تعتبر صناعة شباك الصيد من أشهر الحرف التقليدية التي ترمز إلى الهوية العريقة وأصالة مدينة بوهارون الساحلية الواقعة بولاية تيبازة المتوارثة أبا عن جد، حيث تتفنن أنامل أبناء المنطقة بنسج خيوطها بالاعتماد على مهاراتهم اليدوية التي اكتسبوها بالممارسة، فقد جعل هؤلاء من الشوارع وأرصفة الطرقات ورشات لها ومعارض مفتوحة للعابرين، خاصة مع انعدام أماكن خاصة لصنعها حطت “الفجر” رحالها في مدينة أقل ما يقال عنها أنها جميلة رغم صغر حجمها، إلا أنها بفضل مينائها أصبحت غنية عن كل تعريف، فمهنة الصيد في هذه المنطقة من المهن الأساسية لسكانها، وبمجرد دخولك إليها تصادفك جماعات من الرجال والشبان من مختلف الأعمار اتخذوا من أزقة الأحياء وحتى الأرصفة مكانا لنسج شباك الصيد، التي يعتمد عليها الصيادون للحصول على أشهى وألذ أنواع السمك. وللتعرف أكثر على هذه الحرفة ارتأينا التحدث مع بعض الحرفيين الذين استطاعوا أن يحولوا من الخيوط الرقيقة وسيلة صيد تجنى من خلالها ثروات سمكية من مختلف الأنواع. وقد روى لنا عمي حسين، أقدم حرفي في المنطقة، كيف كانت النساء في الماضي ينسجن الخيوط بواسطة القطن ويساعدن أزواجهن في عملية الصيد، ولكن بعد التطور الصناعي ظهرت خيوط مصنوعة من مادة البلاستيك والحرير التي وفرت على الصياد عناء صنعها، فأصبح اليوم من السهل الحصول على المواد الأولية التي تستعمل في صناعة الشبكة والاقتصار فقط على نسجها عن طريق استخدام أشكال متنوعة. من جهة أخرى، قال لنا سمير، البالغ من العمر 35 سنة، أنه تعلم حرفة صناعة الشباك من أبيه، بعد أن اضطرته ظروف الحياة القاسية إلى ترك دراسته، لذا لجأ لهذه المهنة لمساعدة عائلته. وغير بعيد عن هؤلاء، قصدنا حي لافيرمات، أحد أحياء المدينة العريقة، أين شاهدنا مجموعة من الشبان يقومون بنسج خيوط الشباك على طول الطريق، فهو مشهد روتيني ألف رؤيته كل كبير وصغير ينتمي إلى تلك المنطقة، فلا يوجد شخص يشتكي منهم أو يوجه لهم ملاحظات، تسمعهم فقط يتخاطبون بينهم عن طريق استخدام مفردات لا يفهمها سوى أصحاب المهنة، بالإضافة إلى مفردات شعبية مثل “شحال درنا من مايا”،”هاذي شبكة تع ڤاليون ماشي شالوتي”، “تقطعت الشبكة”.. وغيرها من المصطلحات التي جعلتنا نتخيل أنفسنا في عالم البحر والصيد ولا شيء غير ذلك. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل حتى الأطفال أصبحوا على دراية بكل كبيرة وصغيرة، يحترفون أيضا صناعتها، وهو أكثر شيء أثار انتباهنا. انعدام الورشات مشكل يؤرق الحرفيين يعاني جل الحرفيين ممن تحدثنا إليهم من مشكل انعدام ورشات خاصة بصناعة شباك الصيد، وما زاد من تذمر هؤلاء عدم استطاعتهم ممارسة حرفتهم في حالة اضطرابات جوية. وللاستفسار عن الأمر قمنا باستجواب البعض منهم عن سبب اختيار الطرقات مكانا لصنع شباك الصيد، فقال كمال، حرفي بالمنطقة منذ أزيد من 10سنوات، إنهم يضطرون لصنعها في العراء نظرا لانعدام أماكن مخصصة لذلك، لكنهم يعانون كثيرا إذا كان الجو ممطرا، ما يضطرهم إلى تأجيل عملهم إلى أن تتحسن أحوال الطقس، مشيرا إلى أنهم يستبدلون الطرقات بمستودعات صغيرة لا تكفي حتى لثلاثة أشخاص، بالإضافة إلى العتاد المستعمل من أدوات ولفافات الخيط وغيرها، فهذه الحرفة تتطلب فضاء رحبا كي يسمح بإلقائها أرضا. وفي ذات السياق، يقول صانع شباك آخر إنه يلجأ لكراء مساحات أو مستودعات من أجل صناعتها، نظرا لعدم توفر مساحات ملائمة لذلك. شباك “الڤاليون” غير شباك “الشالوتي” وعن وجه الاختلاف بين الشبكتين، يقول عمي علي، رايس إحدى سفن الصيد ببوهارون، “كل شباك له صفاته الخاصة، فلا يمكن شرح كل واحدة دون التعريف مسبقا بمعنى “ڤاليون” أو “شالوتي” التي قد يجهلها البعض، فهما ببساطة قوارب صيد يتميز كل واحد بميزات معينة، ف”الڤاليون” خاص بصيد السمك الصغير، يعمل فقط في الفترة الليلية الممتدة من غروب الشمس إلى غاية بروز فجر يوم جديد، وتكون شباك الصيد الخاصة به تحتوي فتحات دقيقة وصغيرة تساعد على التقاط السردين وتمنعه من الإفلات منها. أما “الشالوتي” فهو إحدى قوارب الصيد المتخصصة بصيد الحوت والجمبري، وفترة عمله تبدأ في النهار وتدوم إلى ما بعد الظهر، بالإضافة إلى أن شباكه تكون فتحاته كبيرة مقارنة بشباك “الڤاليون”. وعن طريقة صنع الشباك، يقول أحد الحرفيين إنها صعبة ومعقدة وتتطلب تركيزا وتدقيقا كبيرين في عملية الحساب، حيث يصل طول إحداها 70 مترا، أما عرضها فيتراوح بين المترين إلى ثلاثة أمتار حسب نوعية كل واحدة، ويتم نسج الخيوط بتشكيل غزل على شكل مقروطات أومربعات في شكل هندسي متساوي وموحد تدعى “مايات”، بلغة الصيادين، بواسطة إبرة خاصة مصنوعة من مادة البلاستيك، ويقوم صانع الشباك بإدخال الخيط في الإبرة وتثبيتها عن طريق اللقط والضغط والعقد في حبل تلتف حوله كرات من الفلين التي تساعدها على أن تطفو فوق الماء، أما “المايات” فيوضع في وسط كل واحدة منها حجر من الرصاص أو”البلون” لتثقيل الشبكة وغمرها في البحر، وعن تكلفة صنعها - حسب المتحدث - فقد تصل إلى 50 مليون سنتيم. أما فيما يخص الوقت الذي يستغرقه الحرفي في صناعة الشباك، أجابنا حرفي آخر، بتنهيدة كبيرة، إنها تدوم قرابة الأسبوع أو العشرة أيام، فخدام الشباك - حسبه - فنان يحتاج إلى صبر وطول بال ومزاج جيد، ليستطيع إتمام مهمته على أحسن وجه.