غلبته دموعه وجهش بالبكاء، وكأنه يستغيث بالدمع السخي، يشكو حال أمته التي يبدو أنها لم تأخذ كفايتها من البكاء وأنها بحاجة دوما إلى هذا الدم النازف الذي يسفك على المكشوف، لكي تكتشف أن لديها قضية جامعة موحدة وقادرة على أن تبكي العرب جميعا، يدركون عندها أنهم ما يزالون أمة واحدة• وجد العرب، عرب المشرق والمغرب، عرب العرب وعرب أعداء العرب، في العدوان الصهيوني على غزة فرصتهم للبكاء والحزن، لأن كلا منهم يبكي نفسه ثم يجد خلاصه في التوحد مع الآخرين، فإذا الكل يبكي ويبكي، إذ قد تفلح الدموع في جمع هذا الشتات العربي المتناثر• هي غزة التي تقهر بصمودها وشهدائها الجيش الذي لا يقهر وتذيقه مرارة الانكسار، مرة أخرى، وبعد هزائم متلاحقة تجرعتها هذه الأمة، نشهد صمودا بطوليا وأسطوريا للمقاومة الفلسطينية، لم نكن نتوقعه بفعل تغلغل الهزيمة في عقولنا وفي وجداننا•• نعم لقد حققت المقاومة الانتصار• خسرت إسرائيل الحرب، حتى ولو أكملت تدمير غزة بيتا بيتا ومدرسة مدرسة، حتى لو دكت كل المساجد والمستشفيات، خسرت الحرب حتى لو أضافت إلى مجازر النساء والأطفال والعجائز مجازر أخرى تحصد مزيدا من الأرواح• خسرت إسرائيل الحرب، لأنها فشلت في كسر إرادة المقاومة وفي ترهيب من أصبح الرعب والخوف خارج كيانهم، مطرودا من أرواحهم. لقد انتصرتم، يا من صرتم شرف الأمة وعنفوان المجد فيها، بعد نكبات مشهودة وبعد هزيمة منكرة ألحقت بالحكومات العربية مجتمعة، قبل هذا الانتصار الذي كتبتموه بالدم الحار، قبل انتصار المقاومة في لبنان، غابت عن المشهد العربي أي بادرة أمل لتحقيق انتصارات غير تلك المدونة في بيانات التنديد والاستنكار وفي كتب التاريخ وفي مدونات الشعر الزاخرة بالملاحم والسيوف والجيوش• سجلتم بصمودكم وتضحياتكم وإصراركم على الانتصار أو الشهادة، سطرا آخر في نقطة البداية التي تقول إن هناك مكانا للمقاومة الصادقة، رغم الهزائم العربية المكللة بالعار، التي أسست لأنظمة مهزومة لا تقوى على الانتصار• لقد أعطيتم، بعد إخوة لكم، إشارة الانطلاق لعهد النخوة والشرف والكرامة، بإصراركم على النصر أو أن تموت غزة ولا تعيش بعارها•• إنكم أنتم وحدكم من تستحقون أن يذكركم التاريخ من الخالدين• بفضلكم وحدكم، عاد العربي إلى ذاته، إلى عروبته، بها يزهو ويفاخر، بعد أن كان العرب قد قدموا استقالتهم من العروبة. على الرغم من كل العويل في تاريخ العرب، لا يبدو اليوم أننا أمة أخذت كفايتها من البكاء، وقد جاءت دموع العرب، من المحيط إلى الخليج، تعبيرا عن تلك الحاجة المرة لإفراغ ما في الصدور من أحزان، ذلك أن الخطر هو أن تتحجر مآقي أمة فلا تعود تشعر بكل ما تتعرض له من هزائم ونكبات•• وحقا " كيف تبكي أمة أخذوا منها المدامع "! إنها دعوة على المباشر لكي نبكي ونبكي، فقد يكون هذا الإجهاش العلني بالبكاء الجماعي طريق الأمة التي يوحدها الحزن، بعد عقود من التشرذم والتخاذل، بعد أن تجمدت الدموع في العيون وتحجرت المشاعر في القلوب• رغم الدموع التي انهمرت من عيون خذلها الحزن والشعور بالضعف، تصمد غزة وتحارب لتحقق نبوءة التاريخ المكتوبة بالدم والدمع والألم والمخبوءة في دماء الشهداء الأطهار• " ما رأيكم.. أن تأخذوا حصتكم من دمنا وترحلوا.." هكذا خاطب الشاعر الراحل محمود درويش الصهاينة المحتلين المجرمين، إلا أن هناك آخرين معنيون بهذا الرحيل، بعد أن أخذوا حصتهم وزيادة من الدم الفلسطيني. هي غزة التي قال عنها المحتل يوما: " في النهار هي لنا وفي الليل لهم" تعبيرا عن عدم قدرته على تطويعها أو السيطرة عليها، لا أرضا ولا شعبا ولا إرادة.. هي ليست غزة فقط ، هي فلسطين، هي كل فلسطين التاريخ والجغرافيا. في غزة الصمود، تتساقط القذائف العمياء، تتصاعد الحمم من أحشاء المنازل لتشوي لحم الأطفال الطري، يصرخ الحجر من لهيب طائرات الحقد، لكن غزة تستعصي على أعدائها وتأبى أن تموت. صبرا أيها الأحبة، فهذه ليست أول المجازر حتى تكون آخرها، لقد شاءت أقداركم أن ترحلوا من مجزرة إلى أخرى، ولكنكم الأحياء وهم الأموات. إن قدركم أن تصمدوا ، فالذين يدكون غزة بقنابل التدمير والإبادة إنما يريدون أن يذبحوا في الفلسطيني انتماءه لأرضه، تعلقه بأمته، تمسكه بعروبته، إصراره على أن يكون وأن يبقى فلسطيني الانتماء• صعبة هي المهمة، ولكنها قدركم.. ما تزال أمامكم آلام كثيرة، ولكن من قال إن المجازر والتهجير والآلام ستحقق ما يراد منكم، أن تكفروا بفلسطين. أبدا لن يحدث هذا، لأنكم أول من يعرف أن سر بقائكم أنكم تواصلون الحياة بالاستشهاد حبا لفلسطين ولانتماء فلسطين•• ولأنكم القائلون أبدا لكل الجزارين المحتلين ولكل الغزاة البغاة: اقتلوا، دمروا، أسفكوا الدماء واذبحوا الطفولة البريئة، افعلوا ما شئتم•• فنحن في أرضنا باقون• وآه يا سيدي، أيها الصامد الصبور•• أكان عليك أن تبدو بكل ذاك التحدي والعنفوان• أكان قدر عليك، وحدك دون غيرك، أن تبدو نقطة ضوء في بحر الظلمات• أكان عليك، أنت الصامد وحدك، أن تخلط الحياة بالموت بماء الشهادة• أكان قدر عليك أن توقظ النيام بسيل الدماء التي تلتحم مع الدماء• أكان عليك، سيدي، أن تبصر ما لا يبصرون وأن تكبر في مئذنة الشمس: حي على الجهاد، حي إلى العلا•• أكان قدر عليك، أن تقسم على الشهادة، أن يكون شرطك هو الكرامة، أن تظل سيدا•• وأن يظل اسمك: فلسطين• فسلام عليك، سيدي، وأنت تقاتل في أرضك من أجل أرضك• سلام عليك، سيدي، إنك وحدك ولكنك فلسطين كلها، إنك الأمة جمعاء، وقد توحدت حولك ومن أجلك ولو بسكب الدموع، فلك المجد والنصر•• من أجلك أنت دون غيرك تذرف العيون دمعها الجميل• لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي