هذه الخصوصية الجامعة للمسلمين نظريا تصطدم على صخرة الممارسة التي أضحت في كثير من الأحيان بعيدة كل البعد عن روح العبر السامية التي يمثلها شهر رمضان الفضيل، ولا أدل على ذلك دعوة الأئمة في صلاة الجمعة الأولى إلى تطبيق رمضان القرآن والسنة، والابتعاد عن رمضان التهاب الأسعار واحتفالية الأسواق و''التبزنيس'' بكل ما يصلح للأكل والسهر• رمضان في ضواحي باريس ''العربية'' لا يفلت من مظاهر الانحراف المسيء لشهر التكافل الاجتماعي والتوبة والغسيل الروحي، وإذا كانت الصور التقليدية التي يحفل بها الشهر الفضيل تضفي على حياة المهاجرين المسلمين جوا استثنائيا يحد من ألم الغربة والانسلاخ، فإن طغيان الجشع التجاري بأساليب شيطانية لا يمكن إلا أن يعمق الصورة السلبية التي رسخت في أذهان الفرنسيين عن المهاجرين الذين يتاجرون بالإسلام في شهر رمضان وعلى مدار الشهور الأخرى• ''بارباس'' أو فنون غزو الجيوب لا يمكن للمتحدث عن شهر رمضان في باريس أن يتخطى ذكر حي ''بارباس'' الشهير• هذا الحي لا يختلف في سوسيولجيته عن أسواق العقيبة وكلوزال وباب عزون في العاصمة• وتكمن خصوصيته في اعتباره مرجعية ثقافية وتجارية جزائرية في المقام الأول، وصوم رمضان نظريا وعمليا لا يكتمل في قلوب وعقول المهاجرين العرب دون زيارة الحي ''المقدّس''• ''برباس'' مكان تذوب فيه الفوارق الاجتماعية، وتلتقي فيه كل الفئات الباحثة عن ريحة البلاد بأي ثمن كان، الأمر الذي يسعد ''قنّاصة'' الجيوب من التجار الدائمين والمعروفين في كعبة المستهلكين المهوسين، وأمثالهم من التجار المؤقتين الذين ينافسون الأوائل على قارعة الطريق بطاولاتهم وقففهم السحرية.. التي تنبعث منها روائح المطلوع والكسرة والمعدنوس والغرايف والمسمن والمحاجب• باعة هذه المواد تتراوح أعمارهم بين السابعة والسابعة والسبعين، وكل السبل ممكنة للم شمل العائلة الواحدة وزرعها عبر أرجاء كعبة البيع والشراء في شهر التوبة والمغفرة والعبادة• الأطفال والبنات والشيوخ والكهول يضربون موعدا تاريخيا بعد صلاة الظهر ويتسابقون للظفر بالأماكن الإستراتيجية القريبة من المجازر (القصابات) الشهيرة (مجزرة حمداني)، وكذا المحلات المتخصصة في بيع زلابية بوفاريك وقلب اللوز المحشي، وأنواع أخرى من الحلويات التي لا يمكن أن يحلى السهر والسمر دونها• الحرافة وقصة القطط والفئران الحرافة الذين تعج بهم أزقة ''بارباس'' يجدون ضالتهم في شهر رمضان المعظم، وطغيان عنصر الشبان الجزائريين وسيطرتهم الكاملة على شوارع الحي حقيقة سوسيولوجية، يتجنّد لها رجال الأمن الفرنسي بحكم معرفتهم لنشاطاتهم في شهر رمضان تحديدا. وللأسف الشديد، ورغم كل الإجراءات والترتيبات الأمنية، فإن ''معركة القطط والفئران تنتهي في معظم الأحيان لصالح الفئران''، على حد تعبير علي البانجو، صاحب الخبرة الكبيرة في تدويخ ومراوغة رجال الأمن• قادة.. المهاجر الجزائري المقيم بصفة قانونية تحدث ل''الفجر'' مستنكرا سيطرة الحرافة الذين يسيئون للتجار الشرعيين، وفي تقديره ''ليس هناك ما يبرر وجودهم في الحي جنبا إلى جنب مع التجار الذين يدفعون الضرائب، ويقيمون في برباس على مدار السنة، والشيء الذي يحز في قلبه على حد تعبيره ''يتمثل في إساءتهم إلى التجار الجزائريين الدين يكدون طول السنة ولا ينتظرون شهر رمضان لابتزاز أبناء الوطن الواحد، مثلما يحدث في الوطن الأم''• و''خلافا لما يعتقد البعض - أضاف قادة يقول- فإن التجار المتواجدين في برباس ليسوا كلهم من النوع الدخيل المتاجر باسم شهر الرحمة والتوبة•••والكثير منهم يخشون الله ويتاجرون بالحلال ويحترمون قواعد العيش في الجمهورية الفرنسية، ولعله من المفيد تأكيد هذه الحقيقة لقرائكم في الجزائر حتى لا يمسح السكين على كل أذقان تجار بارباس''• الكتب الدينية الصفراء الملقاة على قارعة الطريق، وسجائر مارلبورو وماركات العطور المزيّفة والمسروقة، وسراويل الجينز والساعات والنظارات الشمسية والأحذية ومختلف الملابس وأدوات الزينة والأشرطة الموسيقية والأقراص المدمجة والأفلام والآلات الكهرومنزلية، وما إلى ذلك من الحاجات العجيبة والغريبة متوفرة في سوق بارباس، وما على الزبون إلا اكتشاف التاجر النزيه الذي يوفّق بين رمضان التوبة