تحولت الاحتجاجات العنيفة التي اجتاحت أكثر من 17 ولاية، إلى أشبه ما يكون بكرة الثلج ما فتئت تكبر يوم بعد يوم، في ظل غياب قنوات للاتصال بين السلطة والحشود الغاضبة التي حولت العديد من المرافق العمومية والأملاك العامة والخاصة إلى رماد مخلفة ملايين الخسائر، في ظل موجة من العنف التي لم تشهده البلاد مثيلا لها منذ أكثر من 20 سنة. انتقلت نيران الاحتجاجات بسرعة جنونية من بعض أحياء العاصمة، كحي باب الوادي وبلوزداد إلى اغلب ولايات الوطن، وفي الوقت الذي كانت الحكومة تنتظر فيه تراجع حدة العنف، خاصة بعد تدخل الوزير بن بادة الذي أكد عبر التلفزيون بان المواد الاستهلاكية التي ارتفع ثمنها كالزيت والسكر والدقيق سوف تدعم من قبل الدولة، محملا المضاربين مسؤولية الارتفاع الجنوني والمفاجئ لأسعار العديد من المواد الاستهلاكية الأساسية، وتوسعت دائرة الاحتجاجات لتجتاح كل شبر من عاصمة البلاد وتمتد إلى جل ولايات شمال الوطن وحتى إلى العديد من الولايات الداخلية، ويبدو، حسب العديد من المراقبين أن الاحتجاجات الأخيرة تتجاوز في حدتها وفي مستواها ما حدث في أكتوبر 88، أي قبل أكثر من 20 سنة خلت، هذا فضلا عن بعض التشابه في محركات الغضب الاجتماعي، حتى وإن اختلفت الظروف السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية المحيطة بأحداث العنف الأخيرة مقارنة بأحداث أكتوبر 88. المؤكد أن الخسائر هي أكبر وقد بلغت مستوى لم يتوقعه أحد، وأن الاحتجاجات لم تجنب لا المرافق العمومية ولا الممتلكات الخاصة، ولعل من بين أهم مميزات موجة العنف الأخيرة أنها طالت الأملاك الخاصة وبشكل غير مسبوق، فتحولت الاحتجاجات إلى سيول بشرية في كل الاتجاهات تؤطرها عصابات من اللصوص وقطاع الطرق ومن المجرمين الذين يستغلون الأحداث للسطو على كل ما يقع تحت أيديهم، ومن بين مميزات الاحتجاجات الأخيرة أيضا أنها غير شعبية بالمفهوم المتداول، فالكثير المحتجين هم من فئة الشباب والأطفال، ثم إنها حركة غير مؤطرة من أي توجه سياسيا أو أيديولوجي، وهي شبيهة بالثورة الفوضوية التي اجتاحت الضواحي في فرنسا منذ فترة، ومثل هذه الخصائص تؤشر على خطورة ما يجري ويضاعف من صعوبة إيجاد قنوات للاتصال بين المحتجين والسلطة. والظاهر أن السلطات قد وجدت نفسها مرة أخرى وقد تجاوزتها الأحداث بشكل كبير جدا، فمن غير المعقول أن تتورط السلطات مرة أخرى في هكذا عنف، مع العالم أن بوادر الانفجار كانت موجودة منذ مدة، ونذر العنف الاجتماعي كانت حاضرة وقد اجتاحت الاحتجاجات العديد من الأحياء في المدة الأخيرة، وما من شك أن الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الاستهلاكية كانت من المنتظر جدا أن تفجر الوضع الذي لم يكن ينتظر في الواقع إلا عود الثقاب لإشعال الوضع الذي كان جاثما على برميل من البارود. تساؤلات كثيرة طرحت عن أسباب صمت السلطات العليا في البلاد خلال الأحداث، ولما اكتفت الحكومة بوزير التجارة فقط في محاولة امتصاص غضب المحتجين، لكم الأهم هو معرفة خلفيات الأحداث حتى لا نقع مرة أخرى في التحاليل التي تفضل اللجوء فقط على أطروحة المؤامرة الداخلية أو الخارجية، وهل أحداث العنف الأخيرة هي فعلا عنوان لإفلاس السياسة المتبعة، وإفلاس السلطة ككل، أم فصل من فصول الغضب الاجتماعي التي فرضتها عوامل اقتصادية خارجية لا طاقة للسلطة بها؟. لابد من الاعتراف بأن السياسات المتبعة لم تقدر على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد بشكل جاد وفعال، وحركة الشارع قد تكون نتيجة لحالة إحباط اجتماعي معروفة الأسباب، وقد تأخذ عنوان البطالة والتهميش أو الحقرة وضيق الأفق أمام شباب يعاني من كل أصناف الحيف الاجتماعي، لكن هذه الاحتجاجات تختزن عوامل أخرى سياسية لها علاقة بالانعكاسات النفسية للأزمة