها، وأن مسيرة التعريب في الجزائر لم تفشل لكنها تعثرت، ولم تكتمل بل تمت توقيفها، مذكرة بجهود مولود قاسم نايت بلقاسم في هذا المجال "فالدور الذي قام به مولود قاسم نايت بلقاسم في الإدارة لا يمكن تجاهله، وكنت يومها في وزارة الحماية الاجتماعية، وكان كل من في القطاع مستعدا للتعريب لكن المسيرة توقفت" في هذا المقام ترى السيدة ونيسي أننا "نتهاون كثيرا اتجاه العربية لأنها إحدى أهم مبادئ السيادة" وتشدد الوزيرة السابقة للتربية على وجوب احترام العربية كلغة رسمية للبلاد المكرسة بنص الدستور خاصة في معاملاتنا الإدارية، لأننا بتهاوننا تجاه لغتنا "نتنازل عن أهم نجاح للثورة الجزائرية" ورغم أن الأستاذة زهور ونيسي لم تستبعد تواطؤ التيار الفرانكفوني النافذ في دهاليز الإدارة في إعاقة مسار التعريب لكنها تؤكد من جهة أخرى أن "التطرف لا ينتج إلا التطرف". * زهور ونيسي التي جمعت بين صرامة المناضلة وحس الكاتبة ترفض أن تدخل حزب جبهة التحرير الوطني إلى المتحف وتؤكد أن لهذا الحزب ما يقوله في عهد التعددية "طالما أن له امتدادات وقواعد شعبية" استمدها من تاريخه النضالي، ومع هذا تؤكد أنها تمارس نقدا لاذعا في بعض الأحيان للحزب ولا تتردد أن تقول "بقيت الوحيدة التي لم تتنكر لحزب جبهة التحرير في الوقت الذي اختار البعض تغيير الوجهة". * في هذا الحزب خاضت النضال واستوزرت باسمه وخاضت أيضا معارك عدة منها معركة قانون الأسرة الذي يتهمها فيها البعض بأنها تواطأت فيه مع المنصب ضد مصالح النساء عن هذه الأحداث تروي قائلة "يومها كنا 10 نائبات في البرلمان وكنت الوحيدة يومها التي واجهت وتغلبت على التيار المتطرف في المجلس الشعبي الوطني بحيث كنت أسهر على الأخذ من أمهات الكتب ومن فقه السنة والتفاسير والأحاديث التي تؤيد حقوق المرأة، لذا كان التيار المتطرف داخل المجلس الشعبي الوطني يخافني أكثر مما كان يخاف المتطرفين من الجناح الآخر خارج المجلس، ومشروع قانون الأسرة جاءنا يومها من الحكومة في قراءة ثانية، وكان معي بعض الزملاء الوزراء الذين كانوا نوابا بالمجلس الشعبي الوطني، ووقع بيني وبينهم نفس الصدام، فأصحاب هذه الإشاعة هم أصحاب التيارات التغريبية المتطرفة التي جاءت بعد الانفتاح السياسي ليس لها أي هدف إلا مهاجمة التيار الوطني الإصلاحي النظيف الذي يعمل على تكريس حرية المرأة واحترامها لأصالتها ولتميزها كعربية وأمازيغية مسلمة" من هذا المنطلق ترى المتحدثة أن مشكلة المرأة الجزائرية اليوم ليس مع القوانين بقدر ما هي في العقليات وبعض "الذهنيات المريضة لبعض الرجال ومن سلبية المرأة أيضا تجاه واقعنا لأننا اليوم نجرجر حصيلة سنوات الانحطاط في المجتمعات العربية بكل ارثها" وترى المتحدثة أن إيمان المرأة بنفسها هو جزء من إيمان الغير بها، لهذا كانت بالأمس للاتحاد الوطني للنساء الجزائريات امتدادات شعبية كبيرة "كنا نجند نساء السفراء العرب لمحو أمية الجزائريات عبر القرى، ومن بينهن السيدة هاجر صادق حرم السفير السوري بالجزائر، ولولا الدور الكبير لتلك التعبئة والتجنيد والحث على العمل والتعليم لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم". * السيدة زهور ونيسي، وغداة تعيينها على رأس وزارة الأسرة، لم تترد في طلب استشارة زوجها، موقف أعابه الكثيرون يومها على السيدة ونيسي التي ترى فيه "قمة الاستقلالية عندما تسعى لإضافة نجاح إلى آخر وليس بناء نجاح على أنقاض نجاح". * زهور ونيسي، المحسوبة على الرئيس الراحل هواري بومدين، تصف علاقتها بزعيم الجزائر بأنه كان أخا وزعيما يحسن الاستماع ويحسن الاستفادة من غيره "لما كنت ارأس مجلة الجزائرية التي لم تكن لها ميزانية كنت قد طلبت منه لما بلغت المجلة عاما من التأسيس أن يكتب لنا افتتاحية، كتب لنا الافتتاحية واستقبلني يومها رفقة رئيسة الاتحاد صفية بن مهدي واستمع إلينا وإلى مشاكلنا، وقلت له إن جبهة التحرير تقوم فقط بدفع أقساط المطبعة أما أجور العاملات والكتاب والكاتبات فلم تدفع منذ عام، فدفع لنا الفرق الموجود، ومنذ تلك الزيارة أصبح يقدم لنا مساعدة مالية شهرية، كما كان بومدين في اجتماعات رمضان مع رؤساء أجهزة الإعلام