عشق »الموسيقى التراثية« منذ صغره وأحب سحرها المنبثق من رحم الحضارة الجزائرية، مما ولد لديه مشاعر قوية نحو الفن (الشعبي) الأصيل التي جعلته يغار على هذا الإرث الفني الجميل، ويجد نفسه بين لحظة وأخرى جزءا لا يتجزء من هذا الفضاء الراقي المزين بأسماءعريقة تربعت على عرش (الغناء الشعبي) ورسمت لنفسها تاريخا يتوراثه الأجيال، وهو ما إعتمده هذا الأخير في أبحاثه ومؤلفاته بعد أن صار الوحيد الذي يتبع عمالقة الأغنية الشعبية، ويقتني أثرهم في كل ركن من أركان الحضارة الفنية العريقة. ولد الدكتور عبد القادر بن دعماش بمزغران الكائنة بولاية مستغانم سنة 1949، إهتم بالتاريخ والبحث في موضوع الفن الغنائى والموسيقي التراثية الجزائرية منذ شبابه لدرجة أن هذا الموضوع أصبح هاجسه الدائم وعمله المتواصل والدؤوب، تقلد العديد من المناصب العيا بوزارة الثقافة كما إنتسب إلى المجلس الإقتصادي والإجتماعي منذ تأسيسه سنة 2004 إضافة إلى عمله في مجال الإعلام السمعي البصري ويتعلق الأمر (بالإذاعة والتلفزيون) وهو الآن لا زال يقدم حصته الإذاعية المشهورة »مايا وحسين« التي بلغت 22 سنة من البث دون أن ننسى المهرجان الوطني للأغنية الشعبية الذي أسسه شخصيا سنة 2004 وتكفل بتسييره طيلة السنوات الماضية ليحقق بذلك حلمه الكبير في إحياء التراث الشعبي وجعله موروثا راسخا في التاريخ الثقافي الجزائري الأمر الذي دفعه أيضا لتكثيف بحوثه حول مسألة التراث اللاّمادي من خلال طرحه للعديد من المؤلفات حول رموز الأغنية الشعبية مثل الهاشمي ڤروابي والحاج محمد العنقيس وغيرهما من الأعمدة البارزة في هذا المجال كما حاول بكل شفافية أن يتطرق للفن الملحون من خلال النبش في ذخائر هذا الفن العريق فجمع ومحص وإنتبه في وقت مبكر لهوية الجزائريين مما ولد نظرة تفاعلية بين الثقافة العالمية والثقافة الشعبية ليجد عبد القادر بن دعماش نفسه مجبرا على تحمل مسؤولية نقل هذا الموروث من »الشفافية« إلى »التدوين« وعلى هذا الأساس إتصلنا بالدكتور بن دعماش وأجرينا معه الحوار التالي: الجمهورية : كيف يلخص لنا الدكتور عبد القادر بن دعماش تجربته الشخصية في عالم الموسقى التراثية؟ بن دعماش : »في الحقيقة أنا ولدت في هذا العالم الجميل وترعرعت بين جدران هذا الفضاء العريق وقد بدأت تجربتي من خلال إهتمامي الأولي (بالشعر الشعبي) حيث عشقت أعمدة هذا الفن وواكبت مشوارهم وأعمالهم دون أي كلل أو ملل بل بالعكس كنت أجد متعة كبيرة وأنا أستمع للشعر الشعبي وهذا ما دفعني للتفكير في أن أكون شعبيا والحمد لله خضت تجربة موفقة في هذا المجال وإستمتعت كثيرا بالغناء الشعبي لأعزز تجربتي أكثر بالتأليف وإجراء البحوث لأجل تدوين هذا الموروث الجميل وإنقاذه من الإندثار والنسيان، على صفحات كتب قمت بإصدارها حول التراث والموسيقى الشعبية ولم أكتف بهذا فقط بل أسست المهرجان الوطني الخاص بأغنية الشعبي، وفي الحقيقة لم يكن هذا بالأمر الصعب لأنه إطلاع واسع على هذا المجال بحكم عملي في الإعلام بالإذاعة والتلفزيون وأيضا بحكم تجربتي في الغناء كمطرب شعبي ومنظم للقاءات تدخل دائما في ذات الصدد ويبقى هدفي الأول الوحيد هو الحفاظ على هذا التراث الأصيل من خلال إظهار الجانب الفلكلوري القديم وحماية الثقافة الشعبية التي تضرب بجذورها في عمق الجزائر«. الجمهورية: ما هو مفهوم التراث الموسيقي عند عبد القادر بن دعماش؟ ع بن دعماش : التراث الموسيقي هو جزء من الشخصية الجزائرية لأنه يميزها عن باقي الشخصيات الأخرى كالمغربية والفرنسية وشخصيات أخرى سواء عربية أو أوروبية وتراثنا الجزائري يحمل في لبه رسائل هامة كتبها أشخاص عاشوا تجارب مختلفة ومراحل مميزة في تاريخنا فنقلوا بموسيقاهم ظواهر معينة عاشوها في مجتمع عريق، وكان لا بد لهم من نقلها من خلال هذا التراث الغني لتتوارثه الأجيال ويحفظه الشباب القادم على وقع أنغام جميلة وعذبة وأنا شخصيا أحب التكلم عن هؤلاء الأشخاص الذين هم في الحقيقة أعمدة الموسيقى التراثية ولي الشرف أن أودن أسماءهم على مؤلفاتي وأروي تاريخهم بكل فخر وإعتزاز لأنني على ثقة تامة أن هذه الشخصيات كانت قلقة على موروثنا الشعبي فتركوه أمانة لدينا للحفاظ عليه وحمايته والتراث الموسيقي يبقى قبل كل شيءتعبير فني أصيل لابد أن يحظى بإهتمام مميز وواسع من طرف السلطات العليا لأن هذا الجانب التراثي هو في الواقع (خزان للذاكرة الجزائرية) حسبما يسميه معظم الأخصائيون من أهل الفن والتاريخ وإذا همشناه فإننا نقضي على الذاكرة الجزائرية وإذا قلنا الذاكرة فإننا لا نقصد المطرب الشعبي في حد ذاته بل أيضا نعني بذلك الشعراء والمداحون والڤوالون وحتى الموسيقيون والكتاب وغيرهم من الأشخاص الذين ساهموا في تكوين هذا التراث الموسيقي ولأنني أعي تماما مفهوم التراث الموسيقي فقد سخرت وقتي ووسائلي بأنواعها لإحياء هذا التراث فخصصت العديد من التجارب في عالم الصحافة المكتوبة والسمعية والبصرية وحتى التأليف أين قدمت باقة منو عة من الكتب حول التراث الموسيقى الجزائري في عدة أجزاء وكتبت عن أكبر الفنانين الشعبيين و»كتاب الشعر الملحون« كما سلطت الضوء على أعمدة الغناء الشعبي مثل محبوباتي والهاشمي ڤروابي وكذا دحمان الحراشي وأيضا عبد الكريم دالي كما أصدرت أيضا كتاب بعنوان »الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني من 1958 إلى 1962 بهدف تمجيد هؤلاء الفنانين للأغنية الشعبية الذين يتمتعون بشهرة واسعة في هذا النوع من الغناء وقد حاولت من خلال هذا المؤلف أن أسرد قصة كل مطرب على حدة وأعطي تفاصيل أكثر من مسارهم الفني وإلتزامهم في الكفاح الوطني كما أصدرت كتابا آخر بعنوان »المهم في ديوان الشعر الملحون سنة 2008« ويحوي هذا الأخير مجموعة هامة من قصائد شعبية أداها العديد من كبار المطربين الجزائريين في ميدان الفن الشعبي بصفة عامة وغيرها من المؤلفات الهامة التي أحاول من خلالها التذكير بأعمدة الأغنية الشعبية والتراث الموسيقى العريق حتى لا ينساهم الجمهور« الجمهورية : بناء على بحوثك الفنية المكثفة حول التراث الموسيقي هل ترى أن أغنية الشعبي في خطر؟ بن دعماش : »لا أستطيع أن أقول أنها في خطر لكنها تواجه مرضا معينا وهو »النسيان« وذلك ما نحاول القضاء عليه من خلا ل هذه المؤلفات والبحوث الفنية وإذا تغلغلنا في لب الإشكالية فيتبين لنا أن »النسيان« يتجسد في النقل الشفهي لأغنية الشعبي وهذه الطريقة الشفوية ليست في مصلحة هذا التراث العريق الذي يستوجب تدوينه في كتب وأقراص مضغوطة لأن كل مؤدي ينقل الأغنية بشكل خاطئ مما يشوه أصالة هذا التراث المعرض للتحريف دون قصد وكما يقال المثل الشعبي »اللي قالوه الشيوخ قالوه واللي زادوه المداحة زادوه« وهذا أمر سلبي فالنقل الشفوي يتسبب في نسيان الكلمات الأصيلة وبالتالي القضاء على الأصالة الحقيقية لأغنية الشعبي. وأكثر شيء يؤسفني أن مجتمعنا الجزائري لم يرق بعد إلى مستوى المجتمعات الأوروبية التي تسعى جاهدة للحفاظ على موروثها الشعبي والتراثي الأصيل حيث تقوم هذه الأخيرة يستحيل وتدوين جميع موروثاتها الموسيقية ففي القديم كانوا يستعملون أسطونات والآن يقومون بتسجيلات في أقراص مضغوطة عصرية ويحفظونها في أجهزة الكومبيوتر المتطورة بأعلى التكنولوجيات الرقيمة وخير مثال عن هذه المجتمعات نذكر (فرنسا) حيث يقوم المعهد الوطني للسمعي البصري الذي يسجل الموروث الثقافي والفني في وسائل حديثة للحفاظ عليه من الإندثار الضياع وهذا التطور التكنولوجي لا يقتل التراث بل بالعكس يحافظ عليه بشكل أفضل عكسنا نحن تماما بعض الصور الخاصة بفناني الشعبي تبدو مزرية تماما وهي تعرض على (شاشة التلفزيون). الجمهورية : ماهي العوامل التي ساعدت على بقاء الأغنية الشعبية في المجتمع الجزائري لحد الآن؟ ع بن دعماش : »أول عامل ساعد في ذلك هو قوة المجتمع الجزائري الذي لم يرض بأن تضمحل هذه الأغنية التراثية وتندثر مع مرور الوقت بل تشبث بها بقوة وأعتبرها جزء هاما من التقاليد الشعبية التي لا زالت تحافظ عليها العائلات الجزائرية في الأعراس والحفلات وكلها في رأيي إعتقادات راسخة في قلب مجتمعنا العريق ويجب المحافظة عليها لأنها تميزها عن غيرنا من المجتمعات الأخرى وثاني عامل هو الوظيفة الثقافية للأغنية الشعبية التي تمثل في التعبير عن الشخصية الجزائرية ناهيك عن عوامل أخرى كالتسلية والترفيه حيث تهيمن أغنية الشعبي بشكل كبير على ليالي العاصمة والمناطق المجاورة بأعراسها وحفلاتها ويقدم عليها الجمهور من كل الأحياء للإستمتاع بسهرات هذا الفن الأصيل المتميز خصوصا عندما يحيي هذه السهرات كوكبة من الفنانين الشعبيين الذين يتفننون في تقديم المدائح والقصائد الدينية وكذا الأشعار العاطفية والإجتماعية المعبرة لأن الموسيقى التراثية قبل كل شيء تنشر رسالة إجتماعية وتبرز التقاليد الخاصة بنا والتي لها دور في التوعية والإرشاد«. الجمهورية: هل توجد مدارس خاصة لتعليم أغنية الشعبي؟ ع. بن دعماش : لا توجد (مدرسة بمعنى الكلمة) لكن توجد تقاليد بتعليم هذا النوع من الموسيقى التراثية عبر كختلف المدن الساحلية، ويتعلق الأمر بصورة (الشيخ وتلميذه) على إنفراد، وتسمى هذه العملية » أمانة المشياخة« ونعني بذلك الأمانة التي تعطى من طرف أستاذ لتلميذه مباشرة حتى يتم تعليمه بشكل صحيح دون تحريف أو أخطاء من شأنها أن تشوه الصورة الحقيقية للموسيقى التراثية وبالأخص (أغنية الشعبي). لكن هذا لا يمنع من وجود »ورشات بالمعاهد« التابعة لمختلف البلديات، ودور الثقافة إلى جانب عدد من »الجمعيات الثقافية المتخصصة في هذا النوع الموسيقي العريق« في أهم المدن الجزائرية كالجزائر العاصمة، بجاية وعنابة، ومستغانم، ونحن الحمد لله فإننا نسجل اليوم بإرتياح كبير تأسيس»ورشات خاصة للتكوين الموسيقي في الأغنية الشعبية« والموجهة إلى مترشحي الدورات المختلفة طيلة فعاليات »المهرجان الوطني للأغنية الشعبية« منذ 2006 علنا بذلك نفتح الأبواب أمام هذه المواهب الشابة التي تطمح لبناء مستقبل واعد في عالم (الأغنية الشعبية) التي تحتاج لفنانين من الجيل الجديد حتى تحافظ على مكانتها وإسمها في الوسط الفني، وما على هؤلاء الشباب سوى حمل المشعل وإحياء ذكرى مطربي الشعبي العريقين كالعنقيس، والهاشمي ڤروابي، وكذا دحمان الحراشي، ونحن لا زلنا نفتح أبوابنا أمام الجيل الجديد من خلال »مهرجان أغنية« الشعبي التي يستقطب سنويا عددا كبيرا من المترشحين الشباب للتنافس على اللقب الجمهورية : بما أنك تطرقت للجيل الجديد ، هل تعتقد أن أغنية الشعبي تلقى إهتماما من قبل الشباب الجزائري؟ ع. بن دعماش: نعم فالأجيال الجديدة تهتم على العموم بأغنية الشعبي القديمة منها والجديدة، ونلاحظ كذلك توافد شباب اليوم على ألبومات الفنانين الناجحين في هذا النوع الغنائي ومناصرتهم في مشوارهم الفني، والعدد الكبير من الشباب الذي يتقدم للتسجيل في مسابقة »المهرجان الوطني لأغنية الشعبي« خير دليل على ذلك، ناهيك عن متابعتهم المستمرة لمجريات المسابقة الوطنية وتشجيع الفائزين، وكل هذه الأمور تبعث في نفوسنا أملا كبيرا بتألق الموسيقى التراثية وإبتعادها عن ظاهرة الإندثار والنسيان. والفضل فذ ذلك يعود بالدرجة الأولى لعمالقة أغنية الشعبي الذين أسروا القلوب الجزائرية، وأجبروا الشباب على الإستماع إلى أغانيهم الجميلة التي لا تنسى رغم السنوات الطويلة التي مرت على صدورها بالسوق، وهذا يدفعنا للوقوف بإجلال أمام أعمدة الأغنية الشعبية الذين حافظوا بأنفسهم على موروثهم الفني الجميل، ودفعوا كل جزائري على الإخلاص لأعمالهم الطربية المستوحاة من عمق القصيدة التراثية الأصلية، وقد حان الآن دور الشباب لإكمال هذه الرسالة وإعطائها أسمى الكلمات الراقية وتنميقها بأجمل المقاطع الموسيقية ذات النكهة الشعبية العريقة . الجمهورية: ما تعليقك علي الموسيقى العصرية التي أدخلت على أغنية الشعبي؟ ع. بن دعماش: ليس كل ما أدخل من أنواع جديدة تعتبر (ناجحة) في عالم الفن ولا أنكر أن أغنية الشعبي تحتاج لنوع من العصرنة لكن دون المساس بمحتواها وزصالتها العريقة لأن هذا التراث هو تراث حي، ولهذا الغرض يجب أن يتماشى وعصرنة الزمن، كما لا يمكن إهمال بعض الأمور فيما يخص القواعد العامة التي لها علاقة مباشرة بأغنية (الشعبي) سواء كانت قديمة أو جديدة، وأهمها الجودة والمحافظة على الشخصية الفردية أو العامة، وصحيح أن بعض الأشخاص ابتكروا موجة جديدة أسموها "بالنيو شعبي" وأنا شخصيا لا أحبذ هذه التسمية خصوصا أن هؤلاء