يرى عدد من المختصين في التاريخ، أننا اليوم مطالبون بإعادة فتح اتفاقية إيفيان للعيان ومناقشة ما جاء فيها بعد خمسين سنة من توقيعها خاصة فيما يتعلق بالشق الثقافي فيها والذي يعد الأهم، لأنّ فرنسا بعد رحيلها نخرت في ذاكرة أبناء هذا الوطن من خلال بنود هذه الاتفاقية التي يرى، موريس آلي، أستاذ الاقتصاد في المدرسة العليا للمناجم بجامعة باريس ومدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي، أن "اتفاقيات إيفيان لم تقدم لفرنسيي الجزائر سوى حماية مقنعة، فما هي إلا تعتيم مُصاغ اُريد به إخفاء حقيقة السياسة الديغولية"، وللحديث عن هذا الشق الهام في هذه الاتفاقية فتحنا ملف "الفجر الثقافي" اليوم أمام مختصين وباحثين شرحوا لنا بنود الشق الثقافي فيها... حسان. م /الطاوس. ب / حياة. س
غنيمة حرب مسمومة قبل الحديث عن الشق الثقافي، لا بد من وضع المهتمين بالتاريخ في الصورة، فاتفاقية إيفيان جاءت بعد شوط من المفاوضات العسيرة بين وفود عديد من جبهة التحرير، جيش التحرير وبين أطراف متعددة مستقلة وأطراف حزبية، سياسية وعسكرية إلى أن وصلت عندنا إلى ما يسمى في الكتب التاريخية بالمفاوضات الحقيقية العلنية وهذه الأخيرة لم تصل إلى مفاوضات مارس في إيفيان 1962 إلا بعد صراع عنيف جدا بين المفوضين الجزائريين والفرنسيين، لأن الفترة ما قبل ديغول أي ما قبل جوان 1958 كانت فرنسا ترسل شخصيات مستقلة لجس نبض المجاهدين والمكافحين في الميدان. من بين محاور الاتفاقية نجد المحور الثقافي الذي يعتبر الأخطر على الإطلاق، والنقطة التي تثير الجدل بين الجزائريين أنفسهم، لأنني عندما أسأل كمؤرخ هل هناك بنود سرية في الاتفاقية؟ وهو سؤال طرحته في العديد من المناسبات على رضا مالك وعلى غيره من المؤرخين والسياسيين، والجميع أجمع على أنه لا توجد بنود سرية في اتفاقية إيفيان الموجودة، ثم سألت هل تملكون نسخة وقع عليها الطرف الفرنسي؟ قالوا لا الطرف الفرنسي لم يوقع ولا نملك نسخة من الاتفاقية موقعة من فرنسا، لذلك أنا أرى أن هناك الكثير من الغموض والاتفاقية المنشورة أو المجودة كأنها تلخيص للاتفاقية الأصلية لأننا لا نملك النسخة الأصلية التي لا يحتكم عليها سوى المفوض الفرنسي، أما المفوض الجزائري فلا يحتكم على نسخة مع الإشارة إلى أنه كانت هناك نسخة على مستوى وزارة الخارجية يقال أنها ضاعت، لكن هل ضاعت بفعل فاعل؟ هل سرقت أم أحرقت خلال الأحداث التي عرفتها الجزائر من 1962 إلى 1965؟ هذا الأمر يبقى علامة استفهام متروكة للباحثين والسياسيين وأصحاب الشهادات لتنوير عقولنا وإزالة مناطق الظل الموجودة عندنا كمؤرخين، ونحن اليوم في العقد الثالث من أعمارنا على الأقل، لذلك نحن نطالب من يملكون الحقيقة أن يصارحونا قبل أن يواروا التراب وتبقى حسرة في القلوب، لأننا نعرف أن هناك في الاتفاقيات أشياء تؤثر تأثير سلبي على حركية مجتمعنا، لكننا بحاجة إلى الاطلاع على الحقيقة ولو كانت صادمة. ومن جملة الأمور التي ركز عليها الطرف الفرنسي في الشق الثقافي من الاتفاقيات مسألة استخدام اللغة الفرنسية، وأنا أقول بصريح العبارة