الدكتور حسين رايس، صاحب التجربة الطويلة في الديار الإسلامية بباريس بأوربا بوجه عام، وفي باريس بوجه خاص، فتح قلبه وعقله ل''الفجر'' في مقهى باريس التاريخي على مرأى ومسمع السائحات الشقراوات اللواتي لاحظن تحمسه العفوي للحديث عن قضايا أصبح بإمكانه الإفصاح عنها بحرية نسبية بعد حصوله على تقاعد مربح حرّره من قبضة مصالح الضرائب على حد قوله الطريف• في البداية هل لك أن تحدثنا عن بداياتك الأولى مع الجالية المهاجرة بوجه عام قبل وصولك إلى مسجد باريس، وعن هويتك العلمية والمهنية؟ خلال الأربعة عقود التي قضيتها في فرنسا تحصلت من جامعة السوربون على دكتوراه في العلوم الإنسانية ومارست التعليم لمدة طويلة، وانخرطت مطلع السبعينيات في تنظيمات مغاربية مهاجرة تعنى بتمثيل المسلمين في فرنسا ومنها وداديات الجزائريين والمغاربة والتونسيين في أوروبا، وشخصيا أعتقد أنها لم تقم بدور تبليغ الحضارة العربية الإسلامية المغاربية وظلت تعيش صراعات جانبية هامشية• ودادية الجزائريين في أوروبا التي تعتبر امتدادا لوجود الجالية الجزائرية أثناء الثورة، أي ناطقا باسم جبهة التحرير كانت لها إمكانيات مالية ضخمة، التحقت بها قبل إنهاء الدراسة الجامعية كأستاذ للغة العربية والثقافة العربية الإسلامية، ومن المسؤولين الذين كان لهم شرف ترأسها أذكر قنز وغريب وسويسي وقمت بوظيفة التدريس في الودادية إلى جانب المئات من المدرسين من المغرب وموريتانيا واليمن وسوريا ومصر وبلدان عربية أخرى• هل من فكرة عن طريقة التدريس ومدى نجاعتها المنهجية والعملية في محيط غير عربي؟ تعليم اللغة العربية كان مفهوما حضاريا عربيا وإسلاميا شاملا، أي أنه كان يتضمن كل جوانب الهوية العربية الإسلامية ومبادئ الانتماء الوطني. وأستطيع القول إن النتيجة العامة كانت ضعيفة بحكم عجز التلميذ أو التلميذة على نطق الحروف الأبجدية بصورة جيدة رغم تعلمه ثلاثة أو أربعة أعوام• ومع ذلك لم تكن ودادية الجزائريين تفرق بين أبناء الجالية المغاربية وغيرهم من أبناء العرب والمسلمين المقيمين في فرنسا خلافا لأخرى بقيت مستنكفة ومنغلقة على نفسها• أفهم بأنك كنت أحد رموز تمثيل الجالية الجزائرية في فرنسا من خلال الودادية، وهذا الذي أهّلك منطقيا لاحقا العمل في مسجد باريس اعتمادا على تجربة ميدانية ومؤهلات علمية أكاديمية• أستطيع القول إنني ترعرعت في أحضان ودادية الجزائريين في أوروبا، وكنت أحد أعضاء أسرتها الساهرة على التوجيه والتنظيم بغرض تمثيل الجزائر العربية الإسلامية في أوساط جاليتنا المغتربة، ودامت مساهمتي حوالي عشرة أعوام توزعت بين تعليم الصغار والكبار من أبناء الجالية العربية وبعض الأجانب على السواء، ومن الذكريات الطريفة التي مازلت أحتفظ بها إلى يومنا هذا تعليق هولندية على رسمي بقرة رأت أنها ضعيفة، ودون تردد قلت لها ''هذه بقرة جزائرية وليست هولندية'' فضحك الجميع• لماذا لم تستمر تجربتك المهنية في الودادية؟ وهل لانسحابك علاقة بالسمعة السيئة التي طالتها في أوساط المهاجرين؟ لم تستمر تجربتي التي تعمقت لاحقا بعملي كمفتش أيضا بعد أن ثرت مع مجموعة من الطلبة والأساتذة على الوضع السائد، وذلك إثر رفض الإدارة على العمل بتوجيهاتنا ومقترحاتنا التربوية بهدف تحسين المردودية وساءت أحوالنا إلى درجة تحولنا إلى مشردين حقيقيين بعد إبعادنا إلى مناطق أخرى من فرنسا، ودفعت ثمن موقفي إلى جانب آخرين بنفيي إلى مدينة بزنسون في إطار تخلص مؤدب وغير معلن وأكملت مهمتي في الودادية واستفدت من العقاب اللطيف بتواجدي في المدينة الفرنسية المذكورة، وعدت إلى باريس لإنهاء دراستي وبقيت أتعامل مع الجالية الجزائرية خارج الودادية• هل تجربتك في الودادية هي التي كانت وراء التحاقك بمسجد باريس، أم معطيات شخصية، أم وساطة على الطريقة الجزائرية أدت بك إلى تمثيلية جزائرية أخرى مازالت مثار سخط الكثير من المهاجرين وأعني بها مسجد باريس؟ ترددي على المسجد لأداء الصلاة قربني من مسؤوليه أيام إدارة المرحوم العميد الشيخ عباس بحكم علاقاتي وتجربتي في الودادية• في عام 1982 تاريخ تعيينه على رأس مسجد باريس سمحت لي الظروف بمقابلته في عز صراعه مع مسؤول آخر لا مجال لذكر اسمه تفاديا لإثارة مجانية• بعد أن تعرف على تجربتي وتهجمه على ''المثقفين السلبيين الذين لا ينفعون أوطانهم على حد تعبيره''، تحديته ورددت عليه بأن المسؤولين البيروقراطيين هم الذين لا ينفعون أوطانهم ويضعون العراقيل أمامهم فكان أن تحداني هو الآخر بطلب بلورة برنامج ثقافي وتعليمي لمسجد باريس، وقبل الراحل والعضو السابق في جمعية العلماء المسلمين الرؤية التي قدمتها بعد أن تردد بسبب التكلفة المالية، وشرعت في العمل كمسؤول ثقافي عام 1983 إلى غاية تقاعدي العام الماضي• كيف تؤكد أنك قمت بدورك كمثقف تكريسا للتصور الذي قدمته للراحل عباس ولخصوصية هويتك القائمة على تكوين معرفي نظري وآخر عملي ميداني، كما مر معنا من خلال تجربتك في ودادية الجزائريين في أوروبا؟• = انطلقت بالبحث عن الطاقات الجزائرية القادرة على العطاء في مختلف المجالات، وخاصة تلك القادرة على العمل باللغتين العربية والفرنسية، وبدأت في العمل بإمكانيات بسيطة ومحدودة وشرعت في تعليم اللغة العربية والإسلام، وتنظيم محاضرات ولقاءات فكرية دورية تتعدى المجال الديني الضيق وتعالج قضايا ومسائل عميقة وشاملة تمس مختلف الإشكاليات المطروحة في الساحة الإسلامية على أيدي العديد من الباحثين والمفكرين المعروفين وغير المعروفين من الجزائريين والعرب والفرنسيين المتخصصين في الفكر الإسلامي• منهجيا اعتمدنا على الطريقة التربوية التي كانت مطبقة في الجزائر وكيّفناها حسب المقتضيات المحلية على النحو الذي مكّن أبناء الجالية المغاربية والعربية بوجه عام والفرنسيين من الاستفادة نسبيا بيداغوجيا ودينيا ولغويا، وأعطت هذه المقاربة نتائج جزئية مشجعة بفضل تظافر جهود مسؤولي السفارة الجزائرية وبقايا تنظيم ودادية الجزائريين مع مساعي مسؤولي مسجد باريس• عمليا سطرت برنامج محاضرات شهرية تخدم قضايا العالم العربي والإسلامي بوجه عام والجزائر بوجه خاص فدعوت عشرات المفكرين الكبار من أمثال روجيه غارودي، وجاك بيرك، وروجي كاراتنيه، وروجيه آرلنديز، وفانسان مونتاي، وموريس بوكاي، ومحمد أركون، إضافة إلى المفكرين العرب والمستشرقين والجزائريين.. الأمر الذي زرع دينامية غير مسبوقة كانت وراء نقاشات فكرية حامية الوطيس وعالية المستوى، ولم يكن ذلك سهلا في سياق الأفكار المسبقة التي كانت تروج عن هذا