ينصت إلينا باهتمام ويحرص على الاستفادة من غيره" وعن علاقتها مع الشاذلي بن جديد عندما سألناها لماذا عينها هي تحديدا وليس غيرها في منصب الوزيرة أجابت "لأني كنت مناضلة ميدان، لم أكن طامعة في المنصب، ولم أسع له ولم أتوجه كما توجه غيري بعد الاستقلال إلى تكوين الثروة". بنفس المنطق تؤكد زهور ونيسي أنها لم تسع لأي منصب بعد خروجها من الوزارة ولم يعرض عليها إلا منصب نائب في مجلس الأمة، وبقيت فيه 6 سنوات، كما عرضت عليها مؤخرا إدارة المكتبة الوطنية لكنها اعتذرت "لأنني أعرف أن المكتبة الوطنية معلم كبير ومهمة صعبة وفضلت أن تكون من نصيب الشباب". * لا تختلف كثيرا علاقة زهور ونيسي بالسياسية عن علاقتها بالأدب والكتابة، وما تزال تعرف حدود قلمها أين يبدأ وأين يتوقف "لا يضيرني أن تقول أحلام مستغانمي إنها أول من كتب الرواية في الجزائر بالعربية، وربما أحلام لم تقل هذا الكلام، فالصحافة لا تؤتمن دائما، لكن حتى وإن قالت أحلام هذا الكلام لا يضيف لي ولا ينقصني مني شيئا، فالنقاد العرب يعترفون أن "يوميات مدرسة حرة" هي أول رواية نسوية في الجزائر باللغة العربية وقريبا ستتحول إلى مسلسل تلفزيوني" تقول ونيسي "تشرفت بتدريس أحلام وأرى في نجاحها نجاحا للجزائر خارج الحدود رغم أن المشرق قليلا ما يعترف لأبناء المغرب بالريادة"، هنا تتذكر الاستاذة طالبتها فتقول "أحلام هي أحلام بتمردها، شقية وشاعرة حساسة وأول قصائدها نشرتها في مجلة الجزائرية عندما كنت مديرة لها" صاحبة "اللونجة والغول" التي خبرت ميدان الكتابة وتمرست فيه ترى أن أجيال اليوم من الكاتبات لديهن ما يكفى من نضج التجربة والخيار للكتابة، وسعي هذه الأجيال اليوم للتمسك بجلباب أحلام مستغانمي يعود أساسا للشهرة الإعلامية التي حصلت عليها أحلام عبر وسائل الإعلام. * عندما تتحدث إلى زهور ونيسي مجبر أنت أن تصغي إليها للنهاية، وتتحول بحضرتها إلى تلميذ يصغى لأستاذه وهي تجول بمكتبتها التي تضم عشرات بل مئات العناوين في الأدب والتاريخ والسياسية بالفرنسية والعربية، في هذا المكان تفضل زهور ونيسي أن تقضي معظم وقتها في تقليب كتب التاريخ والفلسفة التي تفضلها. في هذا المكان تواصل زهور ونيسي رحلة البحث والكتابة حيث أنهت مؤخرا مشروع نص حول رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر الإمام ابن باديس سيصدر قريبا في مجلدين في انتظار أن يحول إلى مشروع تلفزيوني أو سينمائي يعيد سيرة رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر، عن هذا المشروع تقول المتحدثة "من خلال البحث والمراجع الكثيرة اكتشفت أن لهذا الوطن رجالا وقامات كبيرة حققت التناغم في الحركة الوطنية التي فجرت الثورة وقادت الجزائر للاستقلال". * في ذات المكان وبين هذه المجلدات استعادت الكاتبة جزءا من ذكرياتها في اتحاد الكتاب الجزائريين الذي يعيش اليوم تشرذما وانقساما بطريقة تدعو حقا للأسف بعدما كان يجمع كبار الكتاب والمبدعين "اتحاد الكتاب من المفروض أن يجمع كل الجمعيات المهتمة بالفكر لكن إذا به هو الذي يضيع، لست ادري إن لم يكن الاتحاد في مستوى المسؤولية التاريخية له ولا ادري لما هذا التطاحن والتشرذم، ويحز في نفسي وأنا من المؤسسين لهذا الاتحاد أن أرى ما وصل إليه. أول أمانة وطنية لاتحاد الكتاب كان فيها مالك حداد، وأفتخر أنني رشحته لذلك رغم غضب بعضهم علي، وكان فيه سعد الله والميلي وشريط والسائحي. * في هذا الحي الهادئ بأعالي القبة تسكن السيدة ونيسي منذ زمن ولم تغير مكان سكناها ولا فكرت في مغادرة البلاد حتى إبان الأزمة الأمنية "لم أفكر يوما لا في تغيير السكن أو الهروب وقلت إن مصيري من مصير جيراني، ولم أتخلف يوما عن موعد ولا عن السوق أو الشارع ولم اطلب الحماية لأن كانت قناعتي دائما أن الأعمار بيد الله". * ونحن نودع الكاتبة والوزيرة السابقة زهور ونسي أحسسنا أننا لم نأخذ منها الشيء الكثير من خبرتها وأسرارها التي تحتفظ بها في الذاكرة والمسار النضالي الطويل، إذ يصعب كثيرا أن تحيط بتاريخ هذه السيدة في جلسة صحفية عابرة وهي التي ما تزال في زمن التجارة في كل شيء تحتفظ بصرامة جيل لا يغفر الأخطاء لنفسه قبل غيره.