بين ماض ارتبطت بدايته مع مسلسل “الحريق” وأعمال أخرى تراوحت بن الحضور والغياب، تضيع ملامح الدراما الجزائرية التي لازالت - حسب رأي المختصين - تتخبط إلى الآن بين مشاكل الإنتاج والسيناريو وبين مشاهدين يبحثون عن الفرجة عربيا، في انتظار تحسن حال إنتاجهم المحلي؛ الذي لم ينجح إلى الآن في تجسيد ما يصطلح عليه بتاريخ الدراما الجزائرية.. “الحريق”.. المسلسل الوحيد العالق في ذاكرة المشاهد الجزائري في حديثنا إلى عدد من المخرجين وكتاب السيناريو في الجزائر، أجمع هؤلاء أن المشكل الأساسي لم يكن أبدا في غياب الإطارات والمواهب الإبداعية في الجزائر، والتي يمكنها أن تتحدى بأعمالها ما ينتج عربيا، وإن كانت هذه الأعمال باتت تزاحم إنتاجهم حتى على قنوات التلفزيون الجزائري الذي يعد حاليا الزبون الوحيد المتاح أمامهم.. إن رضي مسؤولوه بما يقدم إليهم في ظل غياب مؤسسات إنتاج بديلة. وعليه وجد أصحاب هذا المجال أنفسهم في مواجهة تحديات أكبر من الإمكانيات المتاحة أمامهم، وهو ما أرجعوه إلى غياب سياسة ثقافية تحترم الإنتاج الوطني وتشجع الفن المحلي. وفي المقابل ،وبعيدا عن مشاكل العاملين في مجال السمعي البصري، وجدنا أن المسلسلات الجزائرية التي يتذكرها المشاهد الجزائري، على قلتها، يمكن أن تعد على أصابع اليد الواحدة، حتى أن هناك من كان يجد صعوبة في تذكر عناوينها أو أسماء أهم أبطالها، في الوقت الذي لا زال يتذكر أولى المسلسلات الجزائرية بالنظر إلى قيمتها الفنية والإبداعية في طريقة العرض والتناول، في مفارقة يصعب فهمها، على غرار “الحريق”و"دار السبيطار" وبعض أعمال المخرج الراحل جمال فزاز، خاصة “المصير”، دون تجاهل حرصهم في كل مرة على المقارنة بين الأعمال الجزائرية والعربية، والمطالبة بالوصول إلى إنتاج مماثل في المستوى. مصطفى بديع وجمال فزاز.. الإستثناء بالعودة إلى آراء المختصين، اعتبر المخرج والسيناريست الجزائري حاج رحيم، أن فترة السبعينيات عرفت البداية الفعلية للدراما الجزائرية، وهذا بعد أن كانت السينما الجزائرية قد عرفت انتشارا مميزا لها بعد الإستقلال، حيث كانت البداية مع مسلسل “الحريق” للكاتب الجزائري محمد ديب، والذي أخرجه للتلفزيون مصطفى بديع عام 1974.. حيث يعود المخرج إلى هذه الفترة بالقول إن العاملين في القطاع بذلوا ما عليهم لإعطاء الأعمال المحلية صبغة جزائرية بالحرص على أن يكون الحوار باللهجة المحلية، حيث يؤكد رحيم أنهم كانوا يجدون في البحث عن معاني الكلمات المتداولة بالفرنسية والبحث عن ترجمة لها بالعربية في سبيل إعطاء هذه الأعمال الهوية الجزائرية، خاصة أنها كانت تتناول مواضيع تهمهم لاسيما معاناة الأسرة الجزائرية مع الإستعمار. ويواصل المخرج أن الدراما الجزائرية عرفت حضورا مكثفا مع مر السنين، خاصة في الثمانينيات رغم أنها لم تكن بالقوة التي شهدتها في بدايتها مع أعمال المخرج الراحل جمال فزاز، الذي يقول إنه حاول تقديم رسالة من خلال أعماله، وقد نجح في ذلك. وعاد المتحدث إلى القول إن المشكل الذي يواجهه العاملون في القطاع حاليا؛ هو مشكل مادي بحت في ظل الإستمرار في عدم الإهتمام