نلتقي اليوم في هذا المكان المبجل بكل خشوع وإجلال أمام أرواح الأبطال الذين قدموا حياتهم قربانا لهذا الوطن المفدى من أجل أن ينعم شعبه بالحرية والكرامة. في هذا المكان المقدس المليء بأسماء وصور هؤلاء الأبطال تنضم أرواحهم الزكية إلى أرواح كل شهداء الوطن لتناشد الأجيال الحاضرة والقادمة وتقول لها: "تحت كل شجرة ، تحت كل حجرة، في الجبال والوديان والشعاب ، في المدن والأرياف ، في البيوت والشوارع، في السجون والمعتقلات، سال دمنا من أجل الجزائر فحافظوا على الأمانة ، حافظوا على الجزائر" . إن هذه المنطقة بالذات تزخر بتاريخ حافل بالأمجاد تضرب جذوره في أعماق العصور وصولا إلى مرحلة الثورة التحريرية المجيدة التي يحق لأبنائها وبناتها أن يعتزوا بما حققته من بطولات ضد الغزاة يشهد بها العدو قبل الصديق والبعيد قبل القريب . كيف لا والقاعدة الشرقية لوحدها حسب إحصائيات تقريبية للمنظمة الوطنية للمجاهدين قد خاضت من 1954 إلى 1962 ما يقرب عن 200 معركة استشهد فيها الآلاف من المجاهدين والمجاهدات . وتأتي على رأس القائمة بلا منازع أم المعارك معركة سوق أهراس الشهيرة وهي بشهادة جنرالات فرنسا أنفسهم أكبر معركة خاضوها في الجزائر وألحقت بهم أعظم الخسائر. والسؤال الذي نطرحه بهذه المناسبة هو : ألا تستحق هذه الملحمة على الأقل فيلما سينمائيا بمستوى عظمتها يحكي وقائعها لتبقى نبراسا للأجيال ؟ السؤال يبقى مطروحا . نلتقي اليوم إذا بهذا المكان المقدس متحف المجاهد لمدينة سوق أهراس مدينة الأسود لنتعرض لمسيرة رجل من أعلام الجزائر المعاصرة كانت له وقفة مميزة في هذه المدينة في بداية الخمسينيات عندما تم تعيينه فيها على فترات من طرف جمعية العلماء المسلمين للتكفل بالتدريس وبث روح الوطنية في نفوس الطلبة استعدادا ليوم الحسم. فلا غرابة إذا أن نجد جل تلاميذه بولاية سوق أهراس في الصفوف الأولى ممن التحقوا بالثورة في بدايتها فمنهم من استشهد أمثال نور الدين جواد وأبو بكر الصديق وعوادي مالك رحمهم الله جميعا ومنهم ما زال على قيد الحياة أمثال الإخوة حمه شوشان وعمار بوحويه وعوادي أحمد الحاضرون بيننا اليوم أطال الله في عمرهم جميعا وجعلهم دائما قدوة لجيل الحاضر والمستقبل. دون أن ننسى ذكر الأخوات اللواتي تتلمذن على يده أمثال الأخت دريدي زهرة والأخت بلكبير جنات أطال الله في عمرهما. هذا الرجل هو أحمد بن محمد بورزاق المشهور والمعروف باسم الشيخ "بوروح". ولد الأستاذ أحمد بوروح في 14 أفريل 1920 بتكسانة بولاية جيجل حيث قضى فترة الطفولة و المراهقة في حفظ القران الكريم و نهل مبادئ علوم الدين واللغة العربية خاصة على يد الشيخ بلقاسم منيع الذي يعتبر الأب الروحي له. ولما بلغ عمره 19 سنة انتقل إلى تونس للحصول على المزيد من المعرفة وذلك سنة 1939 فالتحق بجامع الزيتونة الشهير والذي تخرجت منه عدة شخصيات جزائرية كانت لها بصمتها في الجزائر المعاصرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر المناضل الكبير محمد الشريف مساعدية والأستاذ والعلامة مولود نايت بلقاسم والأستاذ عبد الحميد مهري والصحفي والكاتب محمد الميلي والوزير الشيخ عبد الرحمان شيبان والوزير المثقف لمين بشيشي وغيرهم كثيرون. رحم الله من التحق به منهم وأطال في عمر الأحياء منهم. وفي الزيتونة ظل الطالب احمد بوروح يدرس لمدة سبع سنوات إلى أن نال سنة 1946 شهادة التحصيل. وفي تلك السنة انتخب بفضل مؤهلاته الأخلاقية والوطنية والعلمية من قبل الطلبة الجزائريين الزيتونيين رئيسا لجمعيتهم وهي الجمعية التي كانت تناضل على عدة جبهات. وعند مغادرته مدينة تونس عائدا إلى أرض الوطن ترك رئاسة الجمعية إلى زميله الشيخ عبد الرحمان شيبان. وفور وصوله إلى الجزائر