في كل مرة تذكر فيها كلمة جانت، تقفز إلى أذهان الكثيرين، مشاهد السحر الطبيعي الصحراوي، والرمال المتأهّبة لاستقبال أفواج السيّاح الأجانب، لكن دعونا اليوم نوجّه الكاميرا إلى الوجه الآخر، لهذه المنطقة في العمق الجزائري والتي لم تصلها يد التنمية بعد الحقيقة أن كل من كتب في السابق عن منطقة جانت، تجاهل المدينة وركّز على المناطق السياحية المتاخمة لها. وحتى تحقيقات التلفزة لم تنصفها، ربما لأن الكاميرات والأقلام التي دخلت المنطقة، ذهبت في زيارات رفقة وفود رسمية وفق برنامج مسّطر سلفا، أي زيارة سياحية بحتة، فمن أكل للمشوّي، إلى سهرات لشرب شاي الصحراء والتمتع بالنغم والرقص الترقي، أو في زيارات قصيرة اقتصرت على إطلالة خفيفة على ما تزخر به صحاري جانت من آثار ونقوش حجرية. زيارتنا للمنطقة والتي دامت لأكثر من أسبوع (بدون تذكرة) سمحت لنا بالتجوّل في أغلب شوارع المدينة وبعض النواحي والاطلاع على حياة سكانها، والتكلم مع مختلف مكونات التركيبة البشرية، وخاصة البسطاء الذين يتكلمون بقلب مفتوح وبعفوية، صفة قلّما نجدها في منا طق أخرى.. آلاف الهكتارات تبحث عن مستصلح بداية التحقيق كانت مع قطاع الفلاحة، حيث الأراضي العذراء المتميزة بالخصوبة، هذا القطاع الحساس الذي لا تعرف منه المنطقة إلا الاسم ، باستثناء الاستثمار الفلاحي لأحد الخواص الوافدين من غرداية والمدعو قمبار، لا يغطي سوى الاستهلاك الذاتي لصاحب المستثمرة، وأحيانا يتصدّق من المنتوج على الفقراء حسب ما حدثونا عنه، أو محيط الاستصلاح في منطقة تيغرغرت، وهو محيط في طور التهيئة لمنحه للمستفيدين، والمتواجد بالمحاذاة من طريق مطار جانت الذي يبعد عن المدينة ب 30 كلم، وهنا وقفنا على تذمر بعض الشباب العاطل عن العمل الذين التقيناهم، بسبب الغموض في عملية تعيين المستفيدين، حيث رفضت إدارة الفلاحة استلام طلبات الاستصلاح بدون أن تعطيهم أسباب واضحة لذلك. وفي هذا المجال، تكمن معاناة سكان مدينة جانت ونواحيها في أنهم باتوا ومنذ أمد طويل، رهينة لما يأتيهم من ولايات الشمال الشرقي كولاية المسيلة وولاية باتنة من خضر وفواكه، أما عن السعر فحدث ولا حرج، ونكتفي بمثال عن سعر الكيلوغرام الواحد من البطاطا باعتبارها مادة استهلاكية رئيسية، إذ يصل السعر إلى 80 دج، وإذا حصل وأن تخلّفت الشاحنات عن القدوم بسبب الأحوال الجوية أو حالة الطريق المتدهورة جزئيا، سواء الرابط بين ولاية ورڤلة وجانت مرورا باليزي مقر الولاية والذي مسافته 1455 كلم، أو الرابط بين إيليزي وجانت بمسافة 400 كلم وهو طريق يشهد أشغال التزفيت، فما على السكان سوى الاكتفاء بالماء والخبز حتى إشعار آخر. إنها فعلا معاناة سببها الرئيس هو انعدام آبار مياه السقي، والنوم العميق لمسؤولي الفلاحة على مستوى الولاية. ما زاد في تعطل التنمية في المدينة، هو موقع المدينة؛ حيث تقع نسبة 75 بالمئة من السكنات فوق جبال صخرية، نتيجة وجود المدينة في تضاريس وعرة ما يصعب عملية التنمية، فوجودها بين هذه الجبال المجاورة لجبال الطاسيلي ناجر، وواد اجريو، جعل السكان يعانون في التنقلات اليومية وخاصة إذا كانوا محمّلين بحاجياتهم، مع العلم أن مدينة جانت من أربعة قصور أو أحياء هي : إن ابربر، ازلواز، الميهان، أجاهيل وتينخاتمة، وحي جديد اسمه ايفري؛ حيث يوجد مستشفى المدينة، ومع مرور الزمن، عرفت هذه الأحياء