الأمنية التي عمرت في البلاد أكثر مما يجب، أزمة عمقت الهوة بين المجتمع والدولة، ورسخت ثقافة العنف في المخيال الجماعي، رغم ما أنجز في إطار المسار السلمي ومعالجة مخلفات المأساة الوطنية، ولا يجب أن نغطي الشمس بالغربال، ويجب أن نعترف أيضا بأن استشراء الفساد على جميع الأصعدة، وثقل ملفات الاختلاس التي كشفت عنها وسائل الإعلام، خاصة تلك المرتبطة بملف سوناطراك، شجع على التمرد والانتقام من كل ما يرمز إلى الدولة. لقد ذكرت أحداث العنف الأخيرة بأكبر خطأ ترتكبه السلطة والمتمثل في غلق المجال السياسي وتدجين المعارضة، والقضاء على القوى التي يمكن أن تساهم في تأطير المجتمع وامتصاص نيران الغضب في مثل هذه الحالات، يضاف إلى ذلك غياب مجتمع مدني فاعل، وانغماس جل الجمعيات في البزنسة وتخليها عن دورها الرئيسي في التأطير الاجتماعي، وهو ما غيب كل الوسائط التي كان من الممكن استعمالها في مثل هذه الظروف لوقف الاحتجاجات أو على الأقل لفتح أبواب الحوار مع المحتجين. قد تأخذ موجة العنف اتجاها دراماتيكيا، وقد تتراجع وتزول تدريجيا، لكنها، وفي كل الأحوال لا بد من أن تشكل هذه الأحداث درسا آخرا للسلطة، وأما فيما يتعلق بمحاولات استغلال غضب الشارع فإن الأمر يبدو بديهيا ومنتظر، وأحسن دليل على ذلك البيان الأخير الذي أصدرته الجبهة الإسلامية المحلة والذي دعت فيه المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته اتجاه ما يحصل في الجزائر، وهي دعوة صريحة من »الفيس« المحل إلى التدخل الخارجي في الشأن الجزائري، ومحاولة مفضوحة لركوب موجة الغضب من أجل تحقيق مكاسب سياسية وبلوغ أهداف لا يمكن له بلوغها في ظل ظروف مغايرة. ويبدو أن أحداث العنف الأخيرة لم تكن المفاجأة الوحيدة خلال الأسبوع المنصرم الذي شهد مفاجآت أخرى كثيرة وغير مسبوقة تزامنت مع التنصيب الرسمي لأعضاء الهيأة الوطنية للوقاية من الفساد، وتسليم الرئيس بوتفليقة التقرير السنوي حول الفساد، وتضاف إلى ذلك حادثة قرصنة باخرة »البليدة« في سواحل الصومال وعلى متنها 17 بحارا جزائريا تنتظر عائلاتهم أي أخبار عنهم، دون نسيان أمر آخر يتعلق بالإجراءات الجديدة المتعلقة بفرض التأشيرة التي لجأت إليها السلطات الفرنسية فيما يتعلق بالرعايا الجزائريين، خاصة رجال الأعمال، وهو الموقف الذي انتقدته الخارجية الجزائرية واعتبرت مساسا بالتعاون القنصلي بين البلدين، أو ذلك المتعلق بحجز ما لا يقل عن 30 طنا من المواد المتفجرة في ميناء العاصمة. ويبدو أن مجزرة كنيسة القديسين بالإسكندرية التي استهدفت أقباط مصر ووصفها الرئيس بوتفليقة في تعزية بعث بها إلى الرئيس حسني مبارك بالعمل الإرهابي، قد شجع البعض على تجديد التهمة للجزائر بشأن ما يسمونه بالتضييق على المسيحيين، حيث انتقد رئيس أساقفة تونس مارون لحام وضع المسيحيين في بعض الدول العربية ومنها الجزائر، وجاء ذلك في تصريح خص به هذا الشخص وكالة الأنباء الايطالية تحدث فيه عن انتشار »الكريستانو فوبيا« ببعض الدول العربية والإسلامية وذكر من ضمنها الجزائر، متهما ضمنيا حكومات هذه الدول بالخضوع للأفكار المتطرفة المعادية للمسيحيين، وهو التصريح الذي شجبته وزارة الشؤون الدينية بشدة على لسان المستشار الإعلامي لوزير الشؤون الدينية، عدة فلاحي الذي أكد بأن أسقف تونس يتحدث عن واقع بلد بعيد عنه لا يدرك حقيقته. وبطبيعة الحال فإن ما جاء على لسان أسقف تونس يندرج ضمن حملة مركزة تقاد من قبل جهات عديدة ضد العالم العربي والإسلامي، فالادعاء بأن الأقليات المسيحية تضطهد بالبلاد العربية والإسلامية، حملة تستغل بشكل فاحش الاعتداء الدامي ضد أقباط مصر، وتوسع من دائرة العداء بين المسلمين والمسيحيين وتبرر العدوان اليومي والمبرمج الذي يتعرض له الإسلام بالغرب منذ هجمات سبتمبر 2001.