بدأ هذه الأيام إثارة لغَط مُتنامي حول عقوبة الإعدام، وإن كان لا ضير من مناقشة أي موضوع حتى وإن كان من الُمسلَّمات، إذ الحق دوما أغلب، فإنّ الضرر والضرر كلّه، هو أن يعمد كاتب ما، الى اعتبار أنّ الرأي الفلاني وَجيه، لا لشيء إلا لأنّ دولة كذا أو دولة كذا، أَخذت به. والحق أنّ الهوس باتجاهات الدول تلك، مرجعه الخلط بين عالمين مُتباعديْن أشد التباعد، فتقدُّم تلك الدول في مجالات المادة، لا يجعل منها بالضرورة مُتقدِّمة على بقيّة العالم في مجال الروح أو الأخلاق أو التنظيم الاجتماعي؛ فضلا عن ذلك، فإنّه إذا كانت تلك الدول قد أخذت بمعْوج إلغاء عقوبة الإعدام، فإنّ دُوَلا أكثر تقدُّما منها، ما زالت تُصرّ على الإبقاء على تلك العقوبة. إنّ دعاة إلغاء عقوبة الإعدام يخطئون أوّل ما يخطئون حسابيا، إذ يُساوون بين قاتل أو مجرم استحقّ عقوبة الإعدام، وبين مجتمع كامل، إذ ليس كل المجتمع مُعرَّض لعقوبة الإعدام، وبمقابل ذلك فإنّ فئة قليلة منه هي التي تُعرّض نفسها لهذه العقوبة “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعا”. وحين تستحق هذه القلّة العقوبة، فإنّها تسْتحقها أوّلا نتيجة اقترافها لِجُرْم لا يقلّ أثره البتّة عن العقوبة، وإلاّ ما حقيقة الوجود كلّه إذا كان الشخص لا يُجازى بما عمل، إنْ خيْرا فخيْرا، وإنْ شرّا فشرّا، وثانيا ما وسيلة حماية المجتمع إذا كان القاتل أو من استحقّ عقوبة الإعدام لا يُجازى بنفس مستوى عقوبة ما اقترفه، ثم أيّ وسيلة ردْع توازي وتساوي جريمة اختطاف وقتل أو إفساد بمادة “الهيروين” لطفل وحيد لدى عائلة آيسة من إعادة الإنْجاب، وقسْ على ذلك كثير. يضع كل مجتمع من المجتمعات لنفسه أدوات حمايته من الأخطار الُمحيقة به، سواء كانت أخطارا خارجية أو داخلية، ولعلّ الأخطار الداخلية أشدّ فتكا “والفتنة أشدّ من القتل”، وإنّ من الأخطار ما لا يُؤبه له حتى إذا اشتدّ فجّر المجتمع تفجيرا، أولا تبدأ حرائق الغابات بشررٍ مُسْتصْغر؟! لئن كانت بلدان أخرى لم يُصبها ما يمكن أن يكون عبْرة لنفسها، فضلا عن أن يكون عبرة لغيرها، فإنّ الجزائر أصابها ما إن لم تَعْتبر به، استحقت بجدارة أن تكون أخْسر الخاسرين، وفي الدعاء المأثور “اللّهم إنّي أعوذ بك أن يكون غيري أشدّ عبْرة بمصيبتي منّي”. إنّ آلاف الضحايا، ضحايا ما يُسمى بالمأساة الوطنية، ما كان تعْدادهم ليكون بتلك الجسامة لو عومل جلاّدوهم من أول يوم بمنطق العين بالعين والجروح قصاص، في ظل عدالة تمنح لهذا وذاك وسائل الإثبات والدفاع الشرعيّيْن. واليوم ونحن نرى كل يوم، آلاف التجاوزات التي تنْخر نخاع المجتمع، ألا بأي وسيلة يمكن للمجتمع أن يُقاوم تيْنك الويلات، مثل الإفساد في الأرض بإدخال آلاف الأطنان من المخدرات والسموم، والقتل البارد من أجل لا شيء تقريبا، وغير ذلك. كنت يوما في إدارة عمومية ما، وكانت تحدث بين حين وآخر سرقات بسيطة من المكاتب، يُغضُّ عنها الطرف حينا، ويُحقّق فيها بدون جدوى أحيانا. وفي إحدى المرات أصرّت الهيئة المسؤولة على ضرورة اكتشاف الفاعلين، وأثْمر التحقيق عن فضح رهْط، قُدِّموا للعدالة وأخذوا قصاصهم، وبعدها لسنين ظلت أبواب المكاتب تبيت مفتوحة ولا يتجرّأ أحد على مدّ يده. إنّ السارق إذ يسْرق والقاتل إذ يَقتل والمفسد إذ يُفسد إنّما يفعل هؤلاء ما يفعلون بعد أن يقوموا بموازنة بين الجرم وعقوبته المنتظرة، وأثبت الواقع أنّه في المجتمعات التي يفوق هامش المخاطرة هامش الربح أو لعله يساويه، تسْتنْكف أيْدي الإجرام إلاّ لمما عن الإقدام عمّا تتجرأ على فعلته في المجتمعات الأخرى. إنّ الهدف من العقوبة في شريعتنا هو الزجر والردع لا التشفّي ولا الانتقام، وكلما قام ذلك على أساس من العدل، وجرى بتعجيل لا مماطلة فيه ولا تعطيل، كلما كان أكفأ للجرم وأزجر للجريمة، وكان جديرا بأن يمنع الجريمة من الإسْتشراء، لأن الجرم كالرائحة العفنة كلما تُرِكت كلما ازدادت انْتشارا. بقلم: خرشي النوي