العهدة الثالثة لرئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، سيميزها بدون منازع العودة القوية للدولة في تسيير الاقتصاد فمواصلة الدولة لبذل المجهودات في مجال الاستثمار المادي والبشري، وقيامها بالتطهير المالي وتسويتها لوضعية الشركات العمومية، وضخّها أموالا في البنوك العمومية، وكذلك تدعيمها لسياسة القضاء على البطالة وبرنامج التشغيل، وتبنيها سياسة اجتماعية واضحة المعالم، كلها إجراءات تسجل في إطار التوجه المعلن عنه بوضوح اليوم، وهو تدعيم دور الدولة في الاقتصاد الوطني. فكل تعليمات الوزير الأول، سواء منها تلك المتعلقة بالاستثمار الأجنبي المباشر، أو تلك الخاصة بإعادة تنظيم الاستيراد الذي يقوم به متعاملون أجانب، وتلك التي تضع في المكان اللائق مصلحة المتعاملين الوطنيين، عموميين وخواص، وإصلاح قانون الصفقات العمومية الذي يكرّس الأفضلية الوطنية، بحيث تعطى الأولوية للمتعاملين الوطنيين في إسناد الصفقات، كلها إجراءات تصبّ في نفس الاتجاه، وتؤكد عودة الدولة القوية في المجال الاقتصادي. هذا دون أن ننسى أن نذكّر بإنشاء صندوق الدولة للاستثمار، والذي أسندت له مهمة السماح للدولة بتمويل استثمارات عمومية منتجة أو بالشراكة مع متعاملين، خاصة في القطاع الصناعي. ورغم أن الكثيرين كانوا يعتقدون أن مجيء بوتفليقة على رأس الدولة سنة 1999، سيكون بداية مغامرة جديدة لتكريس توجه ليبيرالي، سيخوضه الاقتصاد الوطني، مثلما هي الموضة العالمية آنذاك منذ تبني ما يسمى "بإجماع واشنطن" وما يسمى أيضا ب"الوصايا العشر" التي كان يراد فرضها على كل اقتصاديات العالم والتي تتمثل في: 1 رفض استعمال جهاز الميزانية لدعم الاقتصاد. 2 إلغاء الدعم العمومي. 3 تخفيض الضرائب. 4 تحديد السوق لنسبة الفوائد. 5 تطبيق سعر صرف تنافسي (تخفيض،.....) 6 الانفتاح التجاري. 7 تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر. 8 خوصصة المؤسسات العمومية. 9 عدم التدخل في تنظيم الاقتصاد. 10 احترام الحق في الملكية. وهو ما يعني بكلمة مختصرة، انسحاب الدولة وترك الأولوية للسوق والليبرالية. إلا أن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الحالية جعلت التمسك ب "إجماع واشنطن" أمرا متجاوزا وفي غير محله، فالليبرالية أحدثت أضرارا بليغة، والرأسمالية المنتصرة صارت تتراجع وتتخفى. لكن لا بد من الاعتراف هنا أن التراجع عن الليبرالية في الجزائر، بدأ مع نهاية 2001، عندما أعلن الرئيس بوتفليقة أمام إطارات الدولة أن "لا سوق حرة بدون دولة ضابطة لها" وأن: "المؤسسات العمومية هي ملك للدولة ولا يمكن التخلي عنها". وما ميّز سنوات هذه العشرية (2000) وخاصة في نصفها الثاني، هي السياسة التطوعية القريبة من سياسة سنوات السبعينيات من القرن الماضي، التي أعادت الاعتبار لتسيير الدولة للاقتصاد، ودفعت بالدولة للاستثمار بقوة، خاصة في مجال تجهيز البلاد وفي مجال الهياكل القاعدية، وأيضا في مجال تنمية الفلاحة والمناطق الريفية، وفي قطاع الصناعة في المستقبل القريب، إذ ينتظر أن تتبنى الدولة استراتيجية صناعية طموحة، يتم تحقيق نسبة كبيرة منها من طرف الدولة عن طريق المؤسسات العمومية. أما فيما يتعلق بسياسة الأجور ونسب الفائدة، فما زالت تحدد مركزيا من طرف الحكومة، حتى وإن كانت هناك جلسات تشاور مع المركزية النقابية في إطار ما بات يعرف بالثلاثية. التجارة الخارجية هي حرة في الخطاب، لكنها كانت دائما مراقبة من طرف الدولة في الواقع، إذ يتم وضع قواعد تنظيمها حسب حاجة الظرف، لكن مع الإبقاء على مراقبة المتعاملين في مجال التجارة الخارجية، سواء عن طريق قوانين المالية، أو عن طريق المراسيم الداخلية للبنوك أو عن طريق الإجراءات الجمركية. أما قانون المنافسة فيصادق عليه وينشر ويطبق بنوع من الحذر، ما يعني أن الدولة ما زالت تتدخل في تحديد أسعار بعض السلع. ويمكننا الإشارة هنا إلى أن رئيس الجمهورية خلال عهدته الرئاسية الأولى، أدخل تعديلات على السياسة الاقتصادية بسماحه للدولة بالتدخل على مستوى أوسع، خلافا لما كان يدّعيه بعض وزراء الاقتصاد وقتها. فتم تصحيح الإصلاحات الاقتصادية، مثلما تم تأطير ووضع اقتصاد السوق دون التخلي عنه مثلما تم تنظيم حرية القيام بالأعمال والمتاجرة. وفي الجانب الاجتماعي، يجب الإشارة إلى أن الدولة تقوم بدور نشيط جدا، في مكافحة البطالة والفقر، وخصصت لذلك مبالغ مالية هامة، ولم يبق أمام المتعاملين الاقتصاديين سوى أن ينظموا أنفسهم ويبادروا للاستثمار المنتج الآن، في إطار البرنامج الضخم الذي وضعته الدولة للانطلاقة الاقتصادية والتجهيزات العمومية الذي خصص له مبلغ 286 مليار دولار، وهو ما يمنحهم الفرصة لإنجاح مؤسساتهم الخاصة، وفي نفس الوقت تنشيط وتفعيل الحياة الاقتصادية للجزائر.