انتهى "ديكارت" وولى زمنه القائم على حركة اكتشاف وإبداع، وانتفت الحاجة لمقولاته المأثورة وطروحاته التي شغلت الإنسان، أو استذكار نزالاته الجدلية في حلبات الفلسفة، وصار من السخف أن نتباهى بعبارته الشهيرة: "أنا أفكر إذن فأنا موجود". فقوة الفكر اندثرت، وركنت مجرد أرشيف إنساني في رفوف الذاكرة، وأضحت قوة العصر "قوة اتصالية" بين التراكيب الاجتماعية المتنوعة عبر قنوات فضائية لا يقطعها مقص رقابي، لتصبح الرسالة الاجتماعية مجرد تواصل فاعل، يتعزز أكثر فأكثر حين يخلو من المعنى والشروط، ويتلون بأوجه متعددة. والشرق الأوسط غارق في الفوضى.. والسواكن الأصولية التي اعتاد العقل الإنساني الركون إليها والخضوع لمنطق جموديتها المثالية تشهد الانفجار تلو الانفجار وأعمدتها الأثرية تنهار، وصرحها المرمم يتحول إلى ركام.. ويبدو الحدث التاريخي المعاصر كمشهد مرعب، أكثر رعبا من "فانتازيا" الخيال العلمي المجسد في لغة سينمائية أجادت هوليود ترجمتها، يلاحق العقل المختبئ بين ثنايا هموم الشرق الأوسط العاجز عن استنشاق هواء نقي في بيئة اتصفت بتلوثها، ففقدت خصائص الحياة وعوامل تواصلها الندي مع الآخر. ويجد الشرق الأوسط ذاته في زمن دخول النظم المفتوحة التي لم تعد تقاس قيمة النظام القائم فيه ببلوغ توازنات عوامل تكوينه، ولا برسم حدوده الواضحة، ولكن بقدرته على الانفتاح العالمي وامتلاكه لبوابات التواصل مع المحطات الكونية الواقعة خارج حدوده وفتح القواسم المشتركة معها دون تعقيدات عصبية. ولو بعث "ديكارت" من جديد لتخلى بإرادته عن مقولته الشهيرة، واستبدلها بمقولة أكثر حداثة تلتقي مع خصائص الإنسان المتماثل في عصر الشبكات.. وأعلن في زمن الاستغناء عن الفلاسفة عبارة: "أنا اتصل فأنا موجود" كل شيء تبدّل، لكن كل شيء ل يثير الغرابة، فالإنسان الحديث.. لم يعد يرتبط بأرض، يتناسل بلا انقطاع، باحثا عن أصوله كما الآخرين غير المتجانسين ليجد ذاته المقيدة بشعور جماعي للانتماء الكوني.. عبر شبكة الاتصال المتشبعة في الكوكب الأرضي.. فالانطواء على الذات يتعارض مع البنى العالمية الكبرى. هل يدرك الشرق الأوسط أن خصائص العالم المعاصر هو "عالم من القواعد، وليس عالما من المبادئ"؟.