الطريق من غزة إلى الجزائر كان طويلا، وخروجنا كان مغامرة بل معجزة، ولا واحدة منهن كانت تنتظر العودة إلى أرض الوطن سالمة معافة تحت قذائف وصواريخ الجيش الصهيوني، المسلك كان وعرا وشاقا لا رفيقا لهن إلا الشهادتين، المشهد الأليم في غزة رسمته دموع ونظرات الحزن والأسى التي بدت واضحة على وجوه النساء الجزائريات الخمسة رفقة فلذات أكبادهن في القاعة الشرفية لمطار هواري بومدين بالعاصمة اللائي تم إجلاؤهن من قطاع غزة الجريحة، فرحة معانقة الوطن الأم الجزائر لم تتذوقها العائلات الجزائرية بسبب لوعة فراق أزواجهن وجيرانهن وأحبائهن الذين يذّبحون على أيدي الصهاينة. الساعة تشير إلى السابعة وعشر دقائق مساءا حين حطت طائرة الخطوط الجوية الجزائرية على أرضية مطار هواري بومدين تقل عائلات جزائرية فرت من جحيم إسرائيل المسلط على سكان غزة منذ 27 ديسمبر الفارط، وكان الوزير جمال ولد عباس وزير التضامن الوطني والأسرة و الجالية الوطنية في المهجر في استقبال الذين اضطروا إلى مغادرة القطاع الفلسطيني عنوة، رفقة المدير العام المكلف بالجالية في الخارج رابحي حسن وطاقم الهلال الأحمر الجزائري برئاسة الدكتور حمو بن زغير. الخروج من غزة إلى الجزائر معجزة "الخروج من غزة إلى الجزائر معجزة" بهذه العبارة استهلت السيدة "رحماني فاطمة" من سيق بمعسكر، كلامها معنا لم تكن واثقة من وصولها رفقة أولادها الخمسة سالمة إلى أرض وطنها، بكلمات متقطعة استرسلت الحديث نفسيتي منهارة جدا جراء القصف المتواصل من طرف إسرائيل، ملامح وجهها الحزينة والمتأثرة بالهجمة الإسرائيلية الشرسة بدت أنها لم تصدق أنها في الجزائر. "أرجوكم لا أريد صورا"، كان هذا طلب السيدة" م.س" 39 سنة، أم آية وحلا وآلاء، لم تشأ الجلوس أمام عدسات الكاميرا وآلات التصوير تراجعت إلى الوراء وراحت وهي تحمل حلا بين ذراعيها والدموع تنهمر من مقلتيها تبحث عن مكان آخر بعيدا عن الحاضرين ، فذهبنا ورائها وهنا احترنا بين أداء واجبنا المهني وحالة إنسانية تختزل معاناة أكثر من مليون ساكن في غزة حتى قلمي خجل من تدوين ما أردته، تقربت منها" على سلامتك سيدتي" فأجابتني وهي تمسح دموعها" الله يسلمك" ، خانتني الكلمات للتعبير عن مشاعري نحوها، فبقيت أداعب شعر ابنتها "آية" وهنا التحق ممثل عن وزارة التضامن الوطني ليقول لها الآن أنت في بلادك اطمئني" لتجهش بالبكاء مرة أخرى" ليس لي مكان أذهب إليه مع أولادي، فرد قائلا" نحن سنتكفل بك لا تقلقي"، لتنفرج ملامح المرأة وتطلق العنان لتنهيدة طويلة، بعدها تقربت منها مرة أخرى وقلت لها في أي مكان بالضبط كنت تعيشين في غزة، فأجابتني بلهجة حزينة من خان يونس، لتضيف أنها تركت أحبائها في الأراضي الفلسطينية في حالة مزرية جدا لا أستطيع وصفها، تتوقف هنيهة وتتابع كلامها قصف متواصل وانعدام أدنى ضروريات الحياة في المنطقة هذا هو الديكور اليومي في غزة حتى ابنتي " آلاء" التي تدرس السنة الرابعة أصيبت بهستيريا حين قصفت مدرستها في أول يوم للعدوان. وأشارت أم آلاء إلى أن الاتصال مع باقي العائلات الجزائرية التي لا تزال تحاصرها صواريخ ودبابات الصهاينة من كل حدب وصوب صعب جدا في ظل هذه الأوضاع، وكشفت أن الرعية الجزائرية نفيسة المقيمة وسط غزة أين القصف يبقى بصورة