في 19 مارس 1962 اتفقت قيادة الثورة الجزائرية مع الحكومة الفرنسية على استقلال الجزائر عن فرنسا.. وجاءت اتفاقية إيفيان وما احتوته من بنود بمثابة الإخراج السياسي والقانوني لهذا الاستقلال. لكن اتفاقية إيفيان أنهت الخلاف مع فرنسا وفتحته بين قيادة الثورة نفسها.. حيث اختلف العسكر مع السياسيين حول محتوى الاستقلال الذي وافق عليه السياسيون بتحفظات من العسكريين! خاصة فيما يأتي: أولا: نصت اتفاقية إيفيان على إجراء استفتاء يسأل فيه الشعب الجزائري السؤال التالي: هل تريد أن تكون الجزائر دولة مستقلة متعاونة مع فرنسا حسب بنود اتفاقيات إيفيان! والاستفتاء يكون ب"لا" أو "نعم". وتحفظت القيادة العسكرية على هذه الصيغة من السؤال.. وقالت إنه يكرس ربط استقلال البلاد بالتعاون مع فرنسا فضلا عن أن الاستفتاء يجري في ظل وجود مليون جندي فرنسي ومليون معمر وما يماثلهما من الجزائريين المتعاونين مع الاستعمار.. وكل ذلك بدون إشراف أممي! فهل يعقل أن يوضع مصير ثورة بعد 7 سنوات ومليون ميت رهن صوت يوضع في الصندوق وقد يزور؟! ثانيا: التحفظ الثاني للعسكريين على اتفاقية إيفيان هو نصها على أن يحل جيش التحرير وجيش الحدود ويدخل اللاجئون كمدنيين إلى الجزائر.. وأثير السؤال: كيف لثورة منتصرة أن تحل الآلة التي انتصرت بها دون أن تتعرض إلى خطر التصفية؟! ثالثا: الكولون يحتفظون بكل أملاكهم وامتيازاتهم وحقوقهم المدنية ومنها حق الجنسية الجزائرية في الدولة الجديدة.. وهذا معناه جزأرة الاستعمار وليس رحيله عن الجزائر! رابعا: محافظة الدولة الفرنسية على امتيازات تخص القواعد العسكرية لمدة 25 سنة وعلى امتيازات البترول في الصحراء.. وعلى الامتيازات اللغوية والثقافية. هذه القضايا الأربع رأى فيها العسكر أنها ترهن الثورة ولا تسمح بالاستقلال.. وجرى حول الموضوع نقاش حاد بين السياسيين والعسكريين.. قال فيه العسكريون للسياسيين إنكم خنتم الثورة وقال السياسيون للعسكريين: نحن جلبنا لكم رخصة للدخول إلى الجزائر ومن حقكم أن تواصلوا الثورة بعد أن تدخلوا! ولكن السيد عبد الحميد مهري قال ذات مرة إن الفرقاء حول اتفاقية إيفيان قد حضروا خطة سرية للالتفاف على محتوى هذه الاتفاقية بعد الدخول إلى الجزائر.. وقال مهري إنه حان الوقت لكي نعلن هذا للشعب بمناسبة الذكرى الخمسين! وبالفعل أول التفاف على محتوى اتفاقية إيفيان هو أن جيش الحدود دخل بسلاحه وبقوته كمنتصر.. وأن ديغول حاول منع ذلك ولكن جيش الحدود هدد باستئناف القتال إذا لم تسمح فرنسا لجيش الحدود بالدخول.. وقد ذكر لي ذلك المرحوم منجلي الذي أوفده بومدين إلى قائد الجيوش الفرنسية على الحدود وهدده باسئتناف القتال إذا لم يسمح لهم بالدخول.. وقد رضخ ديغول لمطالب جيش الحدود! ويظهر أن القبول بتصفية جيش التحرير ضمن اتفاقية إيفيان سببه خلفية الصراع في الثورة حول أولوية السياسي على العسكري! وثاني التفاف على محتوى اتفاقية إيفيان هو بث الرعب في صفوف المعمرين والحركى لإجبارهم على الرحيل هربا من الموت.. وقد ساعد في ذلك تصرفات منظمة (O.A.S) التي ساعدت في بث حالة من الرعب ساهمت في استحالة بقاء المعمرين في الجزائر.. وهذا كان بمثابة تحرير حقيقي للأرض من المعمرين الذين لو بقوا لكان الحال مثل حال المعمرين في جنوب إفريقيا. والالتفاف الثالث هو مسألة اختيار نظام سياسي للجزائر المستقلة غير متعاون مع فرنسا في أدبياتها العامة.. وهو ما أدى إلى إعادة النظر في القواعد العسكرية التي رحلت عنها فرنسا في ظرف 5 سنوات عوض 25 سنة (المرسى الكبير غادرته فرنسا سنة 1967).. وأعيد النظر في موضوع الصحراء والبترول سنة 1968، أي بعد 5 سنوات ونصف السنة من الاستقلال.. وأعيد النظر أيضا في موضوع الرابطة الثقافية.. ولطبيعة الموضوع لم تكن إعادة النظر هذه بالحدة التي حدثت في المجالات السياسي والعسكري والاقتصادي. نعم قد تكون الثورة الحقيقية لاستقلال الجزائر عن فرنسا هي التي تمت بعد الاستقلال.. حتى وإن كنا لا نحس بذلك لأننا كنا جزءا من هذه المعركة التي ما تزال مستمرة إلى اليوم.. ولكن بوسائل أخرى غير التي استخدمتها الثورة في 1954. فرنسا ترى أنه حان الوقت الآن لتطبيق اتفاقية إيفيان لأن جيل إيفيان والثورة قد انقرض أو كاد.. وأن الأجواء أصبحت جاهزة لتنفيذ ما عجزت فرنسا عن تنفيذه خلال 50 سنة كاملة!