ثمة حقيقة سافرة وزاعقة أسفرت عنها ثورة شتاء الغضب المصرية وهي أن نهاية نظام حكم الرئيس المصري حسني مبارك قد أزفت، وبأن الجماهير المصرية وللمرة الأولى والمباشرة في تاريخ مصر الطويل والحافل قد استلمت زمام المبادرة بعيدا عن رأي الأحزاب والجماعات والمنظمات دينية كانت أم علمانية، يمينية كانت أم يسارية، لقد أعلنتها الجماهير المصرية المحتشدة في شوارع قاهرة المعز الخالدة بأن على الرئيس مبارك أن يرحل ويدعها تعيش! فقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وجاءت كلمة الشعب المصري بعموم طبقاته وفئاته لتكون الفيصل والرأي الحاسم في تقرير الأمور. لقد كان واضحا منذ انهيار المنظومة الأمنية والاستخبارية وتبخر قوات الشرطة وأجهزة وزارة الداخلية القمعية بأن الشارع قد فرض منطقه وقال كلمته الفصل وإن الإجراءات الترقيعية التي لجأ إليها نظام الرئيس مبارك من تعيين متأخر لنائب للرئيس بعد تردد ومناورة استمرتا لحوالي ثلاثين حولا وتعيين ثلة من جنرالات القوات المسلحة في مناصب القيادة والسيطرة والأمن لم يعد يعني شيئا أبدا ولا يمكن أن يصلح الأوضاع التي تزداد سوءا وتفرز مفاجآت مذهلة بين دقيقة وأخرى، كما أنه قد أضحى واضحا بأن اللجوء للسيناريو العراقي أي في إطلاق بقايا السلطة السابقة لعصابات البلطجية واللصوص على الآمنين لم يعد أيضا بالأمر المجدي ، فهجمات اللصوص وسيوف و أسلحة البلطجية لا يمكنها أبدا مهما بلغت قسوة ضرباتها أن تغير مسار التاريخ المتدفق دوما لصالح الشعوب. لقد قالت الجماهير المصرية كلمتها النهائية وبات على نظام مبارك إخراج سيناريو الرحيل عن السلطة بأقل قدر من الخسائر وبما يحفظ كرامة الرجال الذين قادوا مصر لأربعة عقود سابقة بكل إنجازاتها وإخفاقاتها، لقد وصل نظام حكم الرئيس مبارك لحالة النهاية والاندثار وهي مسألة طبيعية، فالأنظمة السياسية مثل الجسم البشري تخضع لقوانين الولادة والنمو والفحولة ومن ثم المرض والرحيل، ولكن العبرة من الموضوع بأسره هي أن النظام الذي سقط وتهاوى بقبضات الجماهير وحناجرها ودمائها المسفوكة لا يمثل شخص الرئيس حسني مبارك وحده ولا بطانته وفريق عمله ورجاله في الحزب الوطني المتهاوي أو في القوات المسلحة، بل أن من تهاوى حقا وحقيقة هو نظام ما يسمى بثورة 23 يوليو 1952 الذي أطاح بالملكية العلوية و بالنظام الليبرالي الذي شهد انطلاقة الإبداع المصري في مختلف الميادين الفنية والعلمية والإجتماعية رغم علاته وأخطائه وخطاياه وسلم البلد لمجاميع من الضباط والعسكر الذين أدخلوا مصر في ساحات صراع دولي وإقليمي رهيبة استنزفت طاقاتها وإمكانياتها، كما سببوا لمصر الكثير من الأذى من خلال عمليات التجارب الإقتصادية الفاشلة والمقترنة بضياع الأرض والجيش وكل الطموحات الوطنية بهزيمة 5 يونيو وماقبلها من مغامرات و مابعدها من صراعات دموية حادة على السلطة وبما رسخ البناء الخاطى للسلطة على أساس تقديس ضباط الجيش والاعتماد على رجال الأمن والسلطة والمباحث والمخابرات في تشييد هياكل دولة الرعب والخوف والضباط وهي الصيغة الهجينة التي لا يمكن أن تستمر لأبد الآبدين، فلابد لليل من آخر ولابد للضوء في نهاية النفق، ولابد للقيود أن تنكسر، لقد فشلت ثورة 23 يوليو منذ زمن طويل في الإيفاء بوعودها وتعهداتها التحررية وحولت القطر المصري بأسره لضيعة أو عزبة للمتغلبين من الضباط و العسكر، ففي أطوارها الأولى اضطهدت تلك الثورة أحد أبرز نجومها الذي تحول لأبشع ضحاياها، وهو الرئيس المصري الأول اللواء محمد نجيب الذي لا تعرفه الأجيال اللاحقة من المصريين بعد أن اختفى اسمه من ذاكرة