كدارس وكمواطن أن الدولة الجزائرية المستقلة منذ 62 إلى اليوم حققت بالفرنسية كثقافة ولسان وتصور فكري ما لم تحققه فرنسا مع 5 أجيال من الجزائريين الذين أبادتهم بالنار، والدليل على ذلك أن اللغة هي لغة سيادة وفي قوانيننا ومواثيقنا العربية هي اللغة الرسمية للدولة الجزائرية ذات السيادة، ولكن للأسف اليوم كبار المسؤولين يحدثون بسطاء القوم بلغة المستعمر وهذا ما أرادته فرنسا، وهذا حسب رأيي ينطوي تحت منطق ولع المغلوب بإتباع الغالب أبدا كما قال العلامة ابن خلدون رغم أننا منتصرون وهذا هو العيب الكبير الذي عرفته الأمة الجزائرية خلال 50 سنة من الاستقلال. والغريب أن الكثير من الفرونكوفونيين والعملاء يقولون دون أن يشعرون بأن الفرنسية هي غنيمة حرب لكنها غنيمة مسمومة حسب رأيي وهذا يقودني إلى التساؤل عما حققته الجامعات الجزائرية التي تدرس بالفرنسية، ما ترتيبها على المستوى العالمي، وما الذي حققته لنا اللغة الفرنسية على المستوى التكنولوجي، ماذا حققت هذه اللغة للدول الفرنكوفونية مالي، النيجر، وغيرها، فجل ما منحتهم هذه اللغة هي التبعية الكاملة للسان الفرنسي، ثقافته ومجتمعه. من بين أهم البنود الواردة في الشق الثقافي هو الإبقاء على المراكز التعليمية والثقافية لذلك فرنسا دون غيرها من بلدان العالم تنتشر مراكزها الثقافية في أكبر المدن الجزائرية وحواضرها، وعليه أجدني أتساءل لماذا لا تملك أمريكا التي تسيطر على الكون مراكز في هذه المدن؟، ونحن في أمس الحاجة إلى اللغة الإنجليزية، بمعنى ذلك أن السيادة مسألة لا نقاش فيها لذلك ركز المفوض الفرنسي على الإبقاء على الوضع كما كان وأن اللغة الفرنسية تستخدم في القضاء والإدارة، وكان يتصور المفوض الفرنسي استخدام هذه اللغة من طرف الجالية الفرنسية وكأن المجتمع الجزائري هو جزء لا يتجزأ من المالطيين، الإيطاليين، الفرنسيين والألمان الذين دافع عنهم جورج بونبيدو والمفوضون الذين كلفهم ديغول، وحتى في الصراعات القائمة على مستوى الشارع والمؤسسات الثقافية والتعليمية كثير من الساسة لا يحبذون أن تتمركز اللغة الإنجليزية في مكانتها العالمية على الأقل بل ويحاربونها ويحبذون بقاء لغة المستعمر، لذلك نحن في أمس الحاجة كما يقول محمد الشريف ساحلي إلى تحرير تاريخنا، لغتنا وثقافتنا لأن العربية "حرة لا تقبل الضرة". بالإضافة إلى الثانويات العالمية مثل ديكارت وغيرها من المدارس الفرنسية بقيت كسرطان شرعي ينخر جسد الجزائر الحرة الأبية. الشق الثقافي يتعلق أولا باللغة ثم جاءت بعدها بنود التعاون الثقافي لذلك أرسلت فرنسا سنة 63 آلاف المعلمين الفرنسيين الذين أطروا الجزائريين في مدارسهم، وما يخيفه هذا التعاون بين البلدين من خبايا دليله الأكبر أن كانت لغتنا الأم تلقن لنا بين سنوات 63 و68 ساعتين من الزمن، ولم نفكر في التعريب إلا بعد صراع عنيف وسفك دماء وهذا التعليم المزدوج من أخطر التكوينات في العالم، فلا نجد بلدا يعلم لغة أجنبية لأطفاله إلا بعد سن التاسعة، أما في الجزائر أرادوا تدريسها لأبنائنا في السنة الأولى لذلك الخطورة لا تكمن في أن اللغة تحت