ظلت الوعدات الشعبية بولاية مستغانم، على مدى قرون، جزءا من الموروث الشعبي ووسيلة ترفيه بامتياز في غياب وسائل أخرى مماثلة. وإن ربطها البعض بمعتقدات دينية، إلا أن الوعدات الشعبية كانت أهم فضاء لإبراز فسيفساء الفن والثقافة في المجتمع الريفي، وكانت محطة رئيسية لأهم مطربي الغناء البدوي وشعراء الملحون، وفرصة لربط السكان بجذورهم عن طريق الاستمتاع بحكايات المداح، ما كان يشكل حاجزا أمام تأثيرات الاستعمار الثقافي. ومع تحول المجتمع الجزائري إلى حياة المدن واختراع وسائل ترفيه أخرى أضحت تهدد مكانة الوعدات الشعبية بالولاية التي لم تعمل على تطوير نفسها حسب مقتضيات العصر، حيث حافظت على نفس نمطها التنظيمي، وكان يُمكن استغلالها كوسيلة لجلب سياح أجانب وتفعيل تجارة المنتوجات الحرفية التي يعرف معظمها كسادا.. للحفاظ على الموروث الثقافي للولاية الذي يمتد إلى ولايات مجاورة. الفانتازيا والفلكلور أهم ما يميز الوعدات الشعبية بمستغانم تضم ولاية مستغانم أكثر من 300 وعدة، حسب إحصاءات مديرية السياحة، توزع على كل البلديات ال32، وتسمى محليا الطعم، ويبدأ موسمها من شهر أوت من كل عام إلى شهر أكتوبر. تختلف الوعدات الشعبية من حيث الحجم إلا أنها تتشارك في معظمها بألعاب الفانتازيا وحضور الفرق الفكلورية، وتقام عادة بالقرب من ضريح ولي صالح. وأشهر الوعدات الشعبية بالولاية طعم سيدي الشارف، الذي قال عنه المؤرخ الفرنسي روني ليكليرك في سنة 1902، إنه كان يجمع 15 ألف عربي كل سنة لمدة أسبوعين، إلى جانب طعم الولي الصالح سيدي لخضر بن خلوف. وتشارك في الوعدات مجموعة من الفرسان الذين يمارسون هواية الفانتازيا، يصل عددهم إلى حوالي 400 فارس من كل جهات الوطن، يصطفون في مجموعات تتكون عادة من 10 خيالة يقومون بالتنافس لإطلاق العنان لأصوات البارود. كما يتم طهي الكسكسي، الذي يدعى محليا الطعام، بكميات كبيرة توزع على المدعوين وعابري السبيل. وقد كانت الوعدات تقام على مدار أسبوعين.. إلا أنها تقلصت إلى يومين فقط للوعدات الهامة ويوم واحد للأخرى، وتعرف عرضا للألبسة والمأكولات. كما عوضت فرق الغناء البدوي التي كانت حاضرة بقوة قبل عقود بتسجيلات لأغاني مختلفة تحاكي الظروف الاجتماعية لكل عام، حيث شهدت وعدات العام الماضي مثلا إقبالا كبيرا على الأغاني التي تمجد الفريق الوطني لكرة القدم..! بينما لاتزال فرق الغايطة والبندير حاضرة بقوة كل سنة.. مقابل غياب المدّاح الذي كان يجول ويصول لعرض حكاياته في قالب شعري، وقد ساهمت حكايات المدّاح في ربط الجزائريين بثقافتهم رغم الجهل والفقر الذين عانى منه سكان المناطق الريفية بالولاية. الوعدات الشعبية تبرز الطاقات الفنية للمجتمع البدوي ساهمت الوعدات الشعبية، على بساطتها، في تكوين شخصية فنية خاصة في المجتمع البدوي، كما ساهمت في إبراز العديد من المطربين الذين سجلوا حضورهم بقوة.. أمثال الشيخ حمادة والشيخ الجيلالي. فيما ينتهز الموطنون الفرصة للاستمتاع بالغناء البدوي، إذ يحصل المطربون على فضاء أوسع لإسماع أصواتهم في غياب التسجيلات التي كانت حكرا على عدد من العائلات الميسورة التي يمكن أن تشتري قارئ الأسطوانات. وفي نفس السياق، يتسابق شعراء الملحون للوصول إلى المطربين وينتهزون الفرصة لتقديم قصائدهم، ما جعل الوعدات الشعبية نادٍ للفنانين في غياب إطار تنظيمي يجمعهم، وظل المداح أو الحكواتي حاضرا لتقديم حكايات تاريخية من التراث، ما شكل حاجزا أمام الاستعمار الثقافي. إلا أن انحسار الأغنية البدوية أثر بشكل كبير على حضورها، حيث تكاد تختفي نهائيا. كما أثر ربط الوعدات الشعبية بمعتقدات دينية على إقبال المواطنين عليها، ما يهدد وجودها بالأساس. غياب هيئة