"يجب على فرنسا ألا تتخلى عن مشروعها الحضاري الذي بدأت بإنجازه في الجزائر"، هذه العبارة ليست لمونتانياك أو روفيغو أو غيرهما من الجلادين الآخرين، إنها لصاحب رائعة "البؤساء".. إنها لفكتور هيغو، الذي بكى وأبكى العالم من أجل كوزيت وغافروش... إنها للكاتب ذائع الصيت، الذي اعتبر روايته "البؤساء" بمثابة احتجاج صارخ على الظلم والإهانة والبؤس الذي يلحق بالإنسان فيجعل الإنسانية تداس بأقدام الظالمين والطغاة... فكتور هيغو وماأدراك ما فكتور هيغو اعتبر استعمار بلده للجزائر بمثابة مشروع حضاري تمديني !. هيغو، الذي دافع عن كوزيت واعترض على موقف عائلة آل تنارديي ومعاملتها القاسية للفتاة الصغيرة، لم يتوان في مساندة بلده الذي حول كل فتيات الجزائر إلى مثيلات كوزيت في المعاناة وأكثر بكثير من هذا. هيغو الذي دفع في روايته بغافروش ليكون طفلا ينتفض ضد الظلم ويحلم بالثورة والعدالة ... قد أصر على جعل كل طفل جزائري جافروش من نوع آخر، يجب قمعه وسلب طفولته وامتهانه. من يقرأ رأي هيغو يفهم خلفيات تعنت فرنسا واستعلائها وغطرستها وتمجيدها لماضيها الاستعماري. إن فرنسا لا تعبأ بالاعتراف، فهي مجرمة شهد العالم كله على جرائمها ونحن لا نريد أن نتعامل مع ذنوبها على النحو الذي ارتأته الكنيسة الكاثوليكية بثنائية (الاعتراف، التوبة)؟. وهاهو الفيلسوف ميشال فوكو يحدد لنا الهدف الأساسي من عملية الاعتراف حيث يقول: "لقد وضعت الحضارة الغربيّة وعلى الأقل منذ العصر الوسيط الاعتراف ضمن الإجراءات الطقوسيّة الأساسيّة التي ينتظر منها إنتاج الحقيقة مع تنظيم سرّ التّوبة من طرف المجمع الدّيني في لاتران (Latran) وذلك منذ عام 1215م". ونحن لا نريد أن نحول جرائم فرنسا للاحتكام الفقهي بسن القوانين والإصرار على إصدارها، لأن هذا يجعل القضية تطرح بنقيضها: هل معنى أنه إذا لم يسن قانون لتجريم فرنسا معناه أن فرنسا بريئة؟ هل معناه أن خلال كل هذه المدة الطويلة التي لم يسن فيها قانون لتجريمها فهي ليست آثمة ؟ هل معناه إذا أصر البرلمان الفرنسي على إبقاء قانون تمجيد الاستعمار معناه اعتراف أن الاستعمار ذو ماض مجيد ؟ هل معنى أنه إذا ما رفضت فرنسا الاعتراف بجرائمها و ما أكثرها أنها ليست مذنبة؟. عندما نتصفح الموسوعة العالمية الفلسفية الجزء الخاص (بتحديد المفاهيم) Encyclopédie des notions philosophiques نجد هذا التحديد لمفهوم الاعتراف: "إن الاعتراف شأنه شأن الأدلة الأخرى متروك لتقييم القضاة الذين يتولون النظر فيه - هكذا يعتبر في القانون الإجرائي الفرنسي للعقاب من خلال المادة 428-....إن الاعتراف ليس سيد الأدلة؛ إذ علاوة عليه يجب أن تكون ثمة أدلة قاطعة وملموسة لإدانة الشخص، وعندما تتوفر الأدلة القطعية يكون الاعتراف بمثابة إجراء أو تقليد وليس إلا..." ونحن إذا ما أخذنا بهذا التعريف الخاص حول الاعتراف فإننا لا نحتاج من فرنسا أن تعترف لنا لأن الأدلة الملموسة كلها تدينها.. ومن هنا تكون مطالبتها بالاعتراف بمثابة طعن مباشر وتشكيك في الأدلة التي تدينها بشكل قطعي. ففرنسا ارتكبت مجازر ضد بلدنا بشكل يجعلها تعجز عن تعويضنا بكيفية عادلة. فلو حولت لنا مثلا جبل جرجرة إلى ياقوت وجبال الأهقار إلى زمرد وأحجار ودياننا إلى عقيق يماني وفيروز فارسي، ولو ضربت بعصا سحرية وأحيت بقدرة قادر كل ضحايا عدوانها فإنها لن تستطيع تعويضنا مهما كان ذلك لأن حجم المآسي والآلام أعظم من أن تقاس بميزان المادة. إن ما نخشاه في الحقيقة من خلال