تلقت الجزائر برقية عاجلة من مصالح الأرصاد الجوي السياسي، أكدت أن زوابع سياسية مصحوبة بعواصف اجتماعية، بدأت تتشكل بسرعة في السماوات العربية، وقد ضربت كثيرا من عواصمها، ويمكن أن ُتصبِح إعصارا مُدمِّرا، فأسرع الحريصون على أمن الجزائر إلى إقامة ما يشبه السدود والحواجز والمتاريس لتأمين البلاد من هوْل ما قد يحدث، واستجاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى نداء الاستغاثة بإعلانه إصلاحات سياسية سريعة، بدأها برفع حالة الطوارئ، وواصلها بإقامة خلية استماع أو إصغاء لمختلف مكوّنات المجتمع، تحت اسم هيئة المشاورات حول الإصلاحات السياسية، قبل الانتقال إلى المرحلة التي يعتقد الجزائريون أنها وحدها التي ستخرجهم من حالة الانسداد التي طالت، وهي تحاصر مؤسسات الدولة وتغتال في الناس- مهما كانت مستوياهم الثقافية والاجتماعية والسياسية- آمالهم في المستقبل، بتعفين الحاضر بكل أنواع أوبئة الفساد المالي والسياسي والأخلاقي، وتكون فيها الرقابة الشعبية حقيقة تُرَى، وتحافظ على جهد المجموعة الوطنية وترْعَى المال العام وتُرشِّد عمل الدولة. إذا كان من الموضوعية ألاّ نستبق نتائج ما يجري في قصر المرادية، فإن المؤشّرات الدالة على النتيجة قد أوْجَس خيفةً منها المتتبّعون الصادقون في رؤيتهم الجزائر وقد جنحت إلى شاطئ الأمان، بعد كل الذي عاشته من اضطرابات كادت تُغرِق السفينة بمَن وما فيها، وقد يكون مصدر خوفهم أن الغادين على لجنة السيد بن صالح، هم تلك الوجوه التي أحرقها الجزائريون في صناديق الاقتراع عبر أكثر من موعد، واختفت من المشهد السياسي حتى نسوها ما تناسوه من آثام سياسية أفرزت جرائمها في المجتمع والدولة وإن كانت في نظرهم أرانب »مشروعة« سابقا في سباق كان على الجزائر أن تقطعه يومئذ، للخروج من دوامة الدم وانتهت في محطات معلومة سابقة من مسيرة الجزائر المتصالحة، لكن أصحاب تلك الوجوه عادت وهي أقل من أرنب، بعضها مُتابَع قضائيا حتى من طرف زملائه في شقتهم الحزبية، وبعضهم لم يستطع المحافظة على البيت العائلي كما تفعل كل العائلات السليمة فحوّله إلى دكانيْن سياسييْن مفلسيْن ينتعشان في المناسبات الانتخابية فقط، وبعضهم الآخر توارى مدة من الزمن بعد حظوة كبيرة نالها من النظام أو غضبة أصابته لعناتها منه، فهل يمكن لهؤلاء أن ُيثروا حوارا جادا ومصيريا لجزائر يرفض أبناؤها حالة التوقف التي فرضها عليها مَن لا يريد خيرا لها. إن البيئة الإقليمية والدولية السياسية، تفرض نوعا آخر من ديناميكية مؤسسات الدولة، تمتاز بتعايشٍ حقيقيٍّ بين الرأي والرأي المخالف، خاصة بعد أن أعلنت -جهارا نهارا- الإمبراطورية الأمريكية ،أنها استبدلت مساندتها للحكام بمساندة الشعوب إذا ما ثاروا على مَن يحكمهم، ولن يتأتّى الحفاظ على توازن المجتمع وبقاء الدولة، إلا باعتماد إصلاحات يشترك في بنائها نوعان أساسيان يُفترَض أنهما يُعبِّران عن رغبة معظم الجزائريين، ومِن ثم يُجنِّدانهم في أيِّ مخطط تعلنه الدولة، ويُحمّلانهم المسئولية فيما يقع نتيجة الحراك الذي تفرضه العملية׃ 1- خبراء في القانون ممَّن هم بعيدون عن دوائر التحزّب أو الارتباط السياسي المصلحي بهذه الجهة أو تلك، من أجل خلق آليات تفعيل منظومة القوانين من جهة، وحماية ما يُستجَد من قوانين إصلاحية، وقد يُوصُون- في أول ما يفعلون- بإعادة قراءة الدستور- باعتباره أب القوانين- قراءة تنقله من حالته الموسمية إلى حالة دائمة، لا يتغيّر فيها مع تغيُّر الرجال أو تغيير الحكومات. 