مشرفة يؤثر على عملية تنظيم الوعدات لاتزال الوعدات الشعبية بولاية مستغانم تحافظ على نفس إطارها التنظيمي، حيث يتكفل الأعيان بعملية التنظيم من تحديد تاريخ الطعم إلى أدق التفاصيل، ويستفيد المنظمون من تراكم التجربة إلى جانب عملية الإشهار التي يقوم بها “البرّاح“ في الأسواق الأسبوعية لجلب المشاركين. كما درجت العادة لدى بعض العائلات في المشاركة بإعداد الطعام للزائرين كل سنة مع الحرص على دعوة الأقارب والأصدقاء. إلا أن تزامن شهر رمضان مع موسم الوعدات قد أثر بشكل كبير على عملية البرمجة، حيث يصعب تنظيم الوعدات الكبرى بشكل يمنع تصادفها مع وعدات أخرى بولايات مجاورة، ما يصعب تنقل فرسان الفانتازيا الذين يبحثون عن فرصة لممارسة هوايتهم، كما يصعب على المواطنين زيارتها.. حيث شهدت الأسابيع الماضية تنظيم وعدة سيدي الشارف ببلدية سيرات ووعدة سيدي بن شاعة في بلدية أولاد معا الله، في الوقت الذي أحيا سكان وادي رهيو بغليزان وعدة سيدي بوعبد الله.. وهذا ما يستدعي وجود إطار تنظيمي لتوسيع موسم الوعدات لشهور إضافية، وتنظيم عملية البرمجة لمنع تزامن الوعدات مع بعضها. السلطات العمومية تركز على تطوير المهرجانات دون الوعدات الشعبية لم تستثمر الوعدات الشعبية التي تقام في أنحاء عديدة من ولاية مستغانم سياحيا أو ثقافيا، رغم وجود الأرضية اللازمة من زخم تاريخي لبعض أنحاء الولاية أوالفضاء الفلكلوري الذي يستمتع به الزوار، حيث يمكن تحويل الوعدات الشعبية بسهولة إلى مجال خصب لتنمية الجذب السياحي وتجارة المنتوجات الحرفية، باستثناء طعم سيدي لخضر بن خلوف الذي ساعدت النخلة التي تعانق ضريحه في جلب السياح والفضوليين. كما تعمد السلطات المحلية إلى تنظيم سهرات الغناء الشعبي من كلمات الولي الشاعر والمجاهد سيدي لخضر بن خلوف، ما أضفى شكلا تنظيميا يختلف عما هو جار في باقي الوعدات التي لاتزال بشكلها الأصلي منذ قرون، في الوقت الذي كان من الممكن استثمارها.. فطعم سيدي بن شاعة مثلا لا يحمل أي إشارة إلى وجود محرقة غار حرافيش التي راح ضحيتها أكثر من 1200 مواطن جزائري إبان الإستعمار الفرنسي.. رغم قرب مكان المحرقة. وطعم سيدي عبد الله الخطابي في قرية عيزب، التابعة لبلدية مستغانم، لا يحمل أي إشارة عن تاريخ هذا الولي الصالح الذي قال عنه ابن خلدون.. إنه قد كان له الفضل في توسيع مدينة مستغانم أواخر القرن العاشر الهجري، بعدما أمر زعيم قبيلة سويد ببناء مساكن جديدة للراغبين في مجاورته. كما لا تعرف الوعدات أي مجهود لجلب السياح، كما هو الحال في تلك الخاصة بمدن الجنوب، كالسبيبة أوالمولود في مدينة تيميمون بولاية أدرار. مديرية السياحة تتخوف من عدم تقبل تغييرات على شكل الوعدات أشارت مديرة السياحة بولاية مستغانم ل”الفجر” إلى صعوبة تغيير الذهنيات للوصول إلى استثمار حقيقي للوعدات الشعبية، رغم تأكيدها على ضرورة تكاتف الجهود بين وزارتي السياحة والثقافة لحماية تراث الولاية الذي يمكن أن يكون وسيلة جلب سياحي بامتياز، كما يمكن أن يكون وسيلة لتنشيط تجارة المنتوجات الحرفية. وكشفت عن وجود بعض العراقيل تخص الذهنيات السائدة لدى الأعيان الذين يقومون في الغالب بتنظيم الوعدات الشعبية، والذين يرفضون أي إطار تنظيمي يخالف ما درجوا عليه منذ عقود، فيما وعدت بدراسة مشروع لاستثمار الوعدات الشعبية سياحيا بمشاركة منظميها التقليديين.. دون المساس بجوهر هذه التظاهرات. وستظل الوعدات الشعبية بولاية مستغانم مهددة بالإندثار إذا لم تطور باستحداث إطار تنظيمي يقوم على التفكير في تحويلها إلى مهرجانات مصغرة، حفاظا على تراث الولاية الممتد إلى آلاف السنين، أوتلتحق بسلة التراث الجزائري الذي يعاني من الإهمال.