عاش عباس محمود العقاد، رحمه الله، مهيب الجانب، لا يصارعه أحد بالقلم إلا صرعه، وكان واسع الاطلاع راسخ القدم في دروب الثقافة، وهو إلى ذلك كان عصاميا غادر المدارس في سن مبكرة، وليس معه من شهادتها إلا شهادة التعليم الابتدائي، وهو معتز بمسلكه هذا مفاخر به، وقدم نفسه للناس يوما قائلا: " لقد ظهر في هذا البلد أديب مشهور وليس بصاحب ليسانس أو دكتور، وعضو في مجلس الأعيان وليس في حوزته نصف فدان، وفقير جد فقير وليس بهين ولا حقير، ولكنه صاحب قلم مسموع الصرير مرهوب النفير"... وفي كتابه "شروط النهضة" أشار المرحوم مالك بن نبي وهو يتحدث عن الإنسان بوصفه المكون الأساسي لشروط النهضة، أشار إلى "محو الأمية" ورأى: "أننا قبل خمسين عاما كنا نعرف مرضا واحدا وعلاجه متيسر، هو مرض الجهل والأمية، ولكننا اليوم نرى مرضا جديدا مستعصيا على العلاج هو "التعالم"، والصعوبة كل الصعوبة في مداواته..." ويرى بن نبي في الأمية مرضا ندرك بسهولة سبل علاجه، أما مرض المتعالم ذلك الذي لا يرى صاحبه في الثقافة والتعليم إلا مظهرهما التافه، بأن يصير ذا شأن في المجتمع، أو هي مصدرا للاسترزاق، هذا المرض معقد وعصي على العلاج... الدكتور جلال أمين عقد فصلا في كتابه "عصر الجماهير الغفيرة" بعنوان "الدكتوراه" عالج مسألة تنامي الولع بالشهادات العليا في المجتمع، خصوصا شهادة الدكتوراه عالج فيه ظاهرة التكالب على اقتناء لقب الدكتور، وان اغفل الحديث عن الذين انتحلوا اللقب دون أن يحصلوا على الشهادة، وإن كان هؤلاء موجودون في الحياة العامة، لكنه تحدث عن الصرعة التي أصابت الجميع، واعتبرها المؤلف وباء حل بالأمة، دون أن يحاول احد مكافحته، وفي تفسيره للظاهرة ذهب الدكتور جلال أمين إلي أن من أهم أسبابها غياب السياسة وصعود دور المهنيين والتقنوقراط في المجتمع المصري, ذلك أن ثورة يوليو52 أحدثت فراغا كبيرا في الحياة العامة حين ألغت الأحزاب السياسية وتراجع في ظلها هامش المشاركة الديمقراطية، لذلك فإن فرص التعرف علي العناصر القيادية في المجتمع تضاءلت إلي حد كبير، بحيث أصبحت الجامعة وليست الأحزاب السياسية هي الوعاء الذي تجري الاستعانة به في توفير القيادات... ويرى الأستاذ فهمي هويدي أن فراغ الساحة من المرجعيات " ذلك الطراز الرائد من البشر، الذين ينعقد من حولهم الإجماع العام، ويمارسون السلطة المعنوية المهنية" ويضيف " نعم ستري في كل مجال أناسا موهوبين وأذكياء وواعدين ربما، ولكنك ستظل مفتقدا المقامات العالية والأساتذة ذوي الأوزان الثقيلة " وهو ما يفسر في رأيه ظاهرة السباق المحموم للظفر بالشهادات فيقول: "وإذا دققت في الصورة جيدا، فستجد أن ثمة سباقا صاخبا بين بعض ذوي الطموح أكثرهم من متوسطي الموهبة أو معدوميها على محاولة ملء الفراغ وتقدم الصفوف واثبات الحضور، ليس عبر العطاء المتميز، وإنما عن طريق الفوز بالوجاهات والمناصب واقتناء الألقاب الموحية بالتميز، وهي ظاهرة تقتضي رصدا من أكثر من زاوية". الراحل توفيق الحكيم في آخر كتبه الذي استوحى عنوانه من رياضة كرة القدم، فوضعه بعنوان "في الوقت الضائع" ذلك أن مدة مرضه طالت، فرأى أنه يلعب الوقت الضائع من عمره، وكتب انطباعات من وحي تلك المرحلة لخص فيها مسيرة أفكاره في قضايا شتى، تحدث الحكيم عن الدكتوراه متعجبا من موقف علماء الدين وجريهم وراء هذا اللقب، يعقب الحكيم: "ولكن الذي يدهشني هو التمسك بلقب "الدكتور" فيما هو خاص بنا وبخاصة في ديننا... وبالرجوع إلى القواميس ودوائر المعارف في اللغات الفرنسية والانجليزية وغيرهما، نجد توضيحا لأصل كلمة دكتور ودكتورين، مما يشير إلى المذهب أو المذاهب التي هي في الغالب مذاهب دينية لا تتصل بالإسلام، فكيف رضي رجال الدين الإسلامي وكلهم علماء أفاضل بان يقرنوا أسماءهم وعلمهم المنتمي إلى الأزهر الشريف بلقب علمي ينتمي أصله إلى ما يبعده عن دينهم؟". وتوفيق الحكيم أشار بشكل مبطن إلى القضية الرئيسية التي لم تستثن حتى طلاب العلم الشرعي، وهي مشكلة السباق المحموم للفوز بهذا اللقب الساحر، لقب الدكتوراه، لكن الأخطر من كل ذلك هو أن هذا المشهد الفردي، أشخاص يتسابقون نحو شهادة يخفي وراءه مشكلة وطنية، تتمثل في تضليل الأرقام، فكثيرا ما نقع ضحية للفخر العددي، وتعجبنا كثرتنا التي لا تغني عنا في واقع الحال شيئا كثيرا، الكثرة العددية الخالية من "الفاعلية" أو ما أطلق عليه بن نبي المتعالم أو "المسخ" المشوه، الشهادة الكبيرة الرنانة التي لا تضمر محتوى، وإذا استمر الأمر على هذا النحو فليس غريبا أن يكون بيننا مجتمع من الدكاترة الأميين، هذا إن لم يكن الأمر واقعا فعلا...