استقبلته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأسندت له إدارة "مدرسة الحياة " بجيجل خلفا للشيخ محمد الطاهر الساحلي. فباشر مهامه ابتداء من السنة الدراسية 1946/1947 لينتقل بعد سنتين إلى معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة حيث راح ينشط ضمن زملائه إلى أن تم دمجه ضمن طائفة من العلماء وزعوا على العمالات الثلاثة "قسنطينة، الجزائرووهران" تنحصر مهمتهم في بث فضائل القرءان والسنة وزرع الوطنية الصحيحة في نفوس الطلبة. فعين في البداية الأستاذ "بوروح" لمدينة سوق أهراس وضواحيها ثم لبلدة "الطاهير" بجيجل لينتقل بعد ذلك إلى غرب البلاد مرورا بمدينة غليزان ووصولا إلى مدينة وهران. وبطبيعة الحال لم يكن هذا النشاط غائبا عن مسامع السلطات الاستعمارية التي راحت تبحث عنه ولكن تحت الاسم الشائع أي أحمد بوروح. وكلما وقع بين أيديها يتبين أن أوراقه الرسمية تحمل اسم أحمد بورزاق فيطلق سبيله. وآخر مرة وقع بين أيدي ضابط فرنسي وكان ذلك سنة 1956 في جيجل وبينما كان يستنطق في مكتب الضابط رأى قائمة المبحوث عنهم ومن بين الأسماء اسم "بوروح" مكتوب بالخط الأحمر مع ملاحظة "رجل خطير عدو لفرنسا". وفور الإفراج عنه وخوفا من أن لا يسعفه الحظ مرة أخرى فينكشف أمره قرر مغادرة المنطقة على الفور تاركا أولاده الصغار في كفالة جدتهم. فانتقل مباشرة إلى العاصمة أين مكنته جبهة التحرير الوطني من جواز سفر لمغادرة الوطن باتجاه مدينة تونس حيث كلف بإدارة لجنة الدعاية والصحافة بالناحية الأولى المنطقة الأولى التابعة لجبهة التحرير الوطني إضافة إلى مهمة تأطير نشاط فرع للاتحاد العام للطلبة الجزائريينبتونس الذي كان يرأسه آنذاك المرحوم المناضل مسعود آيت شعلال . ونظرا لشغفه الدائم وتعطشه لنهل العلم أينما وجد فقد عاد ثانية إلى جامع الزيتونة و سجل نفسه في الفرع الأدبي ليتحصل على الشهادة العالمية سنة 1958 ومنذ ذلك التاريخ تفرغ كلية للنشاط النضالي، مستعملا سلاحه المفضل : اللسان و القلم، فنجده ينتقل دون كلل من مكان إلى مكان يناقش و يحاضر في البلدان العربية وينشر مقالاته السياسية والعلمية والثقافية في الجرائد والمجلات العربية إلى أن تحقق استرجاع الاستقلال فيعود إلى الوطن ليمتهن وظيفته النبيلة والمفضلة عنده بلا منازع ألا وهي إيصال وتبليغ فنون العلم والمعرفة إلى الأجيال الصاعدة . فيعين أستاذا في آداب اللغة العربية بثانوية "ابن تومرت" ببوفاريك في ولاية البليدة. وبعد أربعة سنوات ينتقل إلى ثانوية "عقبة" بالجزائر العاصمة أين درس حتى سنة 1970 تاريخ استدعائه من طرف السلطات العليا لينضم إلى اللجنة الوطنية للبحث التربوي التطبيقي والتأليف المدرسي بالمعهد التربوي الوطني فأسهم بفعالية في إصدار سلسلة "المختار" في الكتب المقررة للتعليمين المتوسط والثانوي. وفي أواخر سنة1972 عاد من جديد إلى التدريس كأستاذ بثانوية "عمر راسم"بالعاصمة حيث مكث إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1985 لينتقل بعد بضعة أشهر إلى رحمة الله جراء مرض عضال وذلك يوم 05 جانفي1986. الجدير بالذكر والتنويه أن المرحوم كان يتميز بخصال يشهد له بها كل من عرفه. تعلم عدة لغات ودرس آثار أدبية يونانية وفارسية، بل حفظها بلغتها الأصلية وأصر على مواصلة الدراسة والبحث خاصة في تاريخ الجزائر فسجل نفسه في جامعة الجزائر وراح يبحث في المكتبات حيثما وجدت بمختلف أنحاء الوطن و في بلدان عدة مثل مصر و فرنسا و المغرب الأقصى وتونس يجمع المادة الضرورية لإنجاز عمل قيم بعنوان "الأدب في عصر دولة بني حماد" و هو العمل الذي توج بنيله شهادة الدكتوراه سنة 1976وتم إصداره في كتاب مرة أولى من طرف الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ثم مرتين من