بالثقافة، وهو ما يعتبره العائق الأول أمام المواهب القادرة على تقديم الأحسن في هذا المجال، حيث قال رحيم إن الفنان - إلى حد اليوم - يفتقر إلى تشريع يمكنه العمل تحت لوائه، ليتحول بذلك إلى عامل عادي ينتظر بعد نهاية كل عمل يقوم به الحصول على مقابل مادي . السينارست عيسى شريط، يقول إنه لا يمكننا إلى الآن الإقرار بوجود تاريخ للدراما الجزائرية، وهو الأمر الذي أرجعه إلى أن ما يقدم حاليا لا يرقى إلى اعتباره فنا يمكن الإعتراف به، في ظل وجود دخلاء على هذا المجال الذي لا يعطي الأهمية ولا يمنح الفرصة أمام الطاقات القادرة فعلا على العطاء وتقديم أعمال يمكنها الدخول في المنافسة، حيث اعتبر شريط أن هناك من لا يتمتعون بالموهبة الكافية التي تمكنهم من العمل والرقي بهذا المجال، خاصة أن السياسة الثقافية الحالية باتت تشجع الرداءة على حساب الذوق العام. وعند سؤاله عن أهم ما أنتجت الدراما الجزائرية في نظره منذ بداياتها الأولى، قال المتحدث :”لا يحضرني في الوقت الحاضر إلا مسلسل “الحريق” للمخرج مصطفى بديع”. من جهتها، المخرجة باية هاشمي بدت مستاءة من السياسة التي ينتهجها التلفزيون الجزائري، وتساءلت عن كيفية الحديث عن تاريخ للدراما الجزائرية إذا كان الممول الأول لهذه الأعمال يصر على الكيل بمكيالين، وعرقلة ما يقدم من مشاريع درامية.. في الوقت الذي يحرص فيه على جلب الإنتاج العربي وإعطائه الأولوية على قنواته على حساب الإنتاج المحلي. وأضافت مخرجة مسلسل “القلادة”، أن البداية في التلفزيون ربما تكون مع “الحريق”، إلا أنها متأكدة من أن فترة الثمانينات عرفت إنتاجا معتبرا للمسلسلات، وذلك بتمويل من المؤسسة الوطنية للإنتاج السمعي البصري التي سمحت بظهور المخرج جمال فزاز، الذي تؤكد أنه قدم أعمالا مميزة تستحق الإشادة. وتواصل باية قائلة إنه بعد حل المؤسسة الوطنية للإنتاج السمعي البصري، في نهاية التسعينيات وإيكال الإنتاج إلى مؤسسة التلفزيون الجزائري، تغير الوضع وتراجع الإنتاج الذي يعرف تدهورا مستمرا سيضطرها - حسب قولها - إلى التوقف عن تقديم مشاريع درامية مستقبلا، لأن إنتاج عمل واحد سنويا حسبها، لا يمكنه أبدا أن يسمح بحدوث تطور وتحقيق انطلاقة جديدة للدراما الجزائرية. وتختم باية بالقول إن أهل الفن سينظمون قريبا إلى قائمة البطالين. أما كاتب السيناريو محمد شرشال، فقد قالها صراحة: “لم يتم إلى يومنا هذا التأسيس لدراما جزائرية واضحة المعالم”، موضحا أن كل ما أنجز لحد الآن من مسلسلات يدخل في إطار المبادرات الفردية. فالمتحدث يؤكد أنه باستثناء مسلسلي “الحريق” لمحمد ديب و”موعد مع القدر” لكريم خديم، تبقى جل المسلسلات المنتجة حصريا من طرف التلفزيون الجزائري وعلى مر أربعة عقود، ضعيفة إلى أبعد الحدود وعلى كل المستويات، وهو ما حال دون وجود فترة محددة لبداية التأسيس للدراما الجزائرية. وقد أرجع شرشال ذلك إلى جملة من الأسباب، بداية بتجاهل الطبقة السياسية لهذا الموضوع، وعدم الإهتمام بنهضته اعتقادا منهم أنه ليس من الأولويات، وعدم قناعتهم أن الدراما يمكن أن تكون مادة اقتصادية، تدخل من خلالها سوق