تحل على الشعوب العربية، الذكرى الرابعة والستون لنكبة الشعب الفلسطيني، وهو غارق في شتاته هذا العام، بعدما توارثت أجياله المتعاقبة، الهجرة المتحرِّكة والضياع المقيم بعيدا، ولكنها ورثت- من جملة ما ورثته عن الجيل المُهجَّر الأول- مفاتيح الديار القديمة المنقوشة في الذاكرة، وإصرارا -لم تنل منه السنون-على الرجوع يوما كلٌّ إلى منزله الذي لم تستطع جرافات الصهيونية، ولا قرارات العالم الظالمة إزالته من خارطة الوجدان والعقل الفلسطينييْن، وربما تكون مخيمات الشتات- التي هي علامة مسجَّلة للعجز العربي، عن استرداد الحق الذي أضاعه فساد السياسة وسياسة الفساد وأكبر شاهد على ظلم العالم »الحر« للشعب الفلسطيني، وأخزى خصلة تلاحق البشرية خلال عصرها الحديث- قاعدة انطلاق الفلسطينيين إلى وطنهم، يوم تُخرِج الأرض بركانها على المغتصبين، وقد يكون رمز إعطاء نقطة البدء به ماراطون العودة الرياضي، الذي يتسابق المشاركون فيه، على بلوغ النقطة التي سيصلونها اليوم أو غدا، خاصة ما داموا يحظوْن بتأييد أحرار الغرب، من أمثال داعية إرجاع الحق الفلسطيني إلى أهله، البريطاني جورج غلاوي، الذي تُعتبَر قافلة العودة التي يُسيِّرها من الأردن إلى غزة، آخر القوافل- ولن تكون الأخيرة- التي يقودها لإغاثة الشعب الفلسطيني . إذا كان الشعب الفلسطيني قد تم التحايل علي حقه في أكثر من منعطف سياسي، وما زالت أرضه تُنهَب وهُويّته تُشوَّه في اليوم ألف مرة، فإن ما يزيد عن المائة ألف فلسطيني، ممَّن يُطلق عليهم عرب الثماني والأربعين، من أولئك الذين بقوا »مسامير جحا« في خارطة لم تفقد ملامحها، رغم كل التغريب والتهويد والتصهين، الذي طالها لأكثر من ستين عاما كاملة، هم ضحايا آخرون لقانون عنصريٍّ صهيونيٍّ، صدر في جانفي من عام ثلاثة وألفين )2003(، يمنع الفلسطينيين المتزوِّجين من عرب إسرائيل من اكتساب الجنسية الإسرائلية، ليظلوا مشمولين بالطرد في أي لحظة، وإلحاقهم بقائمة الشتات متى أرادت إدارة الاحتلال ذلك، بعد أن يُستعصَى عليها تهويدهم أو تغيير تقاسيم وجوههم الفلسطينية، وقد صوَّر تلك الحالة الشاذة التي يعيشها الفلسطيني الباقي في أرضه، المناضل الفلسطيني الراحل غسان كنفاني بقوله: يسرقون رغيفك، ثم يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم. فرح المسجونون خلف سور رفح بسقوط جدار تأمين الكيان الصهيوني من ريح الجنوب الحارقة، واستبشروا خيرا عندما هوى نظام حسني مبارك في مصر قبل أكثر من عام، ولكنهم لم يستطيعوا فك أسْرهم بعد كل الصباحات الجديدة، وهم المحبوسون في الزنازن والسجون المقفلة، والأسرى في المحتشدات المفتوحة في رام اللهوغزة، ولم تزدهم »ربيعات« عربهم إلا انغماسا في المأساة، حتى لم يعد أمامهم من سلاح سوى أمعائهم، يُشهرونها في وجه أعدائهم وأشقائهم على حد سواء، فامتشق أكثر من ألف ومائتي أسير فلسطيني أمعاءه، معلنا إضرابا مفتوحا عن الطعام، ليس حبا في الموت ولكن كرها في حياة الذل والهوان. منذ أكثر من سبعين يوما أضاف المسجونون إلى أغلال الأسر، متاعب أخرى تهدّد وجودهم وتؤثِّر على حياة ذويهم، الذين لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا غير التظاهر في الشوارع، ورسم خارطة قياسية لفلسطين التاريخية، نشروها على أسوار غزة، فقد يرى الحق مَن أصابه عمى الألوان، ثم الانخراط في إضراب مفتوح على الجوع، شارك فيه الصغير والكبير والرجل والمرأة، المسلم والمسيحي، ومَن لم يستطع منهم الضرب بأمعائه، لجأ إلى غلق مقرات دولية في الأراضي المسجونة احتجاجا على عدم نصرة الأسرى، ولكن ذلك كله لم يُحرِّك الرسميين العرب النائمين في قصور العواصم المفتوحة على العجز، والذين يبدو أنهم يعيشون فقط "حلم" الشعب السوري في التخلص من الأسد المستبد، و»كابوس« إيران الفارسية المخيف، أما الشعوب فهي لاهية تبحث عن فتوى تجيز رفع عدد الذين جفت أمعاؤهم فتوجهوا إلى النار يحرقونها في أكبر مخيَّم للانتحار، ولم يستمعوا حتى إلى كبير أكبر »تجمّع بشري« شهد سرقة الحق الفلسطيني وما زال، عندما دعا الأمين العام للأمم المتّحدة، مع رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمة الصحة العالمية، إلى كسر الصمت تجاه الأسرى الفلسطينيين منعا للكارثة التي يمكن أن تحل بهم وبأهاليهم. إن المُضحِك المُبكي في مسألة إضراب الأمعاء، هو أن المسجونين لا يطالبون بحقهم في الحرية، فتلك مسألة أضاعها منذ زمن أشقاؤهم في الحبس المفتوح خارج السجن المغلق، إنما يكتفون بمطلب واحد هو: العودة إلى شروط الحياة في السجون كما كانت عليه قبل عام ألفين، حينما لم يكن التفتيش العاري، وإذلال الزوار، ومنع التعليم، وسياسة العزل، إلا مجرَّد تهديد تُلوِّح به إدارة السجن ! وقد طبّقته بعدما تاه مَن يزعم أنه مدافع شرس عن الحق الفلسطيني في متاهات السياسة، وضاعوا في الحسابات البرغماتية الواقعية الخاطئة، واعتقدوا أن بنود صفقة شاليط الموقَّعة في شهر أكتوبر من العام الماضي، ستعيدهم إلى أيان »العز« السجينة، ولكن إدارة الاحتلال نكصت عن وعودها لغياب قوة دولية أو عربية أو فلسطينية تحمي الاتفاق، ولتُثبِت هذه أنها الحق القائم على قوة ضعف الآخر، فلم يجد الميِّتون في سجون الاحتلال خلسة بِذُل، أفضل من الموت فيها على رؤوس الأشهاد بشرف..