من الصعب أن يحافظ المثقف على عقلانيته في ظروف كالتي نعيشها هذه الأيام، لكي يتأمل بعمق ما تعيشه بلادنا من هذا الشعور الغامر بالفرح إزاء ما حققه الفريق الوطني من انتصارات أهلته للوصول إلى نهائيات كأس العالم.. وأي محاولة من هذا النوع ستكون أشبه بمحاولة ل"تشريح فرح".. على منوال "تشريح مؤامرة" الشهيرة..والتشريح هنا يعني القراءة ومحاولة الفهم لا أكثر، لكي لا يذهب تفكير البعض بعيدا.. لا يملك الإنسان في حالات كهذه إلا الإنخراط في الشعور العام الذي يصبح قاعدة تشمل الجميع، كل بمستواه وخلفياته ومكتسباته.. بل سيبدو ربما شاذا لو وجد نفسه غير معني بما يحدث أو غير منحاز لهذه الحشود التي تغنّي وترقص على إيقاع "وان تو ثري فيفا لا لجيري..". ومن هنا يصبح السؤال الملح.. هل من حق المثقف أن ينساق وراء الحشد بشكل تلقائي وطبيعي، أم أنه مطالب بالمحافظة على رزانته وهدوئه ليتأمل ويحاول إعطاء تفسيرات مختلفة لما يتجلى أمامه من مظاهر انخراط كل فئات المجتمع الجزائري في هذه الهبّة الكروية، وما أحدثته من تغييرات جذرية على حياة الجزائريين وعاداتهم وسلوكياتهم؟. كأن يتساءل مثلا : ما هو السر وراء اختيار شعار "وان تو ثري.." الذي صاحب كل الأهازيج والأفراح الجزائرية منذ بداية مسيرة الفريق الوطني، وما دلالات تركيبه اللغوي الذي يتكون من اللغة الإنجليزية والفرنسية، وما دلالات أرقامه، ولماذا كان بلغات أجنبية لا هي بالعربية ولا باللهجة الجزائرية ولا باللغة الأمازيغية؟. الأكيد أن كل هذه المظاهر تتم بشكل عفوي ولا شعوري بريء من كل الخلفيات، مثلما هو حال كثير من يحاولون الإستثمار في أحلام الجزائريين والمتاجرة بأحلامهم ليس إلا، لكن الأكيد أيضا أن الباحث النفسي والإجتماعي سيجد فيها حقلا غنيا للدراسة والبحث.. كأن يتساءل: هل كرة القدم هي مجرد رياضة ولعبة للفرجة أم أنها ظاهرة اجتماعية يمكن أن تكون مناسبة لتفريغ المكبوتات ونسيان الهموم والمشاغل الاجتماعية وتأجيلها إلى حين.. ثم هل إلى هذا الحد لها قدرة على إفراز الكثير من العادات والأنماط السلوكية مثل طرق اللباس وقص الشعر وعادات الأكل والتضامن.. وأكثر من ذلك هل هذا الشعور بالإنتماء الوطني والتعلق بالعلم والنشيد هو شعور طارئ أم متأصل في نفس الجزائري ومستمر في الزمان.. وأين كان مختفيا قبل مناسبة كهذه، وكيف نجعل منه سلوكا يوميا ينعكس على مواطنته بشكل ما؟؟.. هل حضرنا أنفسنا لما بعد هذه المرحلة وكيف سنتعامل معها على أكثر من صعيد، وفي أكثر من مجال، لأن الكثير منا، منذ فترة طويلة برمج نفسه وضبط أجندته على توقيت الفريق الوطني، ونخشى أن نجد أنفسنا بعد نهاية حلم المونديال بلا أحلام أو اهتمامات أو أفراح أوأشياء نشغل بها أنفسنا ووقتنا. والأكيد أننا سننتبه إلى أحلامنا المؤجلة ومشاكلنا التي نسيناها في غمرة الفرح، لكننا أيضا سنستريح استراحة المحارب المنتصر أو المنكسر، ثم نبتكر لنا حقيقة أو وهما يساعدنا على الإستمرار في العيش.. فالحياة هي هكذا. أحمد عبدالكريم