مكثفة محاصرة في بيتها رفقة أبنائها الثلاثة وأكدت لها أنها لا تستطيع الخروج، مضيفة أن عدد العائلات الجزائرية يصل إلى 100 عائلة. وعن مصير زوجها، تضيف المتحدثة أنها رافقها إلى الحدود إلا أن الأمن المصري منعه من الدخول رفقة عائلته لأن الدخول إلى الأراضي المصرية كان مقتصرا فقط على الرعايا الجزائريين. وباطمئنان ممزوج بالألم، عبرت خيرة بلقاسم من ولاية البيض أم لثلاث أطفال التي تقيم في غزة قرب ميناء رفح منذ عشر سنوات عن الأحوال الصعبة والسيئة للغاية التي يعيشها سكان قطاع غزة، فحتى رضيعها أحمد ذو الشهرين تحمل هو الآخر عناء السفر في ظل ظروف الحرب، لم نكن ننام تقريبا، الليالي كانت تتشابه مع النهار بالنسبة لنا و الإسرائيليون لا يفوتون أية فرصة لإلقاء القنابل التي تصم انفجاراتها الآذان و تسمع على بعد كيلومترات"، تلتقط أنفاسها قليلا ثم تواصل الحديث "أبنائي الذين تعودوا على أصوات انفجارات القنابل أصبح توقفها في فترات وجيزة أمرا غريبا بالنسبة لهم، أصوات القنابل والتحليق المتواصل للطائرات المقنبلة الإسرائيلية وأصوات نيران أسلحة القوات الإسرائيلية الإجرامية يثير الرعب في نفوس أطفالنا"، وأكدت أن قوات الاحتلال الإسرائيلي "كثفت من غاراتها على حدود رفح مدمرة كل ما يرمز للحياة"، موضحة أن زوجها الذي بقي في غزة هو الذي شجعها على الذهاب إلى الجزائر من أجل سلامة أطفاله. الشهادتان لم تفارق ألسنتنا تقول أرملة الشهيد السيدة عائشة حملاوي ، التي فقدت زوجها في أول يوم للعدوان الإسرائيلي أين تم استهداف مديرية الشرطة إن الجميع كان يردد الشهادة في كل ثانية نظرا للضربات العشوائية التي توجهها الآلة الحربية الصهيونية غير مميزة بين ما هو عسكري وما هو مدني، وأشارت السيدة عائشة أم لستة أطفال إلى أن الله كان معهم في سفرهم وحفظهم من الصواريخ الإسرائيلية، مبدية خوفها من العائلات الجزائرية العالقة هناك تنتظر دورها لإجلائها من قطاع غزة. البراءة المصدومة ابتسامة البراءة كانت الغائب الأكبر في هذه الأجواء التي خيمت على القاعة الشرفية للمطار فالصدمة كانت واضحة على محيا آية، وآلاء وحلا، خليل، جليل ، الحاج، أحلام وبسمة، خليل ذو 12 سنة تحدث معنا بلهجة مضطربة ومفزوعة أكد لنا أن صديقيه محمد وياسين سقطا شهيدين، ليصف لنا أن الصاروخ الذي دمر بيتهم بالكامل كان كبيرا جدا، مشيرا إلى أنه ترك أبوه عند بيت عمته. تمنى لابنه السلامة التي يفتقدها سكان غزة "مع السلامة" آخر كلمة نطقها لسان أبي عندما كنا نعبر الحدود يقول الطفل خليل ، أحس الوالد بأهميتها وجودها في الحياة فتمناها لفلذة كبده ليودع أطفاله على الحدود المصرية ويعود أدراجه إلى بيت أخته، وترجم والد خليل بهذه الكلمة أمنية السلام التي ينشدها كل فلسطيني في القرن الواحد والعشرين. الدولة وقفت معنا إلى آخر لحظة أشاد وثمن جميع من تحدثنا إليهم الجهود التي بذلتها السفارة الجزائرية بالقاهرة والقنصل العام عبد الحق عياضات، وقالت السيدة "م.س" إنها هي التي استنجدت بالسفارة لإجلائها من قطاع غزة، مضيفة أن الكل كان معهم منذ أن وطئت أقدامهم التراب المصري، وتكفلوا بصورة تامة بكل الإجراءات،فيما قالت فاطمة إنها شعرت براحة تامة عند استقبالهن رفقة أطفالهن من طرف القنصل العام.