"المواطنة والوطنية في فكر الدكتور محمد العربي ولد خليفة" الدكتور محمد العربي ولد خليفة، رئيس المجلس الشعبي الوطني الحالي، ليس الرجل الثالث في الدولة الذي يهتم بالسياسة فقطبل هو الرجل المفكر الذي ساهم و يساهم دائما حيثما يكون في الجوانب الفكرية والاجتماعية التي تخدم الدولة والوطن، هوالذي تقلّد المسؤولية باكرا منذ التحاقه بالمنظّمة السريّة لجبهة وجيش التحرير الوطني في سنمبكرة، وحتى لما تواجد بعدها في مناصب سياسية عديدةفي الدولة لم يمنعه هذاأبدا من المشاركةفي عديد الملتقيات والمؤتمرات العربية والإفريقيّة والأوروبيّة والأمريكيّة، بالعكس هذا جعله يكتبعديد الدراسات في مجالات الثقافة والمجتمع والتربية وعلم الاجتماع المقارن والسياسة، منشورة في الكثير من المجلات والدوريات جزائرية وعربية و أروبية. هذا الباحث الدائم عن الحقيقة و الذي نشر ما يقارب 19 كتابا، أغلبهااهتمت بتفكيك مشاكلالتربية و الفلسفة و التاريخ وعلم الاجتماع،وحتى عندماانشغلبالسياسة في السنوات الأخيرة بإدارته للمجلس الشعبي الوطني منذ 2012 إلى غاية اليوم، لكنه بقى دائما على صلة بالبحث والفكر من خلال مقالاته التي تنشر من حين الى آخر في مختلف الصحافة الوطنية، بالتالي السياسة بكل مطباتها و صعوباتها لم تستطع أن تثني الرجل عن متابعة مساره الفكري. وربما من محاسن ولوج المثقف إلى دهاليز السياسة هو نعمة أكثر منه نقمة، حيث هذا المسار جعل الرجل يضع أصبعه على الجرح بصيغة العارف بالأمر من داخله وليس من خارجه و هذا ما نلمسه جليا في دراستهالمعنونة ب "المواطنة والوطنيّة في المجتمع ومؤسساته القاعدية"، هذه الدراسة التي جاءت بطلب من اليونيسكو والتي أعدها الدكتور محمد العربي ولد خليفة وفقا لمعطياته وتجاربه كمثقف أولا و كأكاديمي وباحث في مواضيع علم الاجتماع والنفس ثانيا و كسياسي عارف بشؤون الدولة ثالثا. يشير الدكتور محمد العربي ولد خليفة في هذا الاطار أنه لن"يتطرق في مساهمته إلى الأدبيات الغزيرة حول مفهوم الوطنية والمواطنة وسياقاتها التاريخية، لأنها كانت ولا زالت مثار جدل بين أهل الفكر والذكر من الفقهاء من مختلف الأديان والمذاهب الفلسفية وعلماء القانون، و من التاريخ القديم والحديث يُعرف أن المفهومين السابقين قد يضيقان داخل البلد الواحد ويتحولان إلى طاردين للآخر المواطن بسبب العنصر أو اللون أو الدين وحتى المذهب والجنس، وقد يتّسعان فعلا أو فقط في إعلانات النوايا والديباجات كما جاء في إعلان استقلال الولاياتالمتحدة والثورة الفرنسية وما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر من سنة 1948". في نفس السياق يقول الدكتور ولد خليفة أن مطلب الحرية والحق في المواطنة الكريمة كان خلال ما يزيد على قرن وثلث جوهر كل المقاومات الشعبية ونضالات الحركة الوطنيّة وثورة التحرير، حتى أن مفهوم الوطنيّة كان ولا زال يعني المرادف للمواطنة والمساواة في أبسط معانيها الشعبية. وهنا يرى صاحب الدراسة أنه بالنظر إلى "التجربة التاريخية للمجتمعات واٌمتدادها إلى اليوم في أجيال ما بعد التحرير، فإن موضوع