قبل أسابيع نشرت مقالا بعنوان " بوتفليقة يرافع للغة العربية" وهو يروي وقائع المرافعة القوية التي قام بها عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية آنذاك، متحدثا عن دقة اللغة العربية وتفوقها على اللغة الفرنسية. وقائع المرافعة نشرتها صحيفة "الشروق" التونسية بقلم إحدى الكاتبات المرموقات، ويقتضي الحال إعادة نشر المقال، فقد تكون فيه بعض الفائدة لأولئك الذين يجاهرون بعدائهم للغة العربية. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن التحكم في لغة أخرى، فرنسية أو إنجليزية أو إسبانية أو غيرها، لا يعني أن مستعملها خائن أو غير وطني، إذ أن ثمة فرقا بين التمكن من اللغة الأجنبية، وهذا ما نحبذه، وبين طرح اللغة الأجنبية بديلا عن اللغة العربية، لأن ذلك يعد تفريطا في العرض الثقافي والحضاري والسيادي أيضا. عندما طرح اعتماد اللغة العربية كلغة أساسية في الأممالمتحدة احتج المندوب الفرنسي بأن اللغة العربية ليست لغة دقيقة في تعبيرها، ولذلك فهي لا تصلح لصياغة قرارات المنظمة الدولية، فرد عليه وزير خارجية الجزائر في حينها، الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، الضليع في اللغتين معا، بقوله: سأعطيك مثالين على تفوق العربية دقة على الفرنسية: أولا : في العربية تقول : جلس = كان واقفا وجلس، وتقول استوى = كان نائما وجلس فهل تستطيع في الفرنسية أن تميز بفعل واحد ما إذا كان الإنسان الجالس، أمامك قد كان، قبل جلوسه، واقفا أو نائما؟ ثانيا: في اللغة الفرنسية تعد حتى الستين، ومن ثم تصبح الأرقام تركيبا مزعجا ستين وعشرة، أي سبعين، ستين وعشرة وواحد، وإثنين... الخ.. ثم أربع عشرينات، أي ثمانين، ثم أربع عشرينات وعشرة أي تسعين، بينما تعد العربية حتى المائة بشكل بسيط وواضح• وقبل سنتين، كنت أقصد جامعة السوربون في باريس فإذا كل المنافذ إليها مقفلة، أمنيا، وعندما سألت الشرطية عن السبب أجابتني بإعجاب : الرئيس الجزائري يلقي محاضرة في الجامعة هذا الصباح، وتعرفين أنه من أفضل المثقفين الفرانكوفونيين• تجربة تقدم مثالا على كيفية تحويل لغة أجنبية إلى ثروة، ليس فقط في اتساع الأفق الثقافي وإنما أيضا في إدراك ميزات اللغة العربية والاعتزاز بها، ذاك النوع من الاعتزاز المبني على المعرفة لا على العاطفة الشوفينية فحسب، وعلى الندية الحضارية التي تتعارض مع الانغلاق القاتل كما مع الإحساس بالدونية المميت• وما جعلني أستذكرها هو كم من الصفعات التي شعرت أن خد اللغة يضيق بها كما قلبي وقلب كل من يشعر أن لغته هي وعاء روحه وحضارته، ولعل استذكار بوتفليقة قد ذكرني بمفارقة طريفة هي أن أهل المغرب العربي، يستعملون لمتجر اللحوم إسم المجزرة بدلا من إسم الملحمة الذي نستعمله نحن المشرقيون، والمناسبة أكثر من عبارة مكتوبة أو مسموعة أحسست فيها أن اللغة العربية تذبح كالخراف وتعلق أشلاؤها على أعواد الأماكن العامة ضلعا من هنا وعمودا فقريا مشطورا إلى اثنين من هناك، أما القلب والأحشاء فترمى في أرض واجهة المتجر لأنها سقط المتاع• بدءا من إحدى شاشات الفضائيات الخليجية المهمة، ومذيع يتحدث ببلاغة عن "علامات استفهامات" وانتقالا إلى مطار إحدى الدول المشرقية وعبارة مطبوعة بالبنط العريض الأسود :" مدخل المسافرون" ومن ثم إلى كاتب (كما يسمي نفسه) يكتب: "يوما أسودا" إلى بطاقة مكتب محاماة كتب عليها :" مكتب محامون" القصة لم تعد مجرد حرب على حركات النحو العربي كما تعودنا، حيث يصر المتحدثون على أن يغيظوا سيبويه، وينظموا كلامهم نكاية به، بحيث يرفع المجرور ويجر المنصوب وينصب المرفوع، لكأنما هي إعادة تشكيل المواقع الطبقية، فلماذا يظل ذل الجر حكما مؤبدا على المضاف إليه ويظل ظلم أن تجر (في) الحقيرة، ملك المملوك• ولماذا تظل الرفعة حقا مقتصرا على من احتل موقع الفاعل والمبتدأ والخبر وإسم كان وخبر إن؟ والنصب صفة شنيعة ملحقة بالمفعول به والحال وخبر كان وإسم إن؟ فلينبر الثوريون المتجرئون على هذا التمييز الطبقي، وليشقلبوا تراتبية المواقع، ويعيدوا توزيعها عشوائيا طلبا للعدالة الاجتماعية، فمن قال أن لسيبويه الحق في التحكم برقاب تشكيل الكلمات وبملافظ الناس ومنطقهم؟ وأما القول بأن التشكيل لم يكن أبدا طارئا مجانيا على اللغة وإنما هو الضمانة الكبرى لدقة المعنى، فيرد بسؤال ومن قال أن هؤلاء لديهم وضوح في الفكرة وبالتالي في المعنى؟ ومن قال أنهم يريدون هذا الوضوح للمتلقي؟ ثم، ما الخطأ في أن نقول علامات استفهامات؟ ألم يكن يقولها الأتراك الذين استعمرونا مئات السنين؟ وهل قلل ذلك من قيمة باشا أو صدر أعظم؟ وما الخطأ في أن يكتب في المطار : مدخل المسافرون، طالما أن الموظف البسيط على بوابة العبور إلى الطائرة يسألني بلغة المستعمر الذي جاء بعد: "وان بيرسون"؟ ولا أدري ما الذي في شكلي مما يوحي له بأن عبارة: شخص واحد؟ لا تليق بي؟ بل وربما لأنني كنت - بالمصادفة أحمل بطاقة درجة أولى قد أوحيت له بأنني من تلك الطبقة التي تتعالى على أن تعبر عن نفسها بالعربية هكذا.. ككل الناس!! (مع ملاحظة مهمة وهي أن أكثر الناس استعمالا لتعابير أجنبية ليسوا أبدا من المتقنين للغة الأجنبية المعنية)• فالمسألة مسألة محاولة بائسة للإرتقاء الطبقي، وادعاء تافه للرقي الثقافي، واعترافا ضمنيا بتفوق الآخر الذي نقلنا من نير الانكليزية التقليدية إلى نير الانكليزية المختصرة والمولعة بالإدغام• واحد يشعر بأنه أقل من أولئك الذين درسوا في المدارس الخاصة وأتقنوا الأجنبية وواحد يشعر بأنه أقل من أسياد تلك المدارس الخاصة، الذين غرسوا فيه عقدة الضمور الحضاري، والكل يتوق إلى عدم الاهتمام بهذه اللغة العربية التي لا ترفعه إلى مصاف أي من هؤلاء، وإلى التعلق بأذيال لغة الآخرين ممن نسميهم العالم المتقدم، هذا العالم الذي يستعمرنا مداورة، وكلما خرج سيد منه من الباب عاد إلينا من البوابة الثقافية والحضارية•• قبل الاقتصادية• كم هو جميل أن يتقن المرء لغة جديدة أو لغات جديدة لأنه بكل واحدة ينفتح على عالم ثقافة جديدة ويتسع أفقا وغنى (هذا إذا أتقن وتثقف) ولكن كم هو قميء أن يدخل المرء عوالم الآخرين وقد أصيب بضمور روحه، وفقدان جهاز المناعة في جسده، وتشوه ملامحه بحيث لا يستطيع التعرف على نفسه في مرآة نفسه! فاللغة ليست ألفاظا جامدة وقواعد قاسية وصياغات جاهزة، اللغة جسد الفكرة والفكرة روح الإنسان وبفكاك إحداهما عن الأخرى يكون الموت، اللغة تعبير الأمة عن ذاتها عبر العصور، مخزون تلك الذات الواعي واللاواعي من كل تجليات وجودها، وبتشوش هذا التعبير، بتكسر وبلبلة هذا المخزون، تكون بلبلة الذات القومية وتشوشها، زلزال وجودها وعلامة من علامات انحطاطها• هكذا دافع الرئيس بوتفليقة عن اللغة العربية، التي بلغ الازدراء بها حدا لا يجوز السكوت عليه، ولو أن باحثا رصد حالات العدوان على اللغة العربية في بلادنا لظن أنه بصدد شهادات لأمة تطوعت بالانتحار. وبكل بساطة، إذا لم يكن لنا مشروع حضاري يقوم على هوية الشعب فإننا سنتحول إلى هنود حمر جدد، وسيكون فلكلورنا أو رقصة هذه الجهة أو تلك هي حضورنا الوحيد الذي تعرف من خلاله الجزائر، وستكون رموز وألوان وأشكال هذا الرقص بمثابة الريش الملون على رؤوس الهنود الحمر آخر علامات هويتهم. قال ابن حزم:" إن اللغة يسقط أكثرها بسقوط همة أبنائها••"