يعتبر البغي والغباء والتهوّر، صفات مشتركة بين أنظمة الاستبداد، حتى إذا ما جاءها الطوفان على حين غرة، بدت كأضعف ما يمكن أن يكون عليه حال غريق، فهل فاجأ الشارع العربي الحكام حقا، أم أن هؤلاء كانوا متدثّرين بلباس الغرب مطمئنين إلى دفئه، وهم يعلمون أنه لا يقي من برد كمالا يستر عورة، لأن المكسي بالغرب هو أصلا عريان ؟ نجح النظام العربي في إحكام قبضته على الشعوب العربية، من خلال استثمار الإرث التحرّري، في إضفاء الشرعية على وجوده، وأدار الدولة الوطنية، بما يحقق للأسَر الحاكمة، مزيدا من الثراء، ويُلحِق ببقية المواطنين كثيرا من الخوف والجوع، من خلال آليات القمع البوليسية، التي تعتبر أشد إيلاما من أدوات الاضطهاد، التي استعملتها إدارة الاحتلال المرحّلة، وأنفق- من أجل الإبداع في القتل المتنوِّع- الأموالَ الضخمة من ثروات الأمة، في الوقت الذي ما فتئ فيه يدعوها إلى شدِّ الحزام، للخروج من أزمةٍ ما إن تلوح تباشير حلها حتى يدخله في أخرى، وتتحوّل معها مؤسسات الدولة إلى مجرد أدوات إطفاء للحرائق التي تشتعل هنا وهناك . أغلق النظام العربي نفسه على مجموعة من المستفيدين، الذين لا يرى منهم ولا يسمع، غير ما يحب أن يراه ويسمعه، وخرّب أرضية المعارضة، التي هيّأتها الشعوب بدمائها وتضحياتها جيلا بعد جيل، وظل واقع الشعوب يبتعد عنه شيئا فشيئا، وتدحرج المجتمع العربي نحو الأسفل، إلى أن سجل مستويات غير مسبوقة، في الظلم الاجتماعي والتخلف الاقتصادي والقهر الثقافي، في وقت حصّن فيه نفسه- أو هكذا يعتقد- بمجموعة من قوم »بني ويوي«، وهي التي أقامت بينه وبين الشعب، حائطا سميكا لا يمكن أن يسمع من ورائه، آلام الأمة ولا تأوهاتها المتصاعدة، كما لم يحس قط أن السيول الجارفة تحاصره من كل جانب . فكّك الحاكم العربي، عوامل قوة الجبهة الداخلية، التي تعتبر الرباط المنيع لأيِّ حكم عادل متطوِّر، وأحال النخب السياسية والثقافية الفاعلة، على البطالة أو التهميش أو التهجير، واعتقد أن القلة التي راحت تزيِّن له »الخلود« في الحكم، أنها تفعل ذلك من أجل خصال نادرة فيه، لن يجدها الشعب في غيره، وما درى أن تلك القلة إنما تفعل ذلك، للإبقاء فقط على مصالحها قائمة دائمة، والاستزادة في النهب، ونشر المزيد من الفقر بين الناس، وأنها ربما تكرهه أكثر مما تمقته العامة، حتى ظن »الزعيم« العربي، أنه فعلا مهدي الأمة المنتظر، الذي كلما حرّكته مشكلة اقتصادية أو مالية أو اجتماعية، راح يدعو مواطنيه إلى إعادة شدِّ الوسط، وتبرير حالة العوز التي ُيقْسِم أنه يقاسم رعاياه متاعبها، ويعيشها كأيِّ مواطن حتى ليبدو أنه مسكين لا حول له ولا قوة، يحتاج إلى لجان مساعدة مالية، أو جمعيات تسوّل وشحاتة، فإذا ما أُخرِج من الحكم، تبيّن أنه يُخزِّن من الأموال التي امتلكها بكل الطرق المشبوهة، ما كان يمكن أن ُينجِز بها برنامجا تنمويا ضخما منتجا للثروة، أو يسدّد بها نصيبا كبيرا من ديون وطنه، الذي امتص ضرعه إلى أن جف، وأحال فاتورة َديْن نظامه على الجيل الحالي وبقية الأجيال القادمة. لم يكن النظام العربي- في أي من أدائه- صدى لمن يحكم، كما ُيفترَض أن يكون عليه الحكم، بل جنح بالبلاد إلى هواه، بثراء فاحش وبذخ صارخ ، وبدا كأنه سليلٌ لحكمٍ ملكيٍّ أسقطه الشعب، أو وريث »شرعيّ« للاستعمار الذي طرده، وبذلك أسقط البلاد كلها في مستنقعات التخلف المميتة، وراح الشعب- إزاء هذه المحن- ُيجرِّب كل الطرق، التي يظن أنها تعيد له حقه في إدارة شئونه، والتمتع بخيرات بلاده والمشاركة في الدفاع عنها، فمن الانقلابات العسكرية، التي نكص فيها قادتها عن وعودهم له، إلى ديمقراطية الواجهة، التي رفعها سياسيون غشاشون استغفلوه في أكثر من منعطف، إلى التدمير الذاتي، من خلال الاستعانة والاستقواء بالقوات الأجنبية المدمّرة، حتى خرجت شبيبةٌ رمت اكتئابها جانبا، وهي لا تحمل غير هوى الوطن الأكبر، الذي بيع خردة إلى المصالح الغربية، لتفاجئ نظاما لازمه في طفولته وصباه وكهولته، ويخنق فيه أنفاسه، ويصادر له أحلامه بل كل مستقبله، حرّكت الشارع الراكد، وحوّلته إلى سيل جارف لا ُيبقِي