الدولة العربية الأخرى المعنية بالإتيان من الجنوب هي مصر، التي رغم تحولها، منذ اتفاقيات كامب ديفيد، إلى قاعدة أمامية لأمريكا وإسرائيل، ورغم تطرفها في مواجهة المد التحرري العربي، ودعمها للسياسة الأمريكية بكل همة ونشاط، يتجاوزان أحيانا حتى همة الأمريكيين أنفسهم )مشاركتها في الحرب الأولى على العراق، إقناع الرئيس بوش الإبن بأن العراق يملك أسلحة الدمار الشامل وإنه على استعداد لاستخدامها ضد أمريكا، إرسال الدعم المادي والمعنوي للمقاتلين الأمريكيين في الحرب الثانية على العراق، اتخاذ نفس الموقف الأمريكي من السودان ومن إيران ومن المقاومة اللبنانية، منع إصلاح شؤون جامعة الدول العربية ..(، ورغم عدم تقاعسها في حماية أمن إسرائيل ولو على حساب أمنها )سعر الغاز الذي تبيعه لإسرائيل، الحاجز الفولاذي، موافقتها على ضرب غزة، الضغوطات التي تمارسها على حركة حماس ..(، رغم كل ذلك، فان هناك مسعى إسرائيليا أمريكيا لخنق مصر من جنوبها بتشجيع النعرات الجهوية والدينية أولا وبتجفيف منابع النيل عليها ثانيا. أخبار عديدة، تحاول القاهرة تجاهلها أو التستر عليها، تتحدث عن شحنات كبيرة من الأسلحة تصل باستمرار إلى الأقباط الذين بدؤوا يعدون العدة للمطالبة بما يقولون أنها حقوقهم المهضومة وعلى رأسها حرية العبادة وحرية بناء الكنائس وتمثيل أكبر في البرلمان والمناصب الحكومية السامية. حركة الأقباط في مصر والمدعمة من الغرب، لم تعد مجرد حركة احتجاجية أو مجرد تململ ضد ما يسمونه بالتضييق على العبادات من طرف الأغلبية المسلمة، بل هي اليوم نشاط حثيث من أجل تحقيق مشروع التقسيم. يكفي زيارة مواقع الأقباط على الانترنيت أو على الشبكات الاجتماعية )الفيس بوك وغيرها( للتأكد من حجم وعمق ونوعية هذه الحركة التي تطالب أيضا بدولة منفصلة لها بجنوب مصر. زعماء الأقباط، ينشطون بكل حرية عبر وسائل الإعلام كبعض القنوات التلفزيونية الممولة من طرف الأقباط أو كصحيفة "اليوم السابع"، لنشر آراء تطعن في القرآن أحيانا وتدعوا إلى استعادة مصر من »الضيوف« المسلمين أحيانا أخرى. في تصريح لجريدة »المصري اليوم«، بتاريخ 15 سبتمبر 2010، ذكر أحد المرشحين لخلافة البابا شنودة وهو الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس، ومطران كفر الشيخ و البراري، بأن المسيحيين الأقباط هم »أصل البلد«، وأن المسلمين في مصر هم »ضيوف حلّوا علينا ونزلوا في بلدنا .. «. رجل الدين المسيحي استعمل نفس الخطاب الذي يروج له المتطرفون المسلمون عندما حذر الحكومة من محاولة الاقتراب من الكنائس أو التدخل في شؤون المسيحيين، إذ قال: »نحن كمسيحيين نصل إلى حد الاستشهاد إذا أراد أحد أن يمس رسالتنا المسيحية، وإذا قالوا لي إن المسلمين سيرعون شعبي بالكنيسة، فسأقول: اقتلوني أو ضعوني في السجن حتى تصلوا لهذا الهدف«. مطالب الأقباط لم تعد تقتصر على مجرد خطاب مطلبي بل كثيرا ما يتطور الأمر إلى حد الاشتباك مع المسلمين أو مع رجال الأمن؛ خلال الأسبوع الماضي مثلا، حدثت مشادات عنيفة بين بعض الأقباط ورجال الأمن المصري على خلفية منع بناء كنيسة جديدة. الحركة القبطية في مصر، تستفيد كثيرا من طبيعة أجندة النظام السياسي الذي جعل مسألة توريث الحكم على رأس أولوياته -أو هي الأولوية الوحيدة- فالأقباط يساندون علنية مشروع التوريث لسببين اثنين، أهمهما كون وصول جمال