التاريخ ولم يظهر له أثر إلا في إطلاق اسمه على إحدى محطات مترو الأنفاق القاهري!! ثم جاء الدور على مجاميع الضباط في مجلس قيادة الثورة الذين تشتتوا في مناصب ثانوية مختلفة فيما نفي بعضهم وأهمل بعضهم بالكامل مثل العقيد يوسف صديق فيما تمت الاستعانة بأضعفهم ليكون أخطر رجال النظام رغم هزالته وهو المرحوم المشير عبد الحكيم عامر بطل هزيمتي السويس 1956 وسيناء 1967 وصاحب الشلة العسكرية الشهيرة أيام دولة المخابرات التي كان يقودها بمعية المرحوم صلاح نصر وشلتهم من أهل الفرفشة والعسكر والفن، فكان الصدام الكبير الذي أنهى تلك الشلة ليكون المرحوم جمال عبد الناصر الرجل الوحيد في مرحلة حفلت بالتحديات ليلاقي ربه عام 1970 ويسلم مصر لمجموعة متضادة أخرى من الضباط من بقايا المخابرات والاتحاد الإشتراكي والتنظيم الطليعي ونائبه المرحوم أنور السادات الذي تمكن بضربة معلم من إنهاء بقايا ضباط يوليو في مايو 1971 ليكون القائد الأوحد الذي تتضاءل أمامه كل القيادات وليقود صفحات حرب أكتوبر 1973 والتي جاءت بمتغيرات هائلة للوضع المصري داخليا ونفسيا وحتى على مستوى الأبعاد الدولية والإقليمية، وقد حرص السادات على النأي بنفسه عن شعارات ثورة يوليو ومارس التغيير الحقيقي من خلال العودة التدريجية للحياة الديمقراطية ولكن وفقا لمواصفات سلطوية خاصة وحاول إبراز جيل قيادي جديد هو جيل أكتوبر الذي جسده من خلال تعيين قائد الطيران حسني مبارك كنائب للرئيس عام 1975 لتدور الأحداث وتجري مياه ودماء عديدة تحت كل الجسور المصرية ويغتال الرئيس السادات في خريف الغضب وفي حادثة المنصة المعروفة في 6 أكتوبر 1981 ليأتي نائبه حسني مبارك ويكون الرئيس العسكري الرابع لمصر الجمهورية في ظل أوضاع داخلية وإقليمية ودولية مختلفة بالكامل. وقد أدى الرجل ماعليه وفق مواصفات القيادة والسيطرة في نظام جمهوري يحمل من الشمولية الشيء الكثير ويتحدث عن الديمقراطية وسيادة القانون رغم أن حالة الطوارئ ظلت معلنة طيلة عهده وهي حالة لم تمنع الجماهير المصرية من التحشد و التجمهر وإسقاط النظام في واحدة من أعجب الثورات في تاريخ العرب الحديث والحديث عن عهد مبارك بسلبياته وإيجابياته لا يمكن أن يغطيه مقال مهما بلغ حجمه، لكنها سنة التاريخ، فقد وصل مبارك إلى نهاية الطريق ولم يعد لديه مايقدمه من جديد خصوصا وأن البطانة الحاكمة قد هيأت المسرح للأحداث الراهنة من خلال الاستخفاف بالجماهير وتزوير الانتخابات علنا وإخراج المعارضة بالكامل من الصورة في استهانة فظيعة بعقول الناس وفي دوس على كراماتهم، فاستعمال القوة المفرطة من قبل أجهزة الأمن ضد المواطنين ليس دليل قوة بل علامة ضعف خطيرة سرعان ما التقطتها الجماهير ليهرب القتلة وتتوارى كل جحافل الأمن وقوات حفظ النظام والأمن المركزي التي تحولت لأشباح مارس بعضها السرقة والنهب و(الفرهود) في المحلات التجارية والأحياء الراقية، ولعل خروج الأزهر عن صمته ومشاركة الأزهريين في التظاهرات الأخيرة دليل مضاف على تجذر الثورة الشعبية ونهاية عهد حكام ثورة 23 يوليو وإسدال الستار على كل رموزها وبقاياها. الثورة في مصر شعبية بالمطلق فلا الإخوان ولا الوفد ولا الناصريين ولا اليساريين أصحابها، إنها ملك لشعب النيل الأسمر الذي يخط بدمائه اليوم تاريخا جديدا وسفرا جليلا على مصر جديدة ومختلفة، فمصر باتت تتحدث اليوم عن نفسها بكل حرية.. إنه عصر الجماهير وقد أزف بكل تحدياته... وإنها ساعات الانبثاق الوطني الجديد في مصر..شعب مصر هو اليوم من يمتلك زمام المبادرة بعد أن تعانق الهلال مع الصليب ليشكلا معا مصر الحرة التي نعتز بها ونفخر..