أمامه ولا يذر. لقد سيّج النظام العربي نفسه، بترسانة بوليسية مجهَّزة بأحدث تكنولوجيا القمع، ومدرّب أفرادها أحسن تدريب على استعمال وسائل البطش، متشبعين بثقافة القتل والتنكيل وهتك الأعراض وهي التركة التي ورثها عن الاستدمار، وطورها بقسوة وبشاعة لا تُضاهى، وقد زاد عدد عناصر أمن النظام، حتى أصبح لكل عشرة مواطنين- تقريبا- عون بوليس واحد، يراقب حركاتهم ويسجل لهم أنفاسهم وتحرّكاتهم، ما ظهر منها وما بطن، في وقت قلّص فيه هذا النظام، عدد أفراد جيش الأمة إلى حدود دنيا، حيث لم يعد أمام قرابة الألف مواطن، إلا جنديّ واحد ووحيد، قليل العدة ضعيف العتاد، مما يعرّض أمْن الأوطان إلى مخاطر الاجتياح في كل حين، ويجعل الشعوب لقمة سائغة، لإعادة استعبادها متى شقت عصا الطاعة، عن نظام الإجحاف الدولي السائد، وطالبت بممارسة حقها في الحرية والحياة والحكم، والمساهمة في بناء الحضارة المعاصرة، غير أن هناك مناطق صحية في هذا الكيان المعتل، رغم اتساع رقعة المرض، كما أن هناك ُبقَعًا طاهرة رغم انتشار الروائح الكريهة، يجب تعزيزها والانطلاق منها لتصحيح الوضع أولا، وبناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية ثانيا، حتى ولو تخوّف منها الغرب الذي يخشى عن مصالحه، مما يسميه المتطرفين الإسلاميين، الذين لا يوجدون إلا في مصانع التخويف، التي أقامها منذ أن انفرد الغرب الجديد بالعالم. إذا كان النظام العربي أوجد -في دول عديدة- نفس أساليب القمع، وأنتج مظاهر التخلف ذاتها، وتكاد التأوهات الشعبية تكون واحدة في كل الأقطار، فإنه أيضا استطاع أن ُيحدِث -رغما عنه- حالة عربية فريدة فارقة في التاريخ السياسي العربي المعاصر، ابتدأت من تونس وتمدّدت إلى مصر، ويعتقد أكثر المتفائلين ببقائهم في الحكم، أن ريحها ستحمل الأعاصير لقصورهم، ولن تهدأ إلا بعد اجتثاث كل غثٍّ ليس له جذور في الأرض ولا امتداد في السماء، وكان الشباب الذي تم تعطيله ردحا من الزمن، قوة دفع المجتمع نحو الأمام، حطّمت في تونس- كما في القاهرة- أصناما لم يكن بمقدور أجيال متعاقبة سابقة، أن تقف في وجه"ربوبيتها"وأعطى درسا بليغا عظيما، يجب أن يعيَّه الحكام قبل غيرهم، لأن الجيل الذي زعزعت صرخته عرشيْ الرئيسيْن، الأقوى تسلطا وقهرا واستبدادا وتفريطا في الحق العربي، سبقت كل المؤسسات القائمة، سواء كانت حزبية أو مدنية أو تنفيذية، واستطاع جيل الإعلام الاجتماعي، من أنترنت وفايس بوك وتويتر، أن يلغي حالة الطوارئ، ويتغلّب على إمبراطوريات الدعاية والتضليل وكبت الحريات، واختط بدمه بداية انتهاء عصر الديكتاتوريات العربية، ولا أظن أن صداها سيزول إلا بعد اقتلاع الأوتاد التي تشد المجتمع العربي إلى الخلف، وتعيد الدولة إلى وضعها الطبيعي، كسلطة أمن وتنمية لا سلطة تسلط وسرقة، ويبدو أن السلطة التي طالما اغتصبتها صناديق الاقتراع المزوّرة، أصبحت تختار اليوم في الشارع الأكثر حضورا وتأثيرا في المشهد السياسي، ولن ينفع الهاوية َبهم أقدارهم خياراهم، اللذان طرحوهما كقدر لشعوبهم لا ثالث لهما׃ إما أن يكونوا أو ليكن بعدهم الخراب، لأن المد الشعبي القادم من كل زوايا المجتمع، فرض الخيار الثالث الذي طال انتظاره ׃ لن تكونوا ولن يحدث بعدكم الخراب، وكما لم تفد المؤازرة الرسمية، التي قدّمت لحاكم تونس الساقط قبل السقوط، فإنها لن تمنع حاكم مصر المتهاوي تحت أقدام الشعب الثائر، من النهاية التي رسمها له الشباب المصري، الذي كشف- باحتجاجه كما فعل شباب تونس- حجم التفريط في الحق العربي لحاكميْ العاصمتيْن، وإلا كيف نفسِّر الرعب الشديد الذي اجتاح الإدارة الصهيونية، وإعلانها حالة التأهّب عقب سقوط النظام التونسي، ورفعها إلى درجاتها القصوى مع اهتزاز النظام المصري، إن لم يكن النظامان حققا لها في فترة وجودهما، ما لم تستطع تحقيقه منذ نشأتها على حساب الشعوب، وكانا حارسيْن أمينين لها، يمنعان عنها ما كان يجب أن يلحقها، نتيجة المناكر والمجازر التي تعرضت لها الأمة، ولكن الجيل الجديد من العرب، الذي بدأ غضبه من تونس ولن ينتهي في مصر، هو وحده مَن يعيد صياغة الوطن العربي.