المطالبة بالتعويض هو انحراف القضية عن مسارها الصحيح وأن نستثمر في دم أجدادنا. نحن لا نريد أن نعد آلامهم ومعاناتهم بالنقد. معاناة أجدادنا لا تقيم لا باليورو و لا بأية عملة صعبة أخرى. لا نريد أن تتحول قبور الشهداء إلى بنوك يفتح فيها بعض الانتهازيين أرصدتهم لأنه في هذه الحال سوف لن نختلف عن فرنسا التي حولت عظام الشهداء إلى مادة الجير والجبس. إن الموضوع يحتاج إلى أن ينظر إليه نظرة إنسانية ثاقبة وليست نظرة اقتصادية ولا حتى سياسية إن شئتم. فلنفرض بأن فرنسا قد قبلت تعويضنا، فهل حقا سننجح في انتزاع حق أجدادنا منها؟.. لا والله لن ننجح و لن تنجح فرنسا في تعويضنا عن معاناة الطفل الذي يفزع من نومه عندما يركل مرتزقة فرنسا باب بيته... وآلام الشيخ الذي يحمل بيده الفأس متجها لغرس شجرة وهو يحلم أن يكبر أحفاده فينعمون بثمارها، وإذا بأحد يلحق به وهو يناديه : يا سي محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد ذبح أحفادك في مداهمة للجيش الفرنسي.. فيتحول بفأسه لحفر قبور أحفاده ويقوم بوأد حلم الأحفاد والشجرة المثمرة معا.. وآلام تلك الفتاة التي انتظرت بشوق شديد متى تتبعها زغاريد النساء وهي تزف عروسا إلى بيتها وإذا بزغاريد النسوة تنطلق من بعيد تحيي العريس الشهيد فيتحول خضاب الحناء الى دم قاني اللون.. إنها آلام وآلام وآلام.. آلام شاب خرج من سجنه بعد مكوثه الطويل فيه يهرول ليعاين والديه فإذا به يجد الفراغ يمتد في مكانهما.. لقد رحل الوالدان و ذاقا عصارة الموت والتأوهات : يا ملاك الموت تريث عسى ابننا يحل علينا لنراه قبل أن نوارى الثرى. إنها آلام وآلام.. آلام شاب يبكي : أواه لقد رحلتما أيها العجوزان العزيزان، لماذا لم تنتظراني؟...لماذا حالت بيني وبينكم فرنسا؟ إنها آلام وآلام .. آلام امرأة حرمت من رؤية زوجها لسنين وسنين وحكمت عليها الحرب إن تذوق شيئا من رهبانية مريم عليها السلام، وتعيش راهبة طاهرة تشار إليها الأصابع تلك أرملة شهيد أقسمت على الوفاء لزوجها لأنها لا ترى أن ثمة أعظم منه هو الذي ترك دفء الحياة الزوجية واختار الأحراش والمغارات مجاهدا... آلامها وهي تسمع همس النساء بجوار النبع: لقد هام كلاهما بالآخر لكن أبغض الحرام فرق بينهما ... آلام امرأة حلمت أن تداعب جسم رضيعها الناعم فوجدت نفسها تحمل الرشاش وتكتشف قساوة الحرب التي لا تقاس بمهد الأطفال.. آلام شاب حلم بخطيبته تخرج إليه كملاك مورد الخدين وحلم أن يهديها قطعة حرير وإذا برصاصة قناص فرنسي تباغته ولا تمنح له الفرصة ليقارن بين خشونة الحرب ونعومة الحرير. آلام الذين نهشت كلاب فرنسا لحمهم أحياء وذاقوا كل أنواع الويلات بأدوات التعذيب من خوازيق وصعق بالكهرباء وتقطيع لحمهم أحياء... آلام الذين نفوا إلى كاليدونيا الذين استعملوا كمجسات لتحسس الألغام حين جندوا إجباريا في حروب لا ناقة لهم فيها و لا جمل.. وآلام الذين استعملوا كفئران تجارب في تجارب نووية رهيبة.. إنها آلام .. آلام وآلام وكم هي مؤلمة بمجرد استحضارها وتخيلها وما أدراكم كم هي قاتلة قاسية على الذين عاشوها وتذوقوها. نحن إذن لا نريد أن ينظر إلينا العالم ويقول إن الجزائريين يتعاملون مع ضحايا الاحتلال الفرنسي وكأن فرنسا داهمت إحدى محلات الدمى وقامت بتخريبها ونطالبها بالتعويض. يجب أن نرتقي بمعاناة أجدادنا إلى درجة الإنسانية ويبدو أننا أخفقنا في التعريف بذلك في بلاد الغرب خاصة، وتلك قصة أخرى سنسردها المرة القادمة إن شاء الله. جيجيكة إبراهيمي