توسعات مسايرة مع النمو الديموغرافي للسكان، وكان للزوايا تواجد في القديم لكن مع مرور الزمن اندثرت، منها الزاوية القادرية في قصر ازلواز، والزاوية السنوسية في قصر أجاهيل، غير أن هناك بعض المدارس القرآنية المحاذية للمساجد ما زالت تعمل على الحفاظ على تحفيظ كتاب الله للأجيال. إن ما يلاحظ من الأشياء الإيجابية هو توفر الماء الصالح للشرب في كل أحياء المدينة ومصدر هذا الماء هو جبل كنفة الموجود على مشارف المدينة وبذلك هناك اكتفاء في الماء الشروب الذي يصل جلّ الأحياء. الصيف .. كابوس الجاناتيين ومما يلاحظ عن قطاع الشبيبة والرياضة، وجود دارين للشباب هما المتنفس الوحيد لشباب المدينة؛ حيث تتوفر على قاعات للأنترنت، والصناعة التقليدية والموسيقى والفلكلور، ويشتكي الشباب من انعدام فرع اللغات والمسرح، ونقص المسابح، باستثناء المسبح الوحيد خارج المدينة والذي يفتح أبوابه شهرا واحدا في الصيف وبقية الأشهر مغلق بدواعي الترميم أو التنظيف، وهي معاناة حقيقة باعتبار أن الشباب يتعذّر عليه التنقل إلى المدن الساحلية، فتذكرة الطائرة ثمنها يقارب 30000 دج، أما عن التنقل عن طريق البر فهو من شبه المستحيل، حيث أقرب ولاية ساحلية تبعد عن جانت وبالضبط ب 2235 كلم وهي العاصمة مرورا بورڤلة، ولكم أن تتصوروا الوضعية مع حرارة صيف الصحراء وغلاء المعيشة والفقر، هذا الثالوث الذي ينغص حياة سكان الجنوب على العموم، دون أن ننسى عدم وجود أماكن للتسلية والملاعب والتي يطالب بها الشباب لتمضية أوقات فراغهم على غرار الولايات الأخرى، وهنا يتخوف السكان من انجراف أولادهم إلى الانحراف وتعاطي المخدرات باعتبار أن للمنطقة حدود مع النيجر وليبيا وهي منطقة حدودية حساسة تعج بعصابات التهريب. أما عن قطاع النقل، فعلى العموم فلا يوجد مشكل يذكر، حيث تتوفر حافلات النقل وسط المدينة وبين الدوائر؛ إلا أنه لا توجد وسائل نقل بين المطار والمدينة، وهنا لا نجد سوى سيارات الخواص الذين يعملون بطريقة غير قانونية، ما جعل السكان يطالبون مديرية الخطوط الجوية الجزائرية بتغيير أوقات الرحلات الجوية من جانت إلى العاصمة والعكس، فالرحلات مبرمجة في الهزيع الثاني من الليل، ما ينتج عن هذا معاناة المسافر الذي يصل ليلا، فلا يستطيع أن يغادر مطار العاصمة أو مطار جانت حتى طلوع النهار. السكانير موجود لكن؛ من يشغّله؟؟ ومن جانب آخر، وعن قطاع الصحّة، فبالإضافة إلى المستشفى الوحيد، تتوفر المدينة على وحدات صحية، في بعض الأحياء، بيد أن ما يشتكون منه في هذا القطاع هو عدم استعمال جهاز السكانير رغم توفره فلا يوجد من يشغّله، وبالتالي لا فائدة منه، حيث يقطع المرضى وذويهم آلاف الأميال لإجراء الفحوصات والأشعة وبأثمان باهظة. ومن النقائص كذلك عدم وجود أخصائي طب العيون إذا ما علمنا أن هذا الاختصاص مطلوب جدا في المناطق الصحراوية، وعندما سألنا عن هذه الوضعية، أجابنا بعضهم أن في كل مرة ترسل الوصاية طبيب العيون للمستشفى يغادر عند الانتهاء من الخدمة والتي مدتها عامين. وهم يطالبون من الوصاية التكفل وبشكل عاجل بمشكل مشغّل السكانير وبتوفير أخصائي العيون بصفة دائمة، والغريب في الأمر أن في مدينة جانت لا وجود للأطباء الخواص، فالفضل يرجع للقطاع العام وهم على العموم لا يشتكون من الخدمات باستثناء ما ذكرناه آنفا. نشاط تجاري فوضوي ومن النقائص وجود سوق