وصل العنف في ليبيا درجة التعفن، وبلغ مستوى أصبح معه التدخل الأجنبي واحتمال انتقال الخطر إلى دول الجوار، خصوصا الجزائر يثير مخاوف جدية. فالمخزون الهائل من السلاح الذي أصبح بين أيدي القوى المعارضة لنظام القذافي، واحتمال استفادة التنظيمات الإرهابية من هذا السلاح، فضلا عن المؤشرات المخيفة حول احتمال تحول ليبيا إلى »أفغانستان جديدة« في شمال إفريقيا.. كلها معطيات زادت من تحرك الدبلوماسية الجزائرية خلال الأيام الأخيرة. لا يزال الوضع المتردي في الجارة ليبيا، جراء انتشار المواجهات بين كتائب القذافي والمعارضة المسلحة، يشكل الموضوع الرئيسي الذي يشغل جل وسائل الإعلام المحلية أو الدولية، فالاقتتال المتواصل، وحالات الكر والفر التي تميّز المواجهة بين الكتائب الأمنية الحكومية وبين المتمردين المسلحين تكلف المواطنين العزل الكثير من المآسي، بحيث زاد عدد الضحايا في الأيام الأخيرة، وزاد معه التدهور على المستوى الصحي والإنساني عامة، ويبدو أن استهداف مصفاة النفط وتفجير صهاريج تخزين البترول أصبح ينذر بكارثة اقتصادية وبيئية يدفع الليبيون ثمنها باهضا. ويبدو أن نظام العقيد معمر القذافي، والكتائب الأمنية التي يقودها أبناؤه قد شرعت فعلا فيما أسماه الزعيم الليبي بالزحف، وقد تمكنت القوات الحكومية من استعادة العديد من المناطق التي كانت بين أيدي المعارضين أو من يسمون ب »الثوار«، ما يعني بأن التحذيرات التي أطلقها القذافي، ثم تلك التي أعلن عنها نجله سيف الإسلام خلال أحاديث صحفية أدلى بها لوسائل إعلام دولية، هي حقيقية وليست مجرد محاولة لتخويف المسلحين أو خوض حرب دعائية فحسب، فاستعمال الطيران والمدفعية زاد بشكل لافت في الأيام الأخيرة، علما أن سيف الإسلام القذافي كان أكد بمنتهى الصراحة بأن الوقت هو للزحف، ولا مجال في الوقت الحالي للحديث عن التفاوض مع المعارضين، ما يعني بأن النظام الليبي يسعى جاهدا لقلب الكفة في الميدان لصالحه قبل أي تدخل عسكري أجنبي محتمل، وقبل فرض منطقة حظر جوي قد تعيق الكتائب الأمنية الرسمية وتمنع عليها الاستفادة من الطيران الذي يبدو أهم نقاط قوة النظام الليبي. ولعل الجديد فيما يتعلق بالأزمة المستفحلة في الجارة ليبيا يتعلق بمسألتين في غاية الأهمية، مسألة التدخل الخارجي، ومسألة »القاعدة« ودورها فيما يحصل في ليبيا واحتمال استغلالها للوضع في جماهيرية القذافي لتقوية نفوذها في كامل المنطقة. اعتراف باريس بالمجلس الانتقالي في ليبيا، وتأكيد رئيسة الوزراء الألمانية ميركل بأن القذافي، الذي طلبت منه التنحي فورا، لم يعد يمثل الشعب الليبي، والتلويح المتواصل سواء من الأوربيين أو من واشنطن باستعمال الخيار العسكري، خاصة بعد توجيه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الطلب إلى الدول الغربية بضرورة توجيه ضربات تستهدف كتائب القذافي وتدمر قدراته الصاروخية والطيران، كل ذلك شكّل مادة دسمة للنقاش. فالتدخل الأجنبي الذي يدعمه العرب عبر الجامعة العربية، قد يتحوّل إلى سلاح خطير ينفجر بين أيدي المعارضة المسلحة في ليبيا. فهذه المعارضة التي قدمت نفسها ممثلة للشعب الليبي وتطلعاته في الحرية والديمقراطية قد تتهم، كما حصل للمعارضة العراقية من قبل، ب»العمالة للأجنبي«، وبأنها تخدم أجندة أمريكية وإسرائيلية وغربية، حتى أن سيف الإسلام القذافي، الذي يبدو أنه قد أحس بأهمية استغلال استنجاد المعارضة بالخارج، قد حذر النيتو وفرنسا وواشنطن على وجه التحديد، مؤكدا بأن الليبيين لن يستقبلوا عساكرهم بالورود، مما يعني بأن ليبيا قد تتحوّل إلى مقبرة للغزاة الغربيين حتى وإن كان غزوهم، كما كان الحال في حرب العراق، تحت مزاعم تخليص الشعب الليبي من العقيد معمر القذافي ونظامه. لقد اتهمت الجزائر بالولاء للقذافي ونظامه، واستغلت المحنة الليبية من قبل قوى معروفة لتوريط الجزائر فيما يسمى بقضية المرتزقة التي زعمت بعض الأوساط المعارضة للقذافي بأنه يجري نقلها من بعض دول جنوب الصحراء