هذه المقدرة التي لحق بها ما لحق بكل حوافز العمل العربي من ضعف وانحطاط• وما قد يجعل رواية (لعاب المحبرة) أكثر تشويقا هو تفطن المبدعة سارة حيدر إلى حاجة بطلها إلى مجموعة من المرايا التي تعكس له علاماته الفارقة التي لا يمكن أن تبرز وتتحدّد إلا في مواجهة الآخرين• وتلخّص الكاتبة سرّ انجذاب بطلها إلى هذه المجموعة بالاعتراف الجهير التالي: ''لا أستطيع مقاومة لذة الانتماء إلى مجموعة من المنفيين الذين بنوا لأنفسهم وطنا على حدة'' وطن افتراضي تمتد حدوده بين أمواج الموسيقى الكلاسيكية والتيارات الأعماقية المزوّدة بطاقة الكحول، وصحاري الشهوة التي تشبع ولا تشبع وتعوّض ولا تعوّض• هكذا بوسع المؤلفة أن تعتقد أنها أحكمت خيوط الصراع بين مثالية الأرواح الدقيقة من جهة، وخشونة الواقع ومنافاته والألف صدمة اجتماعية وحضارية من جهة أخرى• وعند هذا الحد يكون استمتاعنا بالقصة قد بلغ غايته القصوى، محمولين حدّ الانجراف أحيانا مع تيار اللغة المخملية المتدفقة بقوة الاعتراف وقوة الصراخ في وجه ما يسميه ألبير كامي (صمت ولا مبالاة الكون)• أجل، تلك هي ذروة الشوط الرؤيوي والجمالي، وتلك هي ذورة استمتاعنا لولا••لولا أنه يصعب جدا أن ننسى أن الأمر يتعلق بما لا يقل عن الحكم العربي بأكلمه وبأجمعه وبقضّه وقضيضه•• تحت سنابك الخيول الأمريكية وتحت كل السنابك الشيطانية الأخرى، وفي عدمية قومية مدفوعة إلى أقصى حدودها، مما يجبرنا على التساؤل عن كل هذه المسائل، كل هذه المعضلات: البعث والانحطاط وأمراض الروح الفردية والجماعية، وشروط الانبعاث ومعنى الحياة وهل تستح أن تُعاش، وماذا كانت جميع هذه المسائل مطروحة بنيّة الوصف والعرض أم بنية التفسير أم بنية الحل وتقديم الرؤيا الخلاصية، وفي جميع الأحوال هل هي مسائل مفكّر فيها بعمق يتجاوز ما فعله نجيب محفوظ في (ثرثرة فوق النيل) الأدب الشرعي لرواية لعاب المحبرة وما فعله سهيل إدريس في (الحي اللاتيني) وجميع الرويات / الوثائق المكرّسة لأزمات وصيرورة الحلم العربي منذ (أم القرى) لعبد الرحمان الكواكبي إلى••• إلى (لعاب المحبرة) التي أعادت طرح المسائل نفسها بطريقة لا تخلو من إثارة• ولولا ثلاث••• أو هل يحق للعربي أن يكون عدميا! ''لماذا قد يهمني ما يحدث في العالم؟ هل سألني أحد رأيي عندما سقطت خمس عواصم عربية تحت سنابك الدبابات في بحر شهور قلائل؟ هل أتى الأمريكان لمناقشتي في كيفية إبادة القلة الفلسطينية الباقية في فلسطين؟ هذا ما يقوله وما يعتقده بطل لعاب المحبرة، وهو يترجم خيبته ولامبالاته الفاحشة تلك بالاسترسال مع الكأس وألعاب السرير، وبوسعه أن يصرخ مع جده الشاعر الجاهلي (طرفة بن العبد) أبو العدميين العرب جميعا ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى، وجدّك لم أحفل متى قام عُوّدي! وإذا بها (لولا ثلاث) الروايات الوجودية العربية كلها: كأس وامرأة•• ومروءة! يوازيها غير بعيد عنها (ثلاث) الأغنية الرايوية ومشتقاتها التي لا تتنازل بدورها عن البيضاء أو الزرقاء، و(رأسٌ عامِر) أو تمّ تعميره بعنابة ورجلة غير قابلة للشك النظري أو الخدش العلمي! فهل من شك أن بطل المحبرة قد حصل على كل ذرائعه وخلفياته وأسلافه ونظرائه المرموقين والغوغائيين على السواء، فمنذ طرفة بن العبد إلى سارة حيدر، نموت ونحيا وما يقتلنا إلا الدهر والأمريكان، وما بينهما (الدواهي) التي كثرت وتفاقمت حتى قال عنها العرب: من الدواهي كثرة أسماء الدواهي! ويبقى السؤال الأهم: ماذا يضير طرفة بن العبد أن يقضي يومه أو عمره بين كأس وامرأة وسيف أعمى لا هدف ولا قضية له، في ذلك الزمن الذي لم يكن فيه للعرب ما يخسرونه إلا رحلة الشتاء والصيف وبضعة معلقات••• بينما يخسر بطل سارة حيدر في زمنه، زمن العولمة وصراع الوجود والعدم في فلسطين والعراق وفي كل شبر وذراع من البيت العربي الكبير، يخسر كل المسافة الحضارية والسياسية والعسكرية، والثقافية التي قطعها أبناء وأحفاد طرفة بن العبد على امتداد ألف وأربع مئة سنة، فقد قال ذلك الشاعر الجاهلي قصيدته الشهيرة ولولا ثلاث وهو واقف على الأرض تماما، على أرض الربع الخالي بكل معاني الخلاء والخلوة، بينما يقف بطل سارة حيدر على أكتاف ألف جيل وجيل أو ألف شوط من التجربة والتراكم والموت والانبعاث، مما يدفعنا إلى التشكيك في صدق ذرائع هذا البطل ومتانة مرتكزاته التاريخية والحضارية والسياسية• فبعد ألف وأربع مئة سنة قد يكون الوطن العربي بائسا لكنه ليس مسكينا بحال من الأحوال، فما بال بطلنا البورجوازي المستمتع بحياة سلطانية خالية من كل معاني السلطنة، ما باله ينسى ملايين المطحونين بين صخور الواقع المعيش هنا أو الواقع الاحتلالي هناك، هولاء الملايين الذين تمتد حدود وطنهم الافتراضي بين الحزام الناسف والحزام الكادح، لا يمكنهم أن يكونوا عدميين لا بالفطرة ولا بالاكتساب، لأنهم متى أرخوا قبضتهم على (اليقين) والإيمان لحظة واحدة، تسقط البندقية من أيديهم والفأس والمنجل، هؤلاء كل ما حولهم يجبرهم على الإيمان الغزيزي بمعقولية العالم ومعقولية الأحداث• هذه المعقولية التي يستشعرونها لا عبر الخلايا الرمادية لرؤوسهم بل عبر اللحم والدم وعبر أصابع أيديهم التي يؤمنون بأنها يكفي أن تلمس الأشياء كي تصنع فروقا كثيرة في هذا العالم•