شعبي يختلط فيه النشاط التجاري في محلات من القصدير والزنك، مكان نجد فيه الصناعة التقليدية والأواني المنزلية إلى جانب المواشي، كل هذه النشاطات تمارس فوق الرمال ولا وجود للأرصفة. ودائما مع النشاط التجاري، يلاحظ قلة المحلات التجارية ومحلات الخدمات من مطاعم ومقاهي، بالنظر إلى أن المنطقة سياحية وهي وجهة الأجانب، إلا أنها لا تتوفر إلا على 3 مطاعم صغيرة وغير مهيأة وغير نظيفة و3 مقاهي هي الملجأ الوحيد للشباب البطال بالإضافة إلى تجمعهم في مقر البلدية وأغلبهم بدون مصلحة. وما عدا هذا، فلا وجود للاستثمار ولا للوحدات الإنتاجية ولا للمركبات، وهذا ما يزيد من تفاقم شبح البطالة، حيث إن الكثير من الشباب البطال عبّروا لنا عن استيائهم نظرا لقلة المناصب والحصة المخصصة لجوهرة الصحراء وواحتها الجميلة، ما جعلهم يصبّون جام غضبهم على مسؤول الوكالة المحلية للتشغيل متهمين إيّاه بالمحاباة وسوء التسيير، الشيء الذي أحرج المسؤولين المحليين، كما يطالب سكان حي ابربر ببناء متوسطة بسبب بعدهم عن المدينة، ومركز للبريد ، حيث تتوفر مدينة جانت على مركزين، الأول في وسط المدينة ويحتاج إلى توسعة وتهيئة وهو غير نظيف يقابله تفاني عمال الشبابيك الذين يؤدون عملهم في صمت، والثاني متواجد في حي إيفري. عجلة الأشغال العمومية.. تحرّك محتشم التكلم عن ما تحتاجه مدينة جانت، يجرنا إلى التكلم عن قطاع الأشغال العمومية، فالبر غم من الأموال التي رصدتها الدولة لإنجاز الطريق الرابط بين عاصمة الولاية إيليزي ومدينة جانت المقدر ب 400 كلم، إلا أن الأشغال كانت تسيير ببطء كبير إلى حين قدوم الوالي الجديد مع رئيس الدائرة، حيث أعطيا دفعا قويا من خلال المتابعة الصارمة لمؤسسات الإنجاز. وبالحديث عن مشكل الطريق، عبّر الكثير من السكان عن ارتياحهم لهذه المتابعة ونوّهوا بالإجراءات المتخذة، ويأملون من الوزارة الوصية تخصيص مبلغ مالي لتهيئة طريق ثان بين إيليزي وجانت متاخم للحدود الليبية، وهو أقل مسافة من الطريق الحالي موضوع الأشغال، إلى جانب تعبيد الطريق الوحيد الذي يربط جانت بولاية تمنراست والمقدر بمسافة 700 كلم، وهو طريق ريفي صعب المسالك لا تسلكه إلا سيارات الدفع الرباعي ويعتمد فيه السيارات على علامات قديمة تركها الاحتلال الفرنسي. كما يبقى الطريق الريفي الرابط بين جانت وولاية ورڤلة بدون المرور عبر إيليزي مغلقا لدواعي أمنية. وبالنسبة لقطاع السكن، فإن ما يلاحظ هو النقص الكبير في الحصة الممنوحة لبلدية جانت، فما هو في طور الإنجاز لا يلبي حاجيات طالبي السكن، ولذلك يطالب أهل جانت من والي الولاية بتخصيص حصة إضافية لتغطية العجز،. لكن ما يعاب على مسؤولي التعمير والسكن، هو البناء بالقوالب الإسمنتية والتي لا تصلح لطبيعة المنطقة، باعتبار أن المنطقة هي منطقة صخرية وتتوفر على المحاجر، فكان من الأولى البناء بهذه المادة غير المكلّفة. والشيء الآخر هو عدم مطابقة الأسعار التي تستلم بها المقاولات المشاريع مع الأسعار في السوق، فالسعر يحسب على أساس أسعار الشمال وهذا غير مقبول ويساهم في عزوف المقاولات عن المشاركة في المناقصة. تلكم كانت زيارتنا لمدينة جانت ونواحيها ووقوفنا على واقع الإنجازات التي تستحق التنويه، والنقائص التي تتطلب تدخلا عاجلا من السلطات العليا بتخصيص برامج خاصة للتكفل ولتحسين حياة السكان اليومية بها.