قارب المائة من العمر وما زال يقوم بنفسه على شؤونه الضرورية الخاصة.. يكابد عناء الشيخوخة مع أولاده وأحفاده بعد أن سبقته زوجته إلى الدار الآخرة قبل عدة سنوات.. صابرٌ وشاكرٌ دائما، وعندما أسأله عن حاله يحمد الله على ما فيه من خير ثم يعلّق على مظاهر التعب البادية عليه بقوله: على الذي أكل سهمه أن يغمض عينه عمّا في أيدي غيره. إنه شيخ مجرّب عاش أيام الاستعمار والمجاعات والأوبئة وساهم في الثورة بماله ويده، وصار بعد الاستقلال أحد وجهاء منطقته المعروفين عبر خدمة الصالح العام والإصلاح بين الناس.. إنه باختصار كتاب كبير الحجم من التجارب والحكم والقصص والوقائع مع أنه أميّ لا يعرف من القراءة والكتابة إلاّ الشيء اليسير.. الشيخ يستحضر قصة السهم من حياة الأسفار في الماضي حيث كان الرفاق يستريحون في طريقهم لأجل الغداء أو لطهي صيد اقتنصوه أو غنيمة أصابوها، وفي مجلسهم يقسمون ما بين أيديهم ليأخذ كل واحد سهمه، فإذا أكل قسمته ونصيبه المفروض له تمنعه الرجولة والمروءة وسموّ النفس من النظر إلى ما في أيدي غيره، وإذا تحركت شهوة النفس لجمها بقوة. لنترك الشيخ وشأنه مع شيخوخته الهادئة بين أولاده وأحفاده، وحتى أحفاد أولاده.. يشعر بالراحة والقناعة التامة والطمأنينة لأنه لا ينظر إلى سهم غيره كما يحلو له أن يردد دائما.. نتركه لنتحول إلى ذلك الجدل الكبير والأحاديث الطويلة حول التعديلات الدستورية والإصلاحات السياسية التي ستشرع فيها بلادنا بعد أن أعطى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إشارة الانطلاق خلال خطابه الأخير. حزمة إصلاحات مزمعة في قانون الأحزاب والانتخابات والإعلام والجمعيات والولاية وغيرها.. والمأمول طبعا أن تؤدي إلى تهدئة الأوضاع المرشحة للغليان عبر سكب بلسم الطمأنينة على النفوس الثائرة الغاضبة التي فاضت كؤوسها بعد أن امتلأت بأخبار الفساد والمفسدين وإهدار المال العام.. يحدث ذلك، وهو ما زاد الطين بلّة، وسط عجز (رعاية) المجالس المنتخبة الوطنية والمحلية ووقوفها مكتوفة الأيدي إلا من مبادرات إنشاء الهيئات واللّجان الخاصة بمكافحة الفساد.. لجنة تلد من رحم لجنة، بينما يتزاوج الفساد ويتكاثر. لجنة مراجعة الدستور سترى النور في وقت قريب، حسب بعض المصادر، وهو مؤشر على أن العناصر الوطنية النظيفة عازمة على المضي في طريق الإصلاح والتغيير.. اللجنة ستتشكل من الأحزاب السياسية المعتمدة ومنظمات المجتمع المدني والخبراء الدستوريين والمنظمات الجماهيرية الفاعلة.. والخلاصة أن في الآفاق القريبة إصلاحا حقيقيا، لكن النتائج الأولية ستظهر في الاستحقاقات الانتخابية القادمة سواء المحلية أو البرلمانية، حيث يأمل المتفائلون، ونتمنى أن يزداد عددهم، أن تقصي التغييرات الجديدة جميع العناصر التي انتهت صلاحيتها منذ فترة طويلة ولم تعد نافعة لنفسها فضلا عن غيرها، والبديل هو تلك العناصر النظيفة التي تملأ البرلمان والمجالس المحلية نشاطا حقيقيا وسعيا دؤوبا لخدمة الوطن والمواطن أولا وأخيرا. ولأن النتائج تحكمها المقدمات، فإن لجنة مراجعة الدستور، وأي لجنة للإصلاحات، لا بد أن تضم وجوها جديدة في أفكارها وأعمارها ومواقعها ومواقفها السياسية والتغييرية، وإلا فإننا لن نفعل الشيء الكثير، وتظل دار لقمان على حالها في الجوهر عدا بعض الرايات والزينة والديكور والألوان التي لا تغيّر من حقيقة الأمر إلا اليسير. جدل يدور حول النظام الذي ينبغي أن تُصوّب حوله اللجنةُ أهدافَها، وهل يظل رئاسيا أم يتحول إلى شبه رئاسي أو يقفز مباشرة إلى النظام البرلماني.. ومع كامل الاحترام لأصحاب جميع الآراء والمساندين لهم؛ فإن الخلاف يظل شكليا إذا صوّبنا جميعا على الجوهر وهو الوصول إلى دولة الحريات الكاملة وسيادة القانون والقضاء المستقل القوي الذي يقف أمامه الجميع سواسية، دون أيّ حصانة لأحد كائنا من كان. وعودة إلى ذلك الشيخ وكلامه وقناعته ندرك أن الإصلاح المنشود هو الذي يضع معايير واضحة وجريئة تفرز قوى وعناصر جديدة وتوصل الشباب إلى مواقع التأثير والحكم فتضع سكّة البلاد على طريق التغيير الفعلي، وهكذا نجد أنفسنا على أبواب مرحلة جديدة يختفي فيها أولئك الذين أكلوا كثيرا ولم يشعروا بالشبع بسبب الجشع والأنانية، وحتى أولئك الذين تربّعوا على كراسي المسؤولية وخدموا وحافظوا على نظافة أيديهم، فقد آن لهم أن يغادروا لنفسح المجال للأجيال الجديدة حتى تظفر بشرف المساهمة في بناء الوطن، فحبّه والتفاني في خدمته حق مكفول للجميع. إن الظروف الداخلية والخارجية تدعونا إلى إصلاحات تفضي إلى غرس ثقافة الاكتفاء بالسهم الواحد وإغماض العين عن أسهم الآخرين قناعة وخلقا وشهامة.. إصلاحات تؤسس لضوابط وقوانين صارمة تلجم الشهوات الحيوانية الأنانية التي تتحرك بوحشية للاستيلاء على أسهم الآخرين في الحكم والمال العام والحريات وغيرها. يتحدث بعض المتشائمين عن أطراف مشبوهة تحاول ركوب موجة الإصلاحات دون قناعة ورغبة وتهدف من وراء ذلك إلى تأجيل التغيير الحقيقي.. والأمل معقود أن تكون تلك الأطراف في طريقها إلى (التوبة) التامة من أدران الماضي، لأن الزمن تغيّر ولم نعد في حاجة كبيرة إلى الغوص في موسوعات التاريخ؛ فما تمطرنا به وسائل الإعلام على المباشر صار تجسيدا حيّا لأحداث الماضي عبر شخوص الحاضر، وفيه دروس وعبر عظيمة لكل من به بقية عقل، فكيف بالعقلاء وحتى أنصاف العقلاء من هؤلاء وأولئك. إن الطبيعة لا تعرف الفراغ أبدا، وقد امتلأت الأجواء في العقود الماضية بثقافة التبرير والتصفيق للزعيم، وتلك الثقافة الجوفاء في طريقها إلى الزوال التام من عالمنا العربي، والبديل هو مصطلحات وتطبيقات المساءلة والمحاسبة والمشاركة والتداول الحقيقي على الحكم.