المواطنيّة يجد كل الترحيب والاٌهتمام من قبل الأغلبية من النخب العالمة والسياسية، فهي تتصل بجوهر الديمقراطية بدلالتها وممارساتها السياسية والاقتصادية والثقافية في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني." كذلك، يُعرّج الدكتور في طرحه على معاناة الأقليات والمهاجرين ما بعد الحرب العالمية الثانية من اضطهاد واغتصاب للأرض والحقوق كما هو "حال شعب فلسطين الذي يعاني من القمع والاضطهاد في صمت أو تواطؤ من بعض الموقعين على ذلك الإعلان التاريخي ، وفي معاناة الشعب الشقيق في فلسطين تذكرة وعبرة مؤداها أن لا مواطنة كاملة بلا وطن، إن الحرية تبدأ من حرية وسيادة الوطن، فلا وجود لمواطنة مجرّدة أو مواطن شامل يمارس نفس الحقوق في كل بلد مهما كانت الجنسية التي يحملها، وهو ما يتعرض له شعب الصحراء الغربية من اٌضطهاد وفرض للأمر الواقع من طرف التوسعية المغربية". ماهي العلاقة بين الدين والثقافة والمواطنية والديمقراطية؟ وتحت عنوان هام يطرح الدكتور محمد العربي ولد خليفة إشكالية هامة جدا و هي طبيعةالعلاقة بين الدين والثقافة والمواطنية والديمقراطية؟هذا السؤال الهام يجيب عنه بأن "تقلّص الانتماء إلى القبلية في الغرب وتعويضه باٌنتماءات أخرى تحت قبة المواطنية التي تحدّ من قوّة تأثير المذهب الديني والنحلة واللغة والثقافة الفرعية التي تمّ تذويبها في ثقافة مركز السلطة السياسية، كما تزايد في المجتمعات الغربيّة شكل يتجاوز ما يسمّى بالزّواج العرفي، نسمّيه نحن علاقة المساكنةأي الاتفاق بين رجل وامرأة على علاقة بينهما بدون اٌلتزامات من الطرفين وهو ما سيؤدّي على المدى الطويل إلى إلغاء مؤسسة العائلة الذي تحذّر منه الكنيسة الكاثوليكية". من جهة أخرى يأخذنا الدكتور ولد خليفةعلى بعض الدراسات المتخصّصة في شؤون المنطقة العربيّة والإسلامية الموجودة في الولاياتالمتحدة التي اٌتّجهت في السنوات الأخيرة إلى البحث عن العلاقة بين الديمقراطية ومكوّنات الهويّة في البلدان العربيّة والإسلاميّة، مثل الإسلام وثقافته ومستوى الدخل الوطني ونصيب الفرد منه ودفع الضرائب. يؤكد هناصاحب الدراسة إلى أن بعض تلك الدراسات انطلقت في بداية العقد الماضي من فرضيات صومويلهانتنغوتون وبرنارد لويس وقد تحولت هذه الفرضيات بسبب الجدل ما يشبه المسلمات وهي في الحقيقة مجرد وجهات نظر، وهنا يقول " لا ترقى إلى مستوى فلسفة للتاريخ، بقدر ما تخدم تفوق العم سام وتبرير حروبه الاستباقيّة خاصة في العالم العربي والإسلامي، وبالتالي فهي موقف إيديولوجي بثوب علماني. لقد نجحت قنبلة الدخان الصومويلية في إجلاس الكثير من أهل الفكرعلى أريكة التنويم المغناطيسي الفرويدي، فلا يكاد يبدأ لقاء في موضوع حوار الثقافات أو ندوة حول حوار الحضارات إلا وكان من محاورها مناقشة أطروحات هينتغتون". هنا أيضا لا يفوت الدكتور الإشارة إلى أحدى الدراسات الجامعيّة التي بحثت عن العلاقة بين الإسلام والثقافة والديموقراطية، ما نشره لاري دياموند من جامعة ستانفورد بعنوان لماذا لا توجد ديموقراطيات عربيّة؟ وهنا يشير الباحث أنه "قبل الموجة الثالثة للديموقراطية التي اٌنطلقت سنة 1974 لم يكن في العالم أجمع أكثر من أربعين دولة ديموقراطية وفي سنة 1990 اٌرتفع ذلك العدد إلى 76 وبعد خمس سنوات 1995 تضاعف عدد الدول الديموقراطية إلى 197 أي حوالي ثلثي بلدان العالم موزعة على مختلف مناطق العالم باٌستثناء البلدان العربيّة"، و يؤكد الدكتور ولد خليفة إلى أنّ الباحث لا يفسّر اٌستثناءه للمنطقة العربية بالإسلام ويرى أنّ عددا كبيرا من البلاد الإسلاميّة غير العربيّة تقدّمت خطوات معتبرة على طريق الديموقراطيّة، وحتى التديّن لا يعوق الديموقراطية. في نفس السياق يؤكد الدكتور أن العلاقة بين التربية والمواطنة هو السياسة التربوية والكيفية التي يتحقق بها التوازن والانسجام بين الهوية في بعدها الوطني من جهة والقيم الانسانية من جهة أخرىوهذا في اطار التوازن والانسجام الذييكون القيم الوطنية ذات البعد الإنساني ومن أسس العلاقة بين الفرد وما يعرف بالدولة الأمة، حيث تقوم على حقوق وواجبات يحددها الدستور وتسهر على احترامها مؤسسات منتخبة ابتداء من الجماعات المحلية إلى البرلمان، والمجلس الدستوري ومجلس الدولة. في نفس السياق يقول الدكتور محمد العربي ولد خليفة "المؤسسة التربوية ليست كيانا خارجيا في كلّ الأنظمة السياسية، فهي مرآة تعكس واقعها الثقافي والاجتماعي وموقعها في حركية التطور في عالمنا المعاصر، وهي مطالبة في نفس الوقت بإعداد جيل يمتلك من المعرفة والكفاءات ما يؤهله للحياة في مجتمعه واكتساب القدرة على التكيف مع متطلبات التغير السريع في كل المجالات في عالم لا يتحول من حولنا بل يتحول أيضا فينا أفرادا وجماعات، وخاصة بعد ثورة الاتصالات التي ألغت الحواجز والمسافات". وتحت عنوان المواطنية وخصوصيات التجربة التاريخية يحذر صاحب الدراسة من استحالة تجسّيد المشروع النهضوي في أي من بلدان المنطقة، إذا تم اغفال الخصائص الثقافية والتجربة التاريخية للشعوب، أو أذا تم الاستنساخ الآلي من تجارب الغير و عدمتكيّفها مع الواقع الاجتماعي كما يظهر في سلوكات الأفراد والجماعات. وهنا يشير الدكتور إلى خطاب رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة سنة 2008 دعى "إلى اٌستحداث رؤية متساوقة مع حقيقة ذهنيتنا لاٌستيعاب المواطنة، لا كسلعة جاهزة ونسق معدّ مسبقا تخضع له إرادتنا فنكون منفعلين دون وعي، بل أرى من الضروري الأخذ بالمواطنة، لا كأمر واقع، بل كمعطى للاجتهاد وكقضية تستوجب التأني والتدبّر للبحث والعمل فيها". هذا المشروع النهضوي الذي يجد بذوره في مشتلته الأساسية وهي المدرسة ونظام التربية الذي ينمو فيه مشروع المجتمع، حيث يؤكد الدكتور بأن الممارسة الأولى للمواطنة في الأسرة من خلال مرحلة التنشئة والتطبيع التي تترك صورة أولية عن الحقوق والواجبات كما يراها الطفل في العلاقة بين الأبوين وأفراد العائلة و حتى الأقارب، ويشير إلى أن هذه العلاقة في المجتمع التي قد تكون قائمة على التراضي أو قد تكون مبنية على السلطوية والتسلّط، و هذا ما يؤثر مستقبلا على ملامح ما ستكون عليه المواطنية والممارسة الديموقراطية في مؤسسات