كمالي والنيجر وبوركينافاسو لقتال المعارضين في ليبيا، وكان على هؤلاء أن يركزوا بدل ذلك على الانفلات الأمني وحالة الفوضى المسلحة والحرب الطاحنة الجارية في ليبيا والتي جعلت البلد عرضة لكل التدخلات الاستخباراتية وقوى إرهابية تريد الاستفادة من الأسلحة المنتشرة دون رقابة لإيجاد موطئ قدم لتنظيم القاعدة بليبيا، أو لإدخال السلاح إلى معاقل الإرهاب بالجزائر والاستفادة منها في النشاط الإرهابي بمنطقة الساحل الصحراوي، والواقع أن ما قاله القذافي حول ضلوع القاعدة فيما هو حاصل في ليبيا ليس كله دعاية مضادة، ففي كلام الزعيم الليبي الكثير من الصحة، وما جاء على لسان وزير الخارجية مراد مدلسي يؤكد فعلا هذه المخاوف، حيث أكد مدلسي صراحة بأن الحاصل في ليبيا قد يتجاوز الحدود، وأوضح بأن الجزائر قلقة من احتمال استغلال القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي للوضع في ليبيا والاستفادة منه والحصول على أسلحة ثقيلة وربما كيماوية أيضا. بالتوازي مع هذا الوضع الأمني والإنساني الخطير الذي تعيشه ليبيا، يبقى مشكل الاحتجاجات يخيم على الجزائر، خاصة في ظل عدوى ما يسمى ب»الثروات العربية« التي تزحف بسرعة على العالم العربي، والظاهر أن السلطات الجزائرية تتعامل بسرعتين مختلفتين مع خطر الانفجار الاجتماعي، وتواصل الحكومة، تنفيذا لتوجيهات رئيس الجمهورية، الكشف عن إجراءات هامة تتعلق بمختلف مناحي الحياة، تندرج ضمن مساعي التهدئة الاجتماعية، ويلاحظ من جهة أخرى بان هناك نوع من التحفظ فيما يتصل بتسريع وتيرة الدمقرطة، فوزير الداخلية دحو ولد قابلية عاد مجددا إلى موضوع اعتماد أحزاب جديدة، واستعمل أسلوبا قد لا يساعد في إيجاد فسحة للتهدئة مع الطبقة السياسية، خاصة في ظل محاولات كسر الحظر على التظاهر في العاصمة التي يقودها التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الذي أصبح المتزعم لوقفات السبت والتي قد تشكل ربما منطلق لأحداث عنف إذا لم تحسن السلطة التعامل معها، خاصة بعد إعلان الأرسيدي عن تعليق عضويته في البرلمان، ما يعني أن الحزب قرر إخراج نضاله السياسي إلى الشارع ورفض استعمال منبر الهيئة التشريعية. وتبدو التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية لوكالة »داو جونس« والتي قال فيها بأن الرئيس بوتفليقة يسوف يواصل عهدته إلى نهايتها في 2014، وأنه يتمتع بصحة جديدة، كرد على ما تروّج له بعض وسائل الإعلام الأجنبية التي تريد تكرار سيناريو تونس ومصر، وربما سيناريو ليبيا في الجزائر، فهذه القوى تتحدث عن التغيير من وجهة نظر ضيقة قائمة على الانقلابات وإسقاط الرؤساء حتى لما يكون هؤلاء الرؤساء منتخبين ديمقراطيا من قبل شعبهم، ويغفلون على مسائل في غاية الأهمية تتعلق بالجهود التي تبذل في إطار الدمقرطة وتوسيع مجال الحريات، أو في إطار التنمية وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين. هذه القوى الأجنبية تتعامل بمقاييس مختلفة وتكيل بأكثر من مكيال مع حركة الجماهير في الوطن العربي، فهي تسخر من تصريحات القذافي أو علي عبد الله صالح في اليمن وتتحامل بشكل صريح ضدهما، وتتفهم الوضع في البحرين، خوفا من وصول الشيعة إلى الحكم في هذا البلد، وتتعاطف مع الملك محمد السادس وتهلل لخطابه الأخير الذي أعلن فيه عن مراجعة عميقة في دستور المملكة يعطي صلاحيات واسعة للحكومة بحيث يصبح البرنامج الذي تطبقه هو برنامج رئيسها وبرنامج الحزب الذي يفوز في الأغلبية وليس برنامج جلالته، وهي بطبيعة الحال تشكل مخرجا للملك، ووسيلة لتفويت الفرصة على المغاربة الذين يريدون تحريك الشارع المغربي للتخلص مما يسمونه بالاستبداد الممارس من قبل نظام المخزن، هو ما عبر عنه أمين علام حزب النهج الديمقراطي لما أكد بأن مبررات ما اسماها ب »الثورة«، قائمة بالمغرب، وأن الاستبداد الممارس في مملكة جلالته لا يختلف عن استبداد بن علي في تونس ومبارك في مصر إلا من حيث أنه استبداد بأساليب ملتوية.