القاعدة الشرعية "من تعلم لغة قوم أمن شرهم "، لأن تعلم اللغة فرض كفاية وأنا أرى أن هذه البنود الثقافية حققت لفرنسا ما لم تستطع الأخيرة تحقيقه لأزيد من قرن من محاولاتها، لكن وراثة اللغة الفرنسية انعكس سلبا على تطور الإدارة التي بقيت كما كانت أيام "لاصاص "، أي أننا ورثنا إدارة استعمارية بلسانها ولغتها وبيروقراطيتها مع العلم أن أسوأ إدارة في العالم هي الإدارة الفرنسية، كما أن بند اللغة وتبادل المعلمين ثم الإبقاء على المؤسسات الفرنسية والكنسية نشب عنها صراع عنيف بين الجزائريين لفترة طويلة جدا كنا من معاصريه، وكل ذلك كان خاضعا لاتفاقيات إيفيان ولو لم يُصَرحْ به رسميا. الدكتور محمد الأمين بلغيث، باحث في التاريخ
إيفيان مجرد اتفاقيات بروتوكولية لا تمُت للواقع بصلة اتفاقية إيفيان ليست ملخص اتفاقيات كما يدعي البعض بل هي اتفاقيات كاملة منشورة في الجريدة الرسمية الفرنسية والجريدة الرسمية الجزائرية بنصها الكامل، ومنشورة في ثلاث كتب لجزائريين شاركوا في المفاوضات كاملة منها كتاب لوزير الخارجية للحكومة المؤقتة، سعد دحلب بعنوان "المهمة المنجزة"، كتاب لرضا مالك حول اتفاقيات إيفيان، وآخر لرئيس الحكومة المؤقتة الذي أمضيت الاتفاقية في عهده بن يوسف بن خدة، بعنوان "نهاية حرب التحرير في الجزائر-اتفاقيات إيفيان-" وهي منشورة كاملة بالإضافة إلى كتاب للوسيط السويسري في هذه الاتفاقيات وهو أوليفيي لونغ، ناهيك عن الكتب الفرنسية التي تناولتها وكذا الصحف الإعلامية الفرنسية منها لذلك فلا توجد ملخصات للاتفاقية حتى لا نساهم في توسيع ثقافة المغالطة في أوساط الشباب المتعطش للتاريخ. وأشدد على أنه يجب أن نترك الأمر لأهل الاختصاص لا للهواة في المسائل التي تتعلق بالسيادة الوطنية وبالثقافة التاريخية الصحيحة، كما يجب تحديد مصطلح اتفاقيات إيفيان لأنها أخذت أكثر من حقها بل أخذت أبعاد أخرى قد تؤدي إلى تشويه التاريخ خاصة لغير المختصين لأنها في الحقيقة اتفاقيات وليست اتفاق واحد. وفيما يتعلق بالشق الثقافي فنصت اتفاقية التعاون الثقافي والتي يصطلح عليها "بإعلان المبادئ الخاصة بالتعاون الثقافي"، والتي جاءت في 3 أبواب و12 مادة، ومن بين هذه المواد نجد المادة الأولى التي نصت على أن تتعهد فرنسا بتطوير التعليم والتكوين المهني والبحث العلمي، بمعنى أن فرنسا تساعد الدولة الجزائرية الحديثة الاستقلال في مجالات التعليم، التكوين المهني التعليم العالي والبحث العلمي. وقد قمنا بإحصاءات بسيطة فوجدنا بأن في الجزائر سنة 1954 كانت توجد 49 ثانوية، جامعة واحدة، 3 معاهد كبرى ومدرسة عليا، أما التكوين المهني فكانت مراكزه جد محدودة، كما أن عدد الطلبة الجامعيين في ذات السنة لم يتجاوز 518 طالب في جامعة الجزائر والبقية كلهم أبناء الكولون، بالإضافة إلى أن الحركة التعليمية في الجزائر شهدت سنة 1956 نقلة وطنية سمحت للطلبة وفي مقدمتهم الثانويين بالالتحاق بالثورة وتأطيرها لذلك فإن الإعلان الثقافي المنصوص عليه في هذه المادة من اتفاقيات إيفيان نصّ بأن تتعاون فرنسا في الإطار الثقافي، العلمي والفني وتضع