ستتعجب عزيزي القارئ حين تعلم أن المصادفة تعتبر من أهم مصادر الاختراعات العلمية والاكتشافات منذ الأزل، وستزيد نسبة تعجبك واستغرابك حين تقرأ في السطور المقبلة من المقال أن أعظم الاختراعات في تاريخ البشرية جاءت على شكل مصادفة أو أخطاء غير مقصودة، في نوبة نسيان أو إهمال، أو سوء تقدير. والجدير بالذكر أن (المصادفة العبقرية) كما يسميها العلماء قد تحدث مع أي شخص عادي وتمر مرور الكرام، ولكن الأمر مختلف تماما حين تحدث تلك المصادفة مع أشخاص مميزين، حيث تلعب الملاحظة العلمية والذكاء الفطري وسرعة البديهة دورا بطوليا قد يحول الخطأ إلى حلول تسهل حياة البشر. يسرد لنا التاريخ أن أعظم الاختراعات والاكتشافات التي غيرت وجه العالم ومسار البشرية ونقلت الإنسان من مرحلة الجهل والضبابية إلى مرحلة المعرفة والتقدم والحضارة، جاءت على شكل أخطاء عبقرية شهيرة، فمن يصدق أن المصادفة هي التي جعلت أرخميدس يصرخ ويجري في الشارع بثياب الحمام مردداً: (أوريكا.. أوريكا) أي: (وجدتها.. وجدتها) حين اكتشف قانون الطفو الذي يعرف بقانون ”أرخميدس” وهو يغتسل في حمام عام، ولاحظ أن منسوب المياه ارتفع حين انغمس في الماء. كما أن التفاحة الشهيرة التي سقطت فوق رأس نيوتن بمحض المصادفة جعلته يفكر ويتساءل: لماذا سقطت إلى أسفل ولم تسقط إلى أعلى؟! هذا التساؤل الذي قاده إلى اكتشاف قانون الجاذبية. نيوتن لم يكن الوحيد الذي سقطت فوق رأسه تفاحة لكنه الوحيد الذي سأل: لماذا ؟! والمصادفة البحتة أنقذت البشرية حين قادت فليمنغ إلى اختراع (البنسلين) عندما دخلت الأتربة التي تحمل فطراً يحدث عفن من نافذة مفتوحة وسقطت في صحن زجاجي كان فليمنغ يستخدمه في إجراء إحدى التجارب، ونظر فليمنغ في الصحن، فوجد أن العفن الفطري يدمر الجراثيم والبكتيريا فتوصل إلى اختراع البنسلين واستحق جائزة نوبل عام 1945. والمكتشف الفذ كريستوف كولومبس ضل طريقه إلى المحيط الهادي فاكتشف أمريكا وتوفي دون أن يعرف أنه وصل إليها! والغريب أن ألفريد نوبل وجد بالمصادفة ما عجز عن اكتشافه بالتجارب العلمية، إذ بينما كان خارجاً من مصنعه انسكبت على أرضية الطريق كمية صغيرة من (النتروغليسيرين). وأخذت شكل كتلة صلبة ذات مسام بدلاً من أن يكون لها شكل عجينة، فحمل نوبل جزءا منها إلى مختبره وقام بتحليلها بدقة حتى توصل إلى معرفة طبيعتها، وهذا ما مكنه من صنع مادة جديدة آمنة يمكن نقلها من مكان إلى آخر من دون أي خطر، لا تقل قوة عن (النتروغليسيرين) الذي كان قد صنعه ومنعته الحكومات بسبب شدة خطورته وما تسبب به من حوادث قتل أثناء نقله وتصنيعه. الطريف في الموضوع أن ألفريد نوبل قرر تأسيس ”جائزة نوبل” بسبب خطأ حدث في إحدى الصحف، حيث فوجئ نوبل وهو يقرأ في إحدى الصحف بخبر خاطئ يقول إن نوبل قد مات، وقرأ بعده سيلاً من الشتائم التي انهالت عليه باعتباره مدمر البشرية. ومخترع الديناميت الذي أفنى البشر في حروبهم، وأهدى البشرية شقاء لا نهاية له، وحين قرأ بأم عينيه ما لم يجرؤ أحد على قوله في وجهه وهو حي، هالته صورته البشعة، فقرر أن يصحح خطأه ويجمّل صورته بتخصيص جائزة عالمية للسلام والآداب والعلوم المختلفة، أصبح الناس يعرفونه بها ونسي الكثيرون أنه مخترع الديناميت. والمصادفة أيضا نقلت جي كي رولينغ مؤلفة سلسلة روايات ”هاري بوتر” من الفقر والظل إلى الثراء والشهرة، إذ يروي ناشرها أن اجتماعا تم إلغاؤه، منحه وقتا فائضا راح يتسلى فيه بأن مد يده لواحد من آلاف الكتب المقدمة لدار النشر، فوجد نفسه يقرأ ”هاري بوتر” دون انقطاع ويوصي بنشر الكتاب وهو لا يدري أن هذا الكتاب سيدر عليه أموالا طائلة، وسيجعل داره أشهر دار نشر، وكاتبته أشهر وأغنى من ملكة بريطانيا نفسها، حتى لقبت ب”مطبعة المال”، وأصبحت الطاولة التي سمحوا لها بأن تجلس عليها لتكتب مقابل أرخص مشروب، مزارا لكاميرات الصحافة والتلفزيون والمعجبين بها من كل أنحاء العالم. الاختراعات والاكتشافات التي جاءت وليدة الخطأ والمصادفة كثيرة، منها: الأنسولين والبترول والتلسكوب والقنبلة الإلكترونية والميكروويف والبصمة الوراثية والهليوم والآيس كريم وكاميرا الجوال وأعواد الثقاب، وكوكب أورانوس وغيرها الكثير. أما على مستوى علاقاتنا الإنسانية فتلعب المصادفة دورا مهما، فكم من مصادفة عرفتنا إلى أشخاص لهم أهمية وتأثير رائع في حياتنا، وكم من مصادفة جمعتنا مع من فرقتنا عنهم المسافات والسنين، وكم من مصادفة كانت قاسية فصدمتنا في أعز الناس على قلوبنا؟ وكم من مصادفة جعلت حياتنا تستحق أن تُعاش بل وتُروى، فهي حقا كما قال عنها العرب ببلاغتهم الساحرة.. خير من ألف ميعاد بقلم : لبنى الخميس كاتبة سعودية