أن تعود إلى الساحة الأدبية الشعرية بعد سبع سنوات من الغياب، هو في حد ذاته تحد جميل.. وإن كان شاعرنا الطيب لسلوس يرى فيه تريثا مستحبا، ليعلن عن مولد تجربة جديدة أراد من خلالها نسف ما كان يعرف عن أغراض الشعر القديمة، فجاء معها متلبسا بإشكالات تخص الإنسان عموما وتمس الإنسان المغاربي بشكل خاص في "الملائكة أسفل النهر". الشاعر الطيب المسكون بالرمز الجزائري التقيناه وسألناه عن الشعر والشعراء وحالهما فكان لنا معه هذا الحوار. أستغرب كيف تكون للجزائر جائزة باسم رئيس الجمهورية وقيمتها لا تتجاوز الخمسة آلاف دولار ليس هناك أسهل من النشر في الجزائر، إذا كان العمل جادا ومميزا بعد سنوات من الإلتحام بالشعر تجسدت في تجربة ديوانك الأول "هيروغليفيا" سنة 2003 تطل علينا بعد سبع سنوات بمجموعتك الثانية "الملائكة أسفل النهر"، هل هذا يعكس تقصيرا منك في الإنتاج، أم أن للأمر علاقة بالنشر؟ هناك دوما متسع من الوقت كي يرى الآخرون ما أنجزناه، لكن ليس هناك فرصة أخرى للمراجعة بعد حكم القارئ على تجربة ما، وهذا ربما يدفع بي إلى التريث قدر ما استطعت في الخروج إلى القارئ. كما أن الشعر شكل لي دوما فائض قيمة لأعمال أخرى أقوم بها وهي البحث في تاريخ الرموز والأساطير المغاربية. لذلك لا أستطيع أن أقول إنني أعاني من النشر، بل ربما ليس هناك أسهل من النشر في الجزائر إذا كان العمل الذي نتقدم به عملا جادا ومميزا، وهذا في اعتقادي على الأقل. ما الذي أردت أن تبوح به من خلال ديوانك الأخير؟ لا أدري بالضبط ما الذي أردت أن أقوله في عملي الأخير. ربما أردت أن أظهر متلبسا بإشكالات تخص الإنسان عموما وتمس الإنسان المغاربي بشكل خاص في "الملائكة أسفل النهر" فرأيت بوضوح من الحادث ما لا يحدث، ومنه تبصرت خلاصات الملائكة من وهم وجودهم عالقين في مادة وجودهم. وجربت الإنسان الجزائري في أقصى ضياعاته مع قناعتي في أننا نعاني أكثر من أي شعب في الأرض من غياب الأسطورة الشخصية، كما يسميها الروائي بورخيس خروخي. ولهذا ربما أبدو متحاملا على الرواية الجزائرية حين أقول إنها تواطأت مع مشروع الدولة الحديثة بكل مراحله على حساب تثمين البحث الاركيولوجي لطبقات تعرف وتوضح الإنسان الجزائري على مرّ التاريخ. فأنا أرى أن هناك عدم اكتراث لما يؤسس الإنسان بوصفه كائنا رمزيا. فأنا بذلك أردت أن أقول إن الشعر وغير الشعر إذا لم يكن قادرا على تشكيل ملامح الهوية وتأليف متناقضاتها، فهو أدب غير حرّ، أو يخاف من الجغرافيا المظلمة التي عليه أن يضيئها بإبراز وجهها المحلي في شكل إنساني وكوني من خلال الانغماس في رحم المحكي في بعده الراهن والتاريخي. "الملائكة أسفل النهر" هي ناي وملك ونهر أزرق يجري هنا منذ سبعة آلاف سنة هي استراق السمع إلى وشوشات هذا النهر وعذاباته في نفض غبار الأزمنة على كنوزه. كيف تتشكّل القصيدة لديك، أو بمعنى آخر ما هي الطقوس التي يمكن أن تساعدك في إنتاج الكلمة، هل هي لحظات انفعال وانكسار أم لحظات صفاء وجداني؟ في اعتقادي الطقوس ليست حالة نفسية والكتابة بدورها ليست حالة عاطفية، وبالتالي لا علاقة لها بالإنكسار أو الصفاء الوجداني. وعن تجربتي مع الشعر أفضل أن أحدثكم عن الكآبة الصافية - إن صح التعبير - شريطة أن لا تروا الأمر من زاوية ما ورثناه عن مفهومها من معاني نفسية سالبة. فالكآبة الصافية التي أقصدها تدفعني إلى الحديث عن حالة من الاشتعال تجعل السعي إلى الأشياء يشبه نقل القدم من قمة إلى قمة دون حاجة النزول إلى السهل. ذلك هو الطقس.. لا أتكلم هنا عن الإنفعال وما يتعلق بالنفس، إنني أتكلم عن حالة وعي شديدة تجعل العالم والأشياء تضيء وتتأنسن للإنتصار ولو مؤقتا على صمتها الأبدي، ومن ثم يجري جدول الكتابة ويجري. تعد من بين الناشطين في المجال الثقافي، كيف يمكن أن يقرأ شاعرنا راهن المشهد الثقافي في الجزائر؟ أظن أن المشهد الثقافي، على ما فيه من ارتجال، يعرف تقدما من المشافهة إلى التدوين، خاصة أننا نلتقي في المعرض الدولي كل عام، ولا يكاد كاتب أو فنان إلا وله عمل جديد وهو ما لم يكن يحدث قبل سنوات قليلة. فلقد أصبحت المهرجانات بوصفها عملا جماهيريا شفويا قليلة، في حين تصاعدت أرقام النشر سواء في دور النشر الخاصة أو العمومية، وهناك دور نشر أصبحت تراهن على أسماء دون أخرى، إلا أن ذلك لا ينفي أننا خرجنا من حالة أولى للنشر إلى حالة أكثر احترافية. والأمر يحتاج إلى سنوات ومراحل ليتشكل وجه المشهد الثقافي بهذه المعايير، غير أن بطء السير نحو التشكل هو الإشكال مع أن الوضع يسمح بالسرعة. ومقارنة بما كان فلا تكاد تمر مناسبة عربية إلا ويتألق فيها اسم جزائري بالترشح أو بالفوز بجائزة في البحث أو الإبداع. وهذا أمر يدعو للتفاؤل مقارنة بما كان. تنتشر خليجيا موضة مسابقات الشعر وارتباطها بالملايين، هل هي فرصة لاكتشاف المواهب؟ شخصيا لا أميل إلى هذا النوع من المسابقات. لا يعنيني ما يحدث في الخليج لأن رهان دول الخليج على الشعر والرواية وغيرها يختلف تماما على رهانات المشهد الثقافي الجزائري. لذا أفضل الخوض في الجائزة الأدبية في الجزائر التي أتساءل عن سبب غياب تثمينها بوصفها جوازا فنيا حقيقيا سواء تعلق الأمر بالشق المادي أو المعيار الأدبي. و أنا أستغرب كيف تكون للجزائر جائزة باسم رئيس الجمهورية وقيمتها لا تتجاوز الخمسة آلاف دولار في بلاد أحد روائييها الطاهر وطار وبوجدرة رشيد، ومحمد الديب وغيرهم، لماذا لا تكون هناك جائزة في الجزائر يتسابق عليها العرب وحتى من العالم.. وأنا أجزم أننا قادرون على ذلك . الفعاليات الثقافية في الجزائر على كثرتها وتنوعها، هل تعني أن الثقافة بخير، وأن الجزائر تؤسس لتقليد ثقافي لها؟ إذا كنت تقصدين بقولك "إن الثقافة بخير" هو أن القطاع مؤسس أو يتأسس، فأقول نعم، وهناك عمل ثقافي يتأسس ولو ببطء ويتعثر ولكن موجود ويدافع عن كيانه. غير أن كل هذا ما يزال مجهودا فرديا لأشخاص يمثلون الجزائر في الخارج والداخل بجهدهم الخاص. ولا ينقص الجزائر الهياكل الثقافية فهي موجودة وبكثرة ربما أكثر من أي دولة عربية، ولكن الغائب الحقيقي هو تفعيل هذه المؤسسات لإدارة الشأن الرمزي في المجتمع، عبر اختيار الكفاءات الثقافية القادرة ميدانيا. العوامل التي تؤثر في الشاعر كثيرة، فما هي العوامل التي تحرك ملكة الشعر لديك؟ أنا متعصب لفكرة أن العالم أكثر ثراء في وجهه الباطني، كما أن كل ما من شأنه أن يتفاعل وقابل للأنسنة هو شأن شعري، وشخصيا أجد الأساطير والرموز والحيوات السابقة، تدعوني دائما للحوار معها لخلق وشائج تجعلها تطير وتفكر وترى من جديد وهي القادمة من سحيق الأزمنة. لا أذهب بعيدا في التفكير عن الإنسان ومعه بالنسبة الإنسان في أكثر الحالات تلبسا بالتاريخ وراهن القول أو الصمت موجود وقريب إنه بجانبي، في الشارع، في الحافلة، في العمل، لأنه هنا. هناك تقسيمات ترى أننا نعيش زمن الرواية مع اعتبار أن الشعر الحلقة الأضعف أدبيا، هل يمكن القول إن الأجناس الأدبية تسرق الأضواء من بعضها؟ زمن الرواية.. زمن الشعر.. الأمر لا يكون على هذا النحو أبدا، فللشعر والرواية وأي فن آخر زمن واحد. وهذه النظرة الأحادية التي تشكلت ربما السبب الرئيسي فيها هو بعض المفاهيم الجديدة في إدارة المعرفة التي يعد الإعلام أحد ركائزها. فصناعة الأدب عبر الوسائط تحاول أن تؤقلم طبائع بعض الفنون لجعل شكل الرسالة يتأقلم مع الوسيط على غرار صناعة نجوم الغناء والسينما والمسرح التي ورطت إعلاميين في سحب نفس المعايير إلى صناعة نجوم للأدب. وبما أن الرواية في طبيعتها تتسق أكثر من الشعر مع مبادئ التسويق الإعلامي نجدها تتصدر المشهد في الوقت الذي يبدو فيه الشعر وربما غيره من الفنون غير قابل للتطويع ولا يمكن تسويقه بالطريقة ذاتها وعلى نطاق أوسع. وحين نتكلم عن الرواية نتكلم عن فن يكاد يقترب من فيلم مكتوب أما الشعر فله مميزات أخرى. ومن هذا المنطلق أردت أن أقول إن طبيعة الشعر في حد ذاتها كنص تفرض عليه بعضا من الخصوصية. ماهي أقصى أنواع الظّلم الّتي تراها تمارس في حقّ الشّعر العربي؟ الأصح في نظري أن الظلم يمارس في حق الشاعر العربي، الذي يريد أن يقول لأمم وحضارات أخرى إننا أمة تستحق الحياة والجمال والحرية فتكبله الصفات، الشاعر الذي يقول إن طائر الشعر لابد أن يكون حرا ليغني فيصفق له الجميع اليوم.. وفي الغد يطاردون كل الطيور.