قبل الديوان الوطني للثقافة والإعلام الذي وزعه على المكتبات الوطنية وهو مشكور على ذلك. إلى جانب هذا الانجاز نحصي له أعمالا ثقافية وعلمية متعددة، منها ما تم نشره و منها ما يتم جمعه لإخراجه إلى النور في مؤلف قادم إن شاء الله، وهي عبارة عن مخطوطات في شكل مذكرات ومقالات سياسية وثقافية وعلمية، منها ما نشر على أعمدة الصحافة التونسية و الليبية و الجزائرية إبان ثورة التحرير ومنها ما كتب بعد استرجاع الاستقلال الوطني . فقد خلف الدكتور "بوروح" تحقيقا و تقديما إضافيا لإحدى الروائع الشعرية في الابتهال وهي قصيدة "المنفرجة" للعلامة أبي الفضل يوسف بن محمد المعروف بابن النحوي التوزري ، نزيل قلعة بني حماد التي عاش فيها إلى أن وافته المنية و قد تولى "أبو حسن البصري " شرح القصيدة التي تحتوي على 42 اثنين وأربعين بيتا مطلعها: اشتدي أزمة تنفرج قد آذن ليلك بالبلج وختامها: وإذا ضاق بك الذرع فقل اشتدي أزمة تنفرج. كما أن المرحوم خلف مذكرة مخطوطة هامة يحكي فيها بالتفصيل عملية ثورية مشهورة كشف بها منظمة سرية في الجوسسة بتونس كانت تستهدف قيادة الثورة الجزائرية و قد عنون المذكرة:"عش الحمام" . وفي ما يلي شهادات لعلماء أجلاء تعرفوا على الرجل ووقفوا على خصاله وما يتميز به من صفات حميدة . إضافة إلى التنويه بمناقبه الذي خصصه له العلامة أبو الحسن الفضلاء في كتابه المعنون : "علماء الإصلاح في الجزائر"، يقول الأستاذ الكاتب والمؤرخ محمد الصالح الصديق أطال الله في عمره، في كتابه المعنون"في شريط الذكريات" ،وهو يتحدث بإسهاب عن الشيخ أحمد بوروح مخصصا له 13 صفحة "من الصفحة 271 إلى الصفحة 283". يقول على وجه الخصوص: "هذا الرجل تحدد شخصيته ثلاث خصائص و مميزات : أولها: سعة العلم وحصافة الفكر والتثبت و التعمق في كل ما يقرؤه. ثانيها : الطموح وعشق الكمال، ثالثها: أنه يحب القراءة إلى أبعد الحدود وينتقي الكتب القيمة ويرى أن الوقت أنفس وأثمن ما يملك الإنسان ومن هنا فلا ينبغي أن تنفق منه دقيقة إلا في النفيس المفيد" . ويقول الأستاذ رئيس جمعية العلماء الجزائريين عبد الرحمان شيبان :"إن الشيخ احمد بن محمد بورزاق المشهور باسم أحمد بوروح هو أحد أعلام الجزائر المخلصين و أحد المصلحين الأفذاذ ، أديب مناضل وأستاذ لامع ، إرتمى في بحور العلم و الغوص في دقائقه منذ نعومة أظافره، عاش حياة نضال وكد محفوفة بالمآثر بسبب غيرته على دينه الإسلام و لغته العربية ووطنه الجزائر". وفي تقديمه لكتاب الشيخ أحمد بوروح، يقول الأستاذ والمؤرخ الدكتور العربي الزبيري "يعد الرجل من أعلام الإصلاح في الجزائر المعاصرة و هو يمتاز عن غيره بعدم الاستكانة للراحة و عدم الاقتناع بالقدر اليسير في العلم . وفي ما يخص رسالة الدكتوراه التي قدم لها يقول الدكتور العربي الزبيري :"هذه الرسالة تكتسي طابعا خاصا ولها أهمية بالغة تكمن أولا في كونها تعالج موضوعا لصيقا بتاريخ الجزائر انطلاقا من مراجع ومصادر عربية في معظمها وهو ما يعني أنها سالمة إلى أبعد الحدود من عبث الأنامل الغربية التي تفننت عن قصد أو عن غير قصد في تشويه الحقائق". وهنا أكتفي بهذا القسط من التقديم المتواضع لمسيرة الأستاذ الدكتور أحمد بورزاق وأنا على يقين أنني لم أف الرجل حقه وما ذكرت عنه إلا القليل آملا أن تكون لنا مناسبة أخرى نتعرض فيها بأكثر التفاصيل لمحطات هامة من حياته . أختتم إذا كلامي مقتبسا ما قاله سماحة الشيخ عبد الرحمان شيبان في حق الرجل وأمثاله بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الأستاذ أحمد بوروح:"إن التعرض لمثل هذه الشخصيات التي أثرت في تاريخنا لا نقصد منه أداء واجب الشكر لهم فحسب بل نقصد به تخليدهم والحيلولة دون نسيانهم ومحوهم من ذاكرتنا الوطنية".