في كل استحقاق رئاسي، هناك الهاربون من السباق أو العاجزون عن خوض المنافسة الانتخابية، وهم كالعادة يتسترون تحت غطاء المقاطعة ويجترون نفس الكلام والممارسات، بل ويصل الأمر إلى حد الحديث عن الخطر الكبير الذي يحدق بالبلاد، هذا ما حدث قبل خمس سنوات وكان ذلك أيضا ما حصل قبل عشر سنوات، وهو يتجدد اليوم بمناسبة الرئاسيات المقبلة، فهل المطلوب هو رئاسيات على مقاس هؤلاء أم المطلوب هو أن تطلّق الجزائر الانتخابات بالثلاث• قد يقول قائل: إن نتائج الرئاسيات التي ستجرى في التاسع من أفريل المقبل أصبحت معروفة، وأن بوتفليقة باق في مكانه؟ ويكون الجواب: إن من يرفض عهدة جديدة للرئيس بوتفليقة، كان عليه أن يترشح لمنافسته ويطلب ود الشعب لكي يصوت عليه، بالاعتماد على شخصيته وبرنامجه ورجاله• كان الأجدر بهؤلاء الذين يقولون إن الانتخابات الرئاسية مزورة ولن تكون فرصة للتغيير، أن يكونوا في صف الشعب لكي يقرر مصيره بحرية وسيادة، بدل التواري إلى الخلف! أليس الإدعاء بتمثيل الشعب والحديث باسمه ثم إدارة الظهر له والهروب من المعركة التنافسية هو عين التزوير؟ إن الذين يقدمون أنفسهم على أنهم "المنقذون" من خلال الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات، قد اختاروا الدخول إلى بيوتهم آمنين، هنا في الجزائر أو هناك في ما البحار، وحتما سيعودون بعد خمس سنوات، ليكرروا نفس الكلام عن الانتخابات المحسومة والمغلقة والمزورة، وما إلى ذلك من نعوت وأوصاف، ولكنهم ينسون، جهلا أو تجاهلا، أن السياسة تدير ظهرها للمفلسين تماما كما يدير الشعب ظهره لمن يمثلون عليه ويعتبرونه مجرد مطية• فالذين تغلب عليهم "النيف" إلى درجة عزوفهم عن الترشح وتجميد أحزابهم وراحوا يدعون الشعب إلى المقاطعة، بدعوى أن الانتخابات معلومة النتائج سلفا، كان عليهم أن يتحسّسوا جيدا ذلك "النيف" الذي يبدو أنه فقد ليس فقط حاسة الشم بل أيضا تلك الحاسة التي يجب أن تتوفر لدى رجل السياسة، فإذا هم غير جديرين لا بممارسة السياسة ولا بثقة الشعب ولا بقيادة الدولة• في عالم السياسة، إما أن تكون أو لا تكون، وقد أكدت أنها المعارضة في درجة الصفر، لا تملك من مؤهلات القوة، إلا تلك الجرأة في إعلان الهروب، ليس لأن الانتخابات مزورة - كما يقولون - وإنما لشعورهم بأن حظوظهم في الفوز ليست ضعيفة فقط بل معدومة! ألا يصدق فيهم قوله تعالى: "تولوا يوم الزحف"• أليس الحضور في الانتخابات، بالمشاركة والمراقبة، هو السبيل لتمكين الشعب من حقه في اختيار من يحكمه في انتخابات نزيهة ونظيفة وذات مصداقية، تلك الحقيقة تبدو غائبة على الذين يمارسون السياسة من وراء الستار، لعجز تمكّن منهم، فإذا هم يولوون الأدبار عند اشتداد المعركة• لقد أصبح واضحا الآن أن الذين يفقدون أوراق اللعبة السياسية يخسرون دائما، ولذلك فإن الذين يدّعون أنهم يحتكرون الديمقراطية وينزعونها عن غيرهم، كان من الطبيعي أن يخفت صوتهم ويأفل نجمهم، إن كانت لهم نجوم أصلا! أما السبب فهو معلوم ولم يعد خافيا على أحد، فهؤلاء ليست قضيتهم مع الانتخابات "المغلقة" كما يزعمون، لأنها لو كانت كذلك لاجتهدوا وناضلوا وعملوا على أن تكون مفتوحة، بل إن مشكلتهم تكمن في ضعفهم، لكونهم لا يتمتعون بنفوذ شعبي يؤهلهم لخوض انتخابات بحجم وأهمية الرئاسيات• إن دعاة المقاطعة يدركون حجمهم السياسي، إذ اختبروا شعبيتهم وأدركوا أن سقفهم الشعبي محدود، لذلك لم يعد لهؤلاء أي برنامج يواجهون به الشعب، فكان من البديهي جدا أن يقاطعوا الانتخابات، تلك هي ديمقراطيتهم التي يتبجحون بها، إنها بلا إرادة الشعب ودون انتخابات ينافسهم فيها خصوم يتوفرون على قواعد شعبية حقيقية• فالصوت المرتفع أو الضجيج الإعلامي، حتى لو كان قادما من وراء البحار، قد يعطي الانطباع بأن هناك قوة، لكنها في الحقيقية تظل مجرد قوة وهمية، وهي أشبه ما يكون بفقاعات الصابون، وهذا ما أكدته التجربة طوال سنوات التعددية، فهل آن الأوان لكي نصلي صلاة الغائب على هؤلاء، وهم للعلم قد صنعت لهم الأضواء الساطعة وجودا فلما غابت سقطت عنهم أوراق التوت، فما كان منهم إلا إطلاق تلك الصيحات المبحوحة التي تدعو إلى المقاطعة، وكأن المطلوب أن يكون الشعب معهم أو يبتعد عن السياسة ويعزف عن كل انتخاب وتبقى الجزائر بلا مؤسسات ولا رئيس! إن الذين يناضلون اليوم ويتوزعون على الأحزاب ويلتفون حول المترشحين للرئاسيات المقبلة ويجوبون أرض الجزائر لإقناع المواطنين بأفكارهم وبرامجهم، هؤلاء هم الديمقراطيون الحقيقيون، الذين يفرضون نزاهة العملية الإنتخابية ويجعلون من موعد التاسع أفريل المقبل أكبر فرصة لتمكين الشعب من اختيار رئيسه بكل حرية وسيادة• ذلك كله يبرز صعوبة التحدي الذي تمثله الانتخابات الرئاسية ويبرز حجم الاستخفاف بالعقول الذي يمارسه أشباه الزعماء والباحثون عن السلطة بالمتاجرة بالآمال المشروعة للشعب، وقد حان الوقت لتحقيق قطيعة جديدة مع دعاة المقاطعة الذين أكدوا مجددا أنهم مجرد "بالونات" منتفخة بالهواء، لا تصلح إلا للتسلية!• "إذا أردت أن تلعب بمشاعر الناس فاملأ رؤوسهم بالأكاذيب المصنوعة••"