والعبادة، ورمضان التجارة المباحة قانونيا وأخلاقيا، والتاجر الذي لا يجد حرجا في إعانة نفسه لتجاوز البؤس المفروض عليه حتى وإن كان ذلك على حساب وخز الضمير الأخلاقي والديني، مثلما اعترف به حميد بعظمة لسانه وبكل قواه العقلية والروحية• أسواق الضواحي ''العربية'' وسمفونية تجارية أخرى ''الكاترفان تراز'' أي 93 هو الرقم المرعب في قاموس الحديث اليومي عن حياة الفرنسيين الذين وقعوا في أسر خطاب اليمين المتطرف، من أمثال جون ماري لوبان، وحليفته بريجيت باردو، ممثلة الإغراء، والعجوز الغيورة على الكلاب بدل جياع الصومال• خلافا لبارباس لا وجود لرجال الشرطة في سوق 3000 مسكن (لي ترواميل)، وجولة لهذا السوق لا تكرس بالضرورة الصورة التجارية الفولكلورية التي انفرد بها سوق بارباس عن حق أو عن غير حق، لكنها تشوه صورة شهر الزهد والعبادة والتبصر في عبر الشهر الفضيل• سوق العرب والمسلمين في ضاحية ''الني سوبوا'' سوق لا يخضع للتنافس غير الشريف الذي يشتكي منه أنصار قادة، والأمور مضبوطة على مدار السنة ولا مكان للدخلاء في شهر رمضان وحتى الزبائن ليسوا من النوع العابر، بل يشكّلون عائلات وفية لهدا الجزار أو ذاك الخضّار وخاصة إذا تعلق الأمر بالزبائن الأمازيغ الذين يسيطرون سوسيولوجيا وثقافيا على ضاحية 93 • التبذير الذي نبّه إليه أحد أئمة المساجد التابعة للضاحية ينطق بقوة خارقة وسط مختلف طاولات ما لذ وطاب، والشيء الذي يزيد من إقبال المهاجرين على ''عكاظ'' باعة الخضار والفواكه انخفاض الأسعار واستقرارها رغم قدوم شهر رمضان خلافا لما يحدث عندنا، والفقراء والأغنياء يتفقون في القول إن ''سوق الطرواميل جنة لا مكان فيها لجهنم تجار الجزائر''• تهافت واصطدام النساء الماكثات في البيوت على مدار السنة هن سادة السوق في كل الأوقات وكل الفصول وكل المناسبات ويزددن لهفا وضراوة وتعنتا في شهر الزهد، ومما يزيد من دراميتكية إيقاع الاستهلاك انضمام المتعلمات من المهاجرات اللواتي رحن هن الأخريات ضحية جنون الشراء دون حدود أو تعقل تحت وطأة عادة غذّاها مجتمع الاستهلاك على نطاق أوسع من شهر رمضان• الإسلام الذي يصمن من أجله لا يمنع النساء المتحجبات على الطريقة الأفغانية أو العصرية الجزائرية (خمار وفستان طويل مزخرف فوق جينز مزيّر) من التهافت على فاكهة معيّنة زاد من قيمتها غناء وشعر تجار مصريين، أصبحوا ينافسون التجار الجزائريين التاريخيين، والدليل وقوع الكثير من المهاجرات في أسر هؤلاء التجار بسبب الاحتفالية الفنية والأدبية التي تميز حضورهم من وراء طاولات الفواكه والخضار• تجار مصريون يبدعون في مغازلة الزبونات في سوق ''الطرواميل'' يعد حضور العديد من التجار المصريين ظاهرة ثقافية بأتم معنى الكلمة، وتزداد هذه الظاهرة خصوصية في شهر رمضان بحكم تمكّنهم من مخاطبة كل الزبائن بالأساليب المناسبة التي كثيرا ما تسحرهم• وخلافا للتجار الجزائريين فإنهم لا يترددون في محاورة النساء إلى حد المغازلة المدروسة من خلال الشعر أو الغناء أو النكتة التي ينفردون بها دون غيرهم من الشعوب العربية، وبذلك تتحول طاولات خضارهم وفاكهتهم إلى أجنحة فنية وأدبية تنطق بلطف الشرقي ورقة وذكاء التاجر الناجح، وإذا عرفنا بأن معظمهم من الجامعيين والأساتذة الذين هاجروا من مصر إلى فرنسا، يبطل العجب ويعرف سبب تفوقهم على التجار الجزائريين الذين يضيقون ذرعا بالزبائن، رجالا كانوا أم نساء، بحكم مزاج الجزائري الذي يتناقض في معظم الأحيان مع ماهية التجارة، وحدّث عن هذا التناقض في شهر رمضان ولا حرج• سمفونية الاستهلاك المفرط في شهر الزهد والتمعن في القيم الرمضانية السامية تنطق بها أسواق أيفر Alligre الواقع في الدائرة الثانية عشرة التي تسكنها جالية جزائرية أمازيغية وأسواق ضواحي سوفران بودوت، وكليشيي سوبوا، ومونفمرماي، وهي من الضواحي التي مازالت تقض مضجع الرئيس نيكولا ساركوزي، رغم اتخاذه كل الإجراءات الأمنية والقمعية للحد من ظاهرة الانحراف الشباني مدعوما من مثقفين حاقدين وجدوا في مشاكل الضواحي فرصة لتصفية حساباتهم الإيديولوجية مع الإسلام والمهاجرين المسلمين، وهذا ما كشف عنه جهرا الفيلسوف المعروف آلان فينكلكروت خلال انتفاضة الضواحي في خريف .2005 يتبع•••