2- سياسيون لم ُيصِبهم داءُ الفساد، سواء كانوا قادمين من خندق الراديكاليين الذين أصرّوا على البقاء في »محراب« المعارضة منذ استعادة الدولة استقلالها، أو ممن التصقوا بالسلطة إلى مستوى قالوا معه إنهم لا يرون فائدة لهم خارج غرف تلك السلطة، مع اجتذاب نخب جديدة لم تُفسِد فكرَها لوثةُ التحزّب أو يغريها بريق الريع، وبذلك نكون أمام فِعْلٍ جاد لن تنتج عنه سوى مؤسسات مختارة فعلا من الأغلبية لصالح الجميع، وهي الضامن الوحيد لتجاوز كل الصعوبات التي يمكن أن يدخلها المجتمع، والخروج من الأزمات التي يمكن أن تمر بها الدولة، إلا أن هناك سؤالا يطرح نفسه، بل ُيعَد أكثر الأسئلة إلحاحا: هل هذه الوجوه التي تتوافد على رئاسة الجمهورية هي مَن ُيمثِّل الشعْب حقيقة ؟ قد يرد أحدهم بالقول: لو كانت الإجابة بنعم، ما كانت كل هذه المشاكل المتراكمة التي رأيناها ونعيشها، وما كان للرئيس أن ُيعلِن عن حزمته الكبيرة من الإصلاحات وقد جاءت في الوقت الخطر من حياة الأمة، لأن الجزائر هي- كما عبّر بعضهم- أشبه ما تكون بالسيارة التي تسير بالليل في طريق صحراوي مطفأة الأنوار. قد يُوحِي اقتصار الحوار على نفس النماذج والوجوه بأن الأغلبية الغالبة من المواطنين ستظل غائبة وستكون نتائج أسابيع من الاستماع والإنصات- ربما- معزولة مهما كانت النوايا حسنة، ولن تُلزِم الغائبين في شيء، بل ستعطيهم مبرِّرا للتّبرُّؤ مما قد يحث للمجتمع والدولة، ذلك أن الأحزاب جاءت وهي متصدِّعة على نفسها من هوْل ما فعلت وقد تكمّش تمثيلها الشعبي إلى الحد الأدنى، والجمعيات أتت وهي في معظمها مجرّد سجلاّت تجارية يتقاسم فوائدَها المنتفعون من وجودها بغير وجه حق، والشخصيات "الوطنية"حضرت وهي- في أغلبيتها- تحمل آثار الاتِّساخ الذي آذى البلاد والعباد خلال المأساة الوطنية ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن جُل ما جاء به هؤلاء وأولئك، كان عبارة عن مطالب نفعية أو ردّات فعل آنية أو انتقادات مجرّدة تتتبّع عورات النظام، ولم ترق- حسب ما تسرّب من معلومات- إلى مستوى المقترحات التي تؤسس لانتقال حقيقي من وضعية مضطربة حرجة إلى أخرى ثابتة مريحة تسعى إليها الجزائر، فهل يمكن اعتبار ما يجري- تبعا لديكوره المُشاهَد- إيذانا بميلاد فكر سياسي جديد، يقوده سياسيون محترفون يُسطِّرون مخططات مشاريعهم من زوايا المجتمع بكل مقوِّماته وطموحاته، أم أن العملية لن تكون إلا أرضا خصبة لظهور شكلٍ من أشكال الهواة السياسيين، الذين تدفعهم المصالح الشخصية والفئوية إلى التّلهي عن المهام الكبرى للأمة، وليس لهم من عمل سوى قطع الطريق في وجه أيّ إرادة للإصلاح، وإبطال مفعول أدوات أيّ جهد يُمكِن أن يُحوِّل الإرادة الصادقة إلى واقع معيش ؟!؟