المفكر أو ذاك. وبكل تواضع أستطيع القول إن مسجد باريس عرف في عهد الراحل عباس حيوية لافتة مازال يتحدث عنها الكثير إلى يومنا• إلى جانب إشرافي على المحاضرات••• شرعت في تقديم درس الجمعة بعد رحيل الشيخ عباس وقدوم الشيخ هدام رحمه الله ولقد سعدت جدا يوم زيارة مسلمة بلجيكية جاءت إلى مكتبي محملة بكل أشرطة دروسي التي سجلتها عبر إذاعة ''الشرق'' واعترفت هذه المسلمة بنجاعة الأسلوب الذي انتهجته والقائم على الجدية الفكرية والتبسيط والوضوح البيداغوجي واللغوي والتنكيت عندما يكون في خدمة المقاربة المنهجية، وباختصار أدّعي أنني أدخلت الفكر المتنوع إلى مسجد باريس وتجاوزت التزمت والأفكار المسبقة كأن يقول أحدهم كيف تفتحون المسجد لكافر مثل محمد آركون• عملت مدة52 عاما في مسجد باريس وتركت بصمة واضحة، كما يقول الكثير، في عهد الراحل عباس• هل هذا يعني أنه كان أفضل عميد مقارنة بالراحل هدام والحالي الدكتور دليل بوبكر الذي شهد نشأة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية تحت وطأة الرئيس نيكولا ساركوزي؟• ليس من السهل الإجابة عن السؤال لاعتبارات ذاتية وأخلاقية وأخرى خاصة كما تعلم، وكل ما أستطيع تأكيده أن الثلاثة تميّزوا بشخصيات مختلفة على الصعيدين المزاجي والإداري• الشيخ عباس تميز بدينامية لافتة وعرف بمقاومته للتدخلات المشرقية والمغاربية وكان يغير على الجالية الجزائرية في المقام الأول• الدكتور هدام انفرد بحكمته وتبصره وعلمه وأدبه وهدوئه، أما الدكتور بوبكر وكما تعلم فهو ابن هذا البلد ويعرف الوضع من الداخل وله مميزات خاصة، وفي عهده كثر الجدل حول من يمثل الإسلام في فرنسا وأنت تعرف خلفيات الإشكال بحكم إقامتك في فرنسا ومتابعتك للوضع كصحفي جزائري حاور العميدين الأخيرين وسمع الكثير عن الشيخ عباس الذي رحل قبل إقامتك في فرنسا• ألا تعتقد معي بأن شخصية الراحل عباس كانت وراء الانفتاح الفكري الذي عرفه مسجد باريس ناهيك عن جرأته؟ هذه قراءتك للراحل، وكل ما أستطيع تأكيده هو أن المسجد عرف في وقته سجالا فكريا بفضل حضور مفكرين جزائريين وغير جزائريين من الطراز العالي لم يكن يسمح لهم بالدخول إلى مسجد باريس ومنهم محمد أركون وعلي مراد• من لم يسمح لهم بالدخول؟ الفكر المحدود بشكل عام وطبيعة الذين كانوا يعتقدون بأن المسجد لا يسمح بالدخول لغير المصلين والمتقين• تقصد أصحاب النظرة التقليدية لدور المسجد؟ بالضبط• من جوانب بصمتك تمكنك من تجاوز الشوفينية الجزائرية الضيقة وانفتاحك على مفكرين ورجال دين مشارقة قد لا يشاطرون الطروحات الجزائرية بالضرورة• بتواضع أستطيع القول أنني جمعت بين المشارقة والمغاربة خدمة للمصلحة الفكرية العامة، ودعوت المفكرين الذين أسيء فهمهم أو كفروا أو اتهموا بشكل باطل لأنهم دعوا للتجديد الفكري بغض النظر عن هامش اتفاقنا معهم أم لا، كما دعوت آخرين رفضوا المجيء كعبد الرحمان بدوي الذي قال ''إزاي أحاضر في المسجد'' كما دعوت محمود العزب• لماذا لم يبادر مسجد باريس بنشر مجلة شهرية تعنى بشؤون الجالية الإسلامية وبنشر اللقاءات والمحاضرات الفكرية الهامة التي تحدثتم عنها، علما أن بعضها كان في مستوى المناظرات؟ لقد بذلت ما في وسعي وأدخلت المفكرين المغضوب عليهم في الكثير من الدوائر الإسلامية العربية تحت وطأة إيماني بالرأي والرأي الآخر• وكما سبق أن ذكرت فإن مشروع تنشيط المسجد ثقافيا قد أرعب الراحل الشيخ عباس لما كان يتطلبه من مال يؤثر على ميزانية المسجد على حد قوله• وإذا لم نتمكن من طبع المحاضرات ونشر نشرية فصلية على الأقل كما تفضلتم ،فإننا صرفنا المال من أجل استقدام الأساتذة والمفكرين الفطاحل وأنا الذي فرضت إكرامية ولو رمزية على إدارة المسجد تقديرا لهم واعترافا بالزخم الفكري الذي أدخلوه عليه• للتاريخ أقول أنني لم أجد من يمدني يد المساعدة وفي كثير من الأحيان كنت أستقبل وحدي المفكرين وأجمع الكراسي بالتعاون مع بعض العمال وأوزع الشاي وأضبط المحاضرة تفاديا للتجاوزات• إن نشر مجلة لم يكن أمرا ممكنا بحكم هيكلة المسجد وتقاليد تسيير المساجد التي لا تستند على تصور فكري متكامل كما تتصور• ولقد حاولنا عدة مرات وفشلنا فشلا ذريعا وكانت المحاولة الأخيرة مع الإعلامي الراحل مصطفى عبادة قبل اغتياله بقليل والسوري نسيب محفوظ. مسجد باريس يعد معهدا وليس مسجدا تقليديا••• هذا صحيح للأسف الشديد ذريعة الميزانية هي التي كانت وراء توقف نشاط معهد الغزالي لتكوين الأئمة•• هذا صحيح أيضا وفشلنا في ضمان استمراريته رغم البداية الجيدة والوعي بخطورة المنافسة الشرسة التي أصبحت مفروضة علينا من طرف جهات دينية أخرى تصرف أضعاف ميزانية مسجد باريس لفرض وجودها في الساحة الإسلامية في فرنسا، ونظرا لازدياد نشاط منافسينا عاودنا الكرة مؤخرا بفضل مجهودات الأستاذ عبد الكريم بكري والدكتور الصديقي• ألا ترون معي أن مسجد باريس قد دفع الثمن غاليا بعد أن برزت تنظيمات إسلامية مغربية فرضت الظل عليه واكتسحت الشارع والنخبة على السواء، ولا أدل على صحة ذلك اللقاء الفكري السنوي الضخم الذي ينظمه في كل ربيع اتحاد المنظمات الإسلامية بقيادة فؤاد العلوي إلى جانب التنظيمات المغربية الأخرى التي أصبحت تسيطر على المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية • للتاريخ أقول إنه كان بإمكاننا القيام بضعف ما قمنا به حتى لا نترك المجال مفتوحا أمام أطراف أخرى انتهجت طريق المزايدة اعتمادا على أموال بلدان الخليج العربي، وأخرى معروفة بارتباطها مع المغرب• كما ارتبط مسجد باريس بالجزائر• هذا صحيح ولكنه ارتباط تاريخي منطقي وموضوعي مرادف للوسطية والاستنارة الفكرية والانفتاح• أخيرا وكمحصلة منهجية يمكن القول إن تمثيل الجالية المسلمة في فرنسا لم يكن في يوم من الأيام دينيا وفكريا محضا بل خضع دائما لاعتبارات سياسية فرضتها الدول التي تقف وراء هذا التنظيم أو ذاك، وفي كل الحالات راح الإسلام ضحية حسابات سياسوية ضيقة في علاقتها بفرنسا المتلاعبة بالإسلام حسب موازين القوى وتغير وجهة المصالح العليا للبلد• يمكن قول ذلك إلى حد ما، ولا أدل على صحة الأمر الصراع القائم والمحتدم بين تيارات كثيرة تمثلها عدة تنظيمات في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي مازال بعيدا عن طموحات أبناء الجالية المسلمة غير المعنيين بصراع الإخوة الأعداء المتصارعين على المسؤوليات والمناصب• من المسؤول على هذا الوضع؟ الجميع بحكم غياب الانسجام الناتج عن خلافات بلداننا الأصلية ومؤثرات خارجية عديدة.