وهيئات المجتمعوبعدها يقول الدكتور أن منظومة التربية والتكوين التي يتلقى فيها جيل بأكملهأسس الهوية الوطنية ومرجعياتها الراهنة والتاريخية، حيث أن في" المدرسة ينطلق المُتعلم من خصوصياته المحلية نحو الوطنية الجامعة ومشتركاتها التي ينتمي إليها ثقافة وحضارة ويطّلع وقد يتقبل ما تقبلته الاٌنسانية من مبادئ ومثل، سواء أكان مصدرها الرسائل السماوية أو القوانين الوضعية". وفي الاخير يخلص الدكتور محمد العربي ولد خليفة إلى أنّ المواطنة تقوم على ركنين هما المعرفة والتربية باٌعتبار انهمايغذيان الفرد منذ نعومة أظافره و يتكون وعيه من مضامينها التعليمية، كما يؤكد أيضا على العناصر الأولية لتفعيل المواطنية و كذا المحاور التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام في التربية المواطنية في مجموعة من النقاط وهي// 1- ضرورة تنمية الوعي بالقيم الانسانية المشتركة، وإمكانيات الانتماء أولا إلى هوية وطنيّة لا علاقة لها بالعرق والسلالة، و هذا الاٌنتماء يكون ذو اٌمتداد تاريخي ثقافي و حضاري. 2- ضرورة تقديم التاريخ بمنهج البحث عن الحقيقة وعدم الاقتصار على التمجيد والتنويه. 3- ضرورةتضمن المناهج التربوية مقررا هو الدستور الذي يتضمن في ديباجاته وبعض بنوده أبوابا تتعلق بالمواطنة. وعلى سبيل المثال يتضمن الدستور الجزائري 41 مادة خاصة بحقوق المواطنة نصّت في مجملها على حقّه في الحريات الفردية والجماعية والكرامة وحقوق الانسان المقرّة دوليا وحريّة التعبير والمعتقد والحق في التعليم والمساواة بين المرأة والرجل والرعاية الصحيّة والعمل، أما الوجبات فقد خصّص لها الدستور الجزائري 10 مواد نصّت في مجملها على احترام القانون وحماية الوطن، وجاء في القانون التوجيهي للتربية الذي أصدره رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة بتاريخ 23-01-2008 ما يلي: "يتعيّن على المدرسة القيام على الخصوص بما يلي:تنمية الحس المدني لدى التلاميذ وتنشئتهم على قيم المواطنة ومبادئ العدالة وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات والتسامح واحترام الغير والتضامن بين المواطنين والسهر على تربية تنسجم مع حقوق الطفل وحقوق الانسان وتنمية ثقافة ديمقراطية (...) ونبذ التمييز والعنف وتفضيل الحوار". 4- يجب أن تقوم العملية التربوية على ترقية المرأة واكتسابها لحقوقها الطبيعة في كل المواقع ومراتب المسؤولية. 5- ضرورة اعطاء اهمية للتعليم الديني في المدارس لإبراز قيم المواطنة والسلم والتسامح وحرية المعتقد التي نصّ عليها الدين الاسلامي. ليختم الدكتور محمد العربي ولد خليفة بنتيجة هامة وهي أن"الأنظمة والمجتمعات سوف تصل إن آجلا أو عاجلا إلى تعايش سلمي وديمقراطي وتمارس فيه الشعوب حقوق المواطنة كاملة في دولة القانون وتستفيد من تجارب الامم الأخرى، وتتمثل المفيد منها بدون استنساخ آلي، وتتقبل النخب العالمة والحاكمة اختلافاتها الفكرية وميولاتها الإيديولوجية وتتنافس في ترقية أوطانها ورفاهيتها وتكون المواطنة الوقود الحيوي للوطنية في ظل دولة قوية بمواطنيها وليست قوية عليهم.