مبارك إلى الحكم سيضعف أكثر النظام السياسي في مصر ومن المؤكد أنه يدخلها في أزمات سياسية لا أحد يستطيع التكهن بنتائجها وهو ما يخدم دعاة الانفصال في مصر؛ وثانيهما، متعلق بالأصول المسيحية لوالدة جمال مبارك التي يقال، في مصر، أن لها تأثيرا كبيرا على ولدها. من جهة أخرى، يساهم المسلمون السلفيون والمتطرفون المصريون، من خلال خطابهم الرافض لحقوق المواطنة الكاملة للأقباط وكذلك دعوتهم إلى اعتبار هؤلاء من أهل الذمة، أي مواطنين من الدرجة الثانية التي لا يحق لها تبوء المناصب السياسية في الدولة الإسلامية التي يطالب هؤلاء السلفيون والمتطرفون بإقامتها على أساس الشريعة الإسلامية، يساهمون في دفع الأقباط إلى المزيد من التطرف في مطالبهم. حركة الأقباط، من أجل إقامة دولة لهم في جنوب مصر، تجد كل الدعم من إسرائيل التي تكثف نشاطها، خلال السنوات الأخيرة، في الدول الإفريقية الواقعة جنوب مصر، وهي دول منبع وادي النيل الذي بدونه تفقد مصر مقومات الحياة. دول المنبع تطالب بإعادة النظر في معاهدة تقسيم مياه وادي النيل، وهي المعاهدة التي وقعت سنة 1929، زمن الحماية البريطانية، والتي تتيح لمصر والسودان الاستفادة من نسبة 87 بالمائة من مياه النيل، بينما تتقاسم دول المنبع والممر الأخرى، وهي سبع دول، نسبة 13 بالمائة المتبقية. نفس المعاهدة، تمنح لمصر حق منع إنجاز مشاريع تنموية، مثل السدود، تريد دول المصب إنجازها على، أو بالقرب، من النيل. الدول الإفريقية السبع، تعتبر محتوى هذه الاتفاقية التي أبرمت تحت سلطة الاحتلال إجحافا في حقها وتطالب بتوزيع عادل لمياه النيل. مصر، من جهتها، تعرف أن أي إنقاص في حصتها من المياه سيؤدي بها حتما إلى كارثة حقيقية، وهو ما تدركه إسرائيل، التي سعت، خلال الثلاثين سنة الأخيرة، إلى بناء علاقات متينة مع معظم الدول الإفريقية المعنية بوادي النيل، وشجعت هذه الأخيرة على بناء سدود لتخزين مياهه، كما تدعمها في مطالبها بإعادة النظر في معاهدة 1929. يبدو أن الدول الإفريقية، المدعمة بإسرائيل، لم تعد تخشى القوة الآفلة لمصر التي لم تعد قادرة، أو لم تعد مهتمة، بحماية أمنها القومي، مما جعل هذه الدول تتشدد في مطالبها؛ وبلغ الأمر، خلال الأسبوع الماضي، حد توجيه تهديد حاد من طرف إثيوبيا لمصر، حيث حذر رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي، من أن مصر لا يمكنها أن تربح حربا مع إثيوبيا على مياه نهر النيل. رغم التهديد الإثيوبي الصريح، إلا أن مصر تعاملت –على غير عادتها في تعاملها مع الدول العربية- بجذر شديد، وبدبلوماسية مبالغ فيها، تجاه التهديد الإثيوبي، بحيث اكتفت بالإعراب عن الدهشة. أخيرا، نلاحظ أن إسرائيل، التي تخشى حدوث اضطرابات في مصر يسقط على إثرها النظام الحالي وتعود مصر إلى الصف العربي مما يشكل تهديدا فعليا على أمن الدولة العبرية، إسرائيل هذه، هي من تخطط اليوم لمستقبل مصر بتجفيف منابع النيل عليها وبمساعدة الأقباط على إقامة دولة لهم في جنوب مصر. مصر، التي ساعدت ولو بالصمت، على إضعاف السودان وتقسيمه، كما ساعدت على تدمير واحتلال العراق، وخنق المقاومة الفلسطينية، ستكون هي الضحية المقبلة للإتيان من الجنوب. في الأسبوع المقبل، نواصل حول موسم إتيان الأوطان العربية من جنوبها، في ظل لا مبالاة الأنظمة العربية التي سوف تؤتى كلها من جنوبها إن استمر سباتها.