الأشخاص لم يأتوا بالشيء الجديد ليعززوا به هذا اللون الغنائي، فكل همهم هو إدخال موسيقى عصرية للوصول إلى العالمية، مع إهمال اللفظ الصحيح في أكثر الأغاني الشعبية، ففي الوقت الذي يعتقد فيه هؤلاء أنهم أبدعوا وخلقوا شيئا جديدا في عالم الموسيقى التراثية أراه أنا شخصيا أن لا علاقة له بالشعبي الأصيل، لأن الأصالة تمكن في الكلمة النظيفة والموسيقى الراقية، وكذا الصوت الجميل لأنها تشكل مع بعض رسالة ثقافية تحافظ على الهوية والتميز الثقافي الجزائري. الجمهورية: نفهم من كلامك أنك تدق ناقوس الخطر فيما يتعلق بمستقبل أغنية الشعبي؟ ع. بن دعماش : لا أخفيكم علما أن واقع التراث الموسيقى ككل في (خطر) ويجب تسخير جميع الوسائل المادية والمعنوية لإنقاذه من هذا التيار، وحمايته من الإندثار، خصوصا أغنية الشعبي التي تحمل أشياء لا يمكن أن تنسى، وعلى الجيل الجديد ألا يحكم على الشكل لأن المضمون هو الأهم، فإذا كانت »منظمة اليونيسكو« قد اعتمدت تراثنا ضمن (التراث العالمي) فلم لا نكرس وقتنا ومالنا للحفاظ عليه من خلال محاربة النسيان، وأشكال الإهمال، ونواقيس الخطر تدق أكثر بعد عمالقة الأغنية الشعبية على غرار الحاج محمد العنقا والهاشمي ڤروابي، وبوجمعة العنقيس، وعمر العشاب، الذين تداولوا هذا الفن وتنافسوا لتقديم الجديد من القصائد المديحية الدينية والعاطفية، حيث أصبحت الكثير من القصائد خالدة مثل "الحمام اللي والفتو" يوم الجمعة خرجوا لريام" وأغنية "المكْنَاسيّة" وغيرها من الأغاني الراسخة، وبعد ذهاب هؤلاء الأعمدة صارت أغنية الشعبي مجرد تقليد كونها إرث يرثونه عن آبائهم وهم ملزمون على الحفاظ عليه كما هو دون إلتماس بأصالته وعراقة كلماته. الجمهورية: إلى أي مدى يؤثر »الشعر الملحون« في تأدية »أغنية الشعبي«؟ ع. بن دعماش : (الشعر الملحون) هو القصيدة في حد ذاتها وهو أساس التراث الموسيقى الجزائري، وبدونه لا يمكن للأغنية الشعبية أن تؤدي لأنها تعتمد عليه بشدة من ناحية صياغة الكلمات المورونة وتناغمها مع البناء الموسيقي الأصيل، ففي السنوات الأولى من ظهور (أغنية الشعبي) لم يكن يوجد سوى القصائد والمدائح الدينية التي تتغنى بالرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) ولا تخرج كلماتها عن خطوط الدين الإسلامي بتاتا، حيث أكد مختلف الباحثون أن (المديح الديني) له هيمنة كبيرة في عالم الموسيقى التراثي على حساب »الأغاني العاطفية«، لكن الأمر يغير بعد ذلك بظهور شعراء إختصوا أساسا في تأدية »الشعر الملحون« الذي يتكلم عن المجتمع والحب والعائلة، وكذا الدين كقصص الأنبياء مثلا، ليأخذ هذا الأخير مكانة هامة في تاريخ أغنية الشعبي. الجمهورية: هل يوجد أرشيف خاص لحفظ الموروث الفني لأغنية الشعبي بالجزائر؟ ع. بن عماش: هناك قسم هام يوجد بمكتبة الأغاني بالإذاعة الوطنية، وقسم آخر بالصورة متواجدة بأرشيف التلفزيون الوطني، حيث يوضع هذين القسمين في متناول البرمجة اليومية لهذين المؤسستين الإعلاميتين إلى جانب وجود أرشيف آخر بالمكتبة الوطنية والمؤسسة الوطنية للأرشيف فقط للمحافظة عليه (كذاكرة وطنية). ورغم هذا فاسمحوا لي أن أعبر عن أسفي لعدم وجود إمكانيالت أكبر من هذه تعمل على حماية هذا الأرشيف، من خلال تجسيد فضاءات واسعة ومعتمدة من طرف الجهات المعنية، حتى يتسنى لعشاق أغنية (الشعبي) والتراث الموسيقى ككل أن يطلعوا على هذا الأرشيف وتفتح الأبواب أمام الطلبة والباحثين للتعرف على أسرار هذا الفن الجميل والمراحل التاريخية التي رسمت من طرف أعمدة الأغنية الشعبية، فبصراحة نحن لا نعطي هذا الموضوع حقه من الإهتمام عكس الدول العربية والغربية الأخرى التي تبذل مجهودات كبيرة لحماية هذا التراث من خلال خلق (أرشيف خاص به) وغيرها من المبادرات الإيجابية التي تصبو من خلالها للحفاظ عليه من الإندثار مع مرور الزمن، وفي ظل هذه الموسيقى العصرية. الجمهورية: خضت رحلة طويلة خدمة للتراث الموسيقى، لاسيما أغنية الشعبي، كيف رسمت هذا المسار؟ ع. بن دعماش: إهتمت بالموسيقى التراثية منذ صغري، وعندما صرت شابا رسمت لحياتي خطة محكمة، ووعدت نفسي بأن أتبعها خطوة بخطوة، ففي بداية مشواري كنت مطربا في أغنية (الشعبي) ثم ولجت عالم الإعلام وعملت "بالإذاعة والتلفزيون" ثم تقلدت عدة مناصب (بوزارة الثقافة) لأستغل الفرصة وأقدم العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية حول "الأغنية الشعبية"، ولا زالت لحد الآن أقدم حصة " ما يا وحسين" لأدخل بعدها عالم البرمجة فأسست »المهرجان الوطني لأغنية الشعبي« واستمتعت كثيرا بلقائي مع أهم مطربي الشعبي الذين عبرت لهم عن حبي الكبير وإهتمامي البالغ بفنهم كما وجدت لذة كبيرة وأنا أفتح الأبواب أمام الجيل (الجديد) ليدخل عالم المسابقات في إطار هذا المهرجان، وأنه لشيء عظيم أن تشاهد هذه المواهب وهي تؤدي أغاني شعبية طربية لأعمدة الغناء، وتتنافس على إثارة إعجاب "لجنة التحكيم" لتفوز باللقب، واليوم وصلت إلى مرحلة التأليف، حيث أصدرت العديد من الكتب حول أبرز عمالقة الأغنية الشعبية والتراث الموسيقي ككل ، كما تناولت عدة مواضيع طرحت حول واقع هذا الفن العريق، إضافة إلى ذلك أصدرت (16) مغلفا يضم أقراصا مضغوطة وعدة وكتب كل واحد منها يتكلم عن 75 شخصية، وأغلب هذه الكتب قد ترجمت باللغة العربية، وهدفي الأول من تقديم هذه الشخصيات المتميزة هو التعريف بالموسيقى الجزائرية وتقديمها في كتب مما يولد الخزان الكبير للموسيقى الجزائرية. وعليه فأنا مقتنع جدا بما قدمته الموسيقى التراثية وأنوي تقديم المزايدات إن شاء الله، لتكتمل خطتي التي رسمتها منذ صغري. الجمهورية: آخر كلمة؟ ع. بن عماش: أشكر (جريدتكم) الموقرة على الإهتمام بهذا اللون الموسيقي الهام الذي يمثل التراث الفني العريق لبلادنا وأتمنى فعلا أن يهتم الجيل الجديد أكثر بأغنية الشعبي لأنها كنز ثمين ولا يمكن أن يعوض بأي ثمن، فكل ما تحتاجه هذه الأخيرة هي الحماية من الإندثار والحفاظ عليها من النسيان، كما أتمنى أن ترقى الموسيقى التراثية لأعلى المستويات ولا تهتز مكانتها أمام العصرنة الفنية وباقي الألوان الموسيقية الحديثة لأنها تحمل رسالة ثقافية لا بد من إيصالها للمجتمعات الأخرى وشكرا لكم.