تطرق العلامة عبد الرحمان بن محمد الجيلالي، في كتابه تاريخ الجزائر العام لحياة أول طبيب جزائري في عهد الاستعمار، الدكتور محمد بن العرباي، حيث جاء فيه أن هذا الأخير، يعد من أبرز الشخصيات السياسية المثقفة بالجزائر، ولد شهر ديسمبر 1850 بمدينة شرشال بالساحل الجزائري، من أسرة تعود أصولها إلى الأندلس يعد محمد واحدا من بين ثلاثة إخوة، زاول دراسته بمسقط رأسه بشرشال، إلى أن بلغ السنة العاشرة من عمره، بعدها انتقل إلى العاصمة، حيث التحق بالمدرسة الإبتدائية التي أسسها نابليون الثالث خصيصا لأبناء الأهالي، حيث نال منها الشهادة الابتدائية، وبعد حصوله على الشهادة الإعدادية، التحق بكلية الطب ليتحصل سنة 1884 على شهادة الطبيب بعد عرضه لمذكرته، بجامعة باريس، حينها قال له رئيس لجنة الامتحان عند مناقشته لرسالة التخرج، معترفا بفضل العرب على الغرب في ميدان الطب “ها نحن أرجعنا لكم اليوم ما كنا استلفناه من علوم أجدادك”. وقد رافقه يوم الامتحان شاعر فرنسا العظيم، فيكتور هيجو، وكان هذا الأخير معجبا بنبوغه فعانقه وهنأه ثم كان صديقا له فيما بعد. وكان موضوع النقاش في أطروحته، حول مسألة أقصى أمد الحمل والأمراض المنتشرة في بلاد البحر الأبيض المتوسط، وخاصة منها الجزائر، وتعرض في ذلك إلى ذكر العلاج بالطريقة التقليدية ثم بالطريقة العصرية على ضوء الاكتشافات الحديثة. بعدها عاد الدكتور ابن العرباي من باريس يحمل شهادة جامعتها الكبرى، لينفع بني وطنه بعلمه في مجال الطب، حيث زاول مهنته في نواحي مختلفة من أنحاء القطر الجزائري، وكان كلما دخل بلدة إلا وتعلق به أهلها، وأجلسوه منزلة تليق بمكانته. غياب الدكتور عن العاصمة جعل أهلها يلحون عليه للعودة، وهو ما استجاب له، فحظي باستقبال كبير، وحضروا له حفلة تكريم خطب فيها خطباء، أثنوا على حسن نشاطه وإخلاصه ووفائه لزبائنه ونصائحه التي لا ينفك يسديها لكل من عرفه، ومن بين الخطباء الشيخ محمد بوقندورة، مفتي الحنفية بالعاصمة. اشتغل الدكتور ابن العرباي بالحياة السياسية الجزائرية زمنا طويلا، حيث كان معروفا بتواضعه في عمله وجهاده، لا يخاصم أحدا، ولم يكن يبغي من ورائها رئاسة ولا وساما. في سنة 1888 ترشح للنيابة بالمجلس البلدي، فانتخبه الجمهور بإجماع، وكانت له مواقف مشرفة، منها دفاعه وتصديه لتخطيط الحكومة الفرنسية، لقرار تحطيم الجامعين الكبير والصغير، قصد تشييد مكانهما فندقين، وتقرر تنفيذه بأمر من الوالي العام، وهو القرار الذي رفضه الدكتور، وترجمه من خلال الاحتجاج الذي شنه بمعية المواطنين ورجال السلك الديني، أسفر عن إسقاط هذا المشروع. وما يعرف عن الدكتور ابن العرباي، هو حرصه على أن لا يفوته شيء مما كان يجري في مجالس الحكومة بخصوص المسائل الجزائرية والإسلامية، حيث كان يحضر المجلس الذي يستغرق الاجتماع فيه ساعات طويلة، ولم يكن يكل أو يمل، بدليل أنه في شهر رمضان المعظم كان يدركه وقت الغروب، فلم يكن يترك المجلس قصد الإفطار، وإنما كان يستمر في متابعته للنقاش إلى النهاية، وهو ما جعله يحوز على احترام الجميع، لاسيما لدى طبقة المثقفين من الجزائريين والفرنسيين على حد سواء. في سنة 1891، أحدث الدكتور ابن العرباي ضجة في الصحافة، وفي المجالس النيابية، استنكارا لعزم الدولة الفرنسية سلب الشعب الجزائري حياته المعنوية والروحية بتجريده من شخصيته وقوميته وتقاليده الإسلامية وأحكامه الشرعية من خلال حذف المحاكم الشرعية، وتعويضها بمحاكم صلح يرأسها قضاة غير مسلمين. وقد نتج عن تحرك ابن العرباي بتجاه الحفاظ على حياة الشعب الروحية والمعنوية إلى اضطراب البرلمان الفرنسي، أسفر عنه تشكيل لجنة برئاسة السياسي الشهير، جون فيري، قصد البحث في الموضوع، وكان فيما قررته هذه اللجنة إجراء استفتاء لدى نواب الجزائر المسلمين في ثماني عشرة مادة هي المعارف - الأحكام العدلية الإسلامية ومحاكمها - المجابي والضرائب - إعانة الفقراء والمساكن - الملك المشاع وتأسيس الملكية - أخذ الملك للمصلحة العامة - أخذ الجار بذنب الجار - القوانين الزجرية - التجنيد -التجنيس - الانتخابات العمومية - مجلس الشورى العام - المجلس الأعلى - النيابة الأهلية في البرلمان - المجلس الجنائي - الغابات - الربا - وظيفة الوالي العام. وبعد نظر نواب الجزائر في الأمر، قرروا فيما بينهم إسناد الجواب عن هذه المهمة إلى الدكتور ابن العرباي، هذا الأخير تحمل المسؤولية واشترط أن يكون جوابه شفهيا، ومباشرا لحكومة باريس، ورأى أن يشاركه في مهمته، محمد بن رحال، وهو من كبار ساسة الجزائر وعلمائها المخلصين. في أوائل جويلية من سنة1891، اجتمعا بباريس بأعضاء اللجنة البرلمانية ووقع بينهم نقاش في جميع النقاط المشار إليها سابقا، ووضع في ذلك تقرير أمضاه الطرفان. ويختم العلامة عبد الرحمان الجيلالي حديثه عن الدكتور محمد بن العرباي بقوله “هكذا عاش الدكتور محمد بن العرباي، يعمل بدأب مستمر لأجل العروبة والإسلام، فخدم وطنه الجزائري بإخلاص، ورغم كبر سنه وكثرة أشغاله، كان يحضر معنا دروس شيخنا عبد الحليم بن سماية، التي كان يلقيها بالجامع الجديد بالعاصمة، وتارة نراه يبحث معنا ويسأل الشيخ ويناقش على سبيل الاستفادة والاستزادة من العلم، واستمر على سيرته متمسكا بإسلامه مدافعا عن دينه، إلى أن وافاه أجله المحتوم، فانتقل إلى رحمة الله، وفضل عفوه ليلة السبت 6 رمضان 1358 الموافق لشهر أكتوبر من سنة 1939، ليدفن بمقبرة القطار بالعاصمة”. ملاحظة: كتب اسم الدكتور في كتاب ألفه العلامة عبد الرحمان الجيلالي ب”محمد بن العربي “، غير أن شهادة ميلاده المستخرجة من بلدية شرشال كتب فيها محمد بن العرباي بزيادة الألف.