العرض الذي أصبح تحت سيطرة الدراما السورية، التركية، وحتى الإيرانية التي بدأت تظهر مؤخرا. أما السبب الثاني، حسب شرشال، فهو في ضعف التكوين في هذا المجال، موضحا أنه في الوقت الذي نلاحظ فيه اهتماما خاصا بالتكوين في الدول العربية التي أصبح لها باع في الميدان من حيث إنشاء الأكاديميات والمعاهد الفنية، نجد غيابا صارخا في هذا الميدان في الجزائر. والمعهد الوحيد الذي يعتني بالتكوين في مجالي السمعي وفنون العرض، يتخبط في مشاكل لا حصر لها، كانعدام المناهج، وضعف التأطير. أما السبب الثالث فقد اختصره السيناريست شرشال في الغياب الكلٌي لهياكل النهوض بالدراما، كاستديوهات التصوير والتركيب والمعالجة، وما يتبعها من منشآت تعمل بشكل عام في إنتاج الدراما والترويج لها وتسويقها. وبالتالي يختم شرشال رأيه بتجديد قناعته أن ما أنتجتاه لحد الآن من مسلسلات لا تمكننا من الجزم بأننا نملك دراما جزائرية، فالكم المنتج ضئيل جدا مقارنة بالآخرين، والنوعية لا تستطيع أن تنافس المستوى الراقي الذي بلغته الدراما الأخرى (السورية، التركية، الإيرانية). ولإعطاء وجه مشرق للدراما الجزائرية والنهوض بها والتأسيس لها، حدد شرشال عددا من الشروط التي لابد منها، بداية بضرورة التفكير في وضع استراتيجية وطنية تتبنى المشروع بمشاركة المجتمع برمته، مع التفكير في التكوين الجيد للممثلين، المخرجين وكل المتعاونين الفنيين، دون تجاهل ضرورة إنشاء مدينة للإعلام وتجهيزها بأحدث الوسائل، وخلق المحيط الملائم والنقي لاكتشاف وتشجيع وحماية كتاب السيناريو، وأخيرا مواكبة العصر ودخول سوق الدراما بفتح مجال قطاع السمعي البصري، وإنشاء قنوات تلفزيونية خاصٌة، قصد وضع مناخ للمنافسة والرقي بمستوي مسلسلاتنا التي ما زالت تتخبٌط في السطحية والسذاجة. يذكرون مسلسلات السبعينيات ولا يذكرون مسلسلات الألفية الثالثة! بعض المشاهدين ممن التقتهم “الفجر” واستقصت آراءهم في الإنتاج الوطني وأهم المسلسلات الجزائرية، تحدثوا عن آخر إنتاجات التلفزيون الجزائري في سنواته القليلة الماضية، خاصة “الذكرى الأخيرة”، الذي عرض في رمضان الفارط إلى جانب “البذرة”، أما البقية فقد كانت غائبة لأنها ببساطة لم تكن بتلك القوة الدرامية التي تؤهلها للبقاء في الذاكرة. إلا أننا فوجئنا أن الأمر اختلف وكانت ذاكرتهم أكثر وضوحا عندما حاولنا معهم النبش في الذاكرة بين الأعمال التي عرفها بداية من السبعينيات فوجدناهم في كل مرة يستذكرون أعمال الكاتب الكبير محمد ديب، والتي أبدع في تقديمها تلفزيونيا المخرج مصطفى بديع، وكان الأمر نفسه مع الأعمال التي قدمها المخرج الراحل جمال فزاز على غرار “المصير”، حيث كانوا يتذكرون أدق التفاصيل وأهم الأبطال، وهو ما لم يكن ممكنا مع الأعمال التي لم يتعد عمرها سنوات. ومما سبق يمكن القول أنه يصعب إلى الآن، في ظل محدودية ما تم تقديمه من حيث الكم والنوع، الحديث عن وجود تاريخ للدراما الجزائرية، وذلك بسبب حدوث قطيعة بين ما أنتج سابقا خاصة في الثمانينيات وحتى السبعينيات وما قدم مؤخرا، في ظل استمرار المشاكل التي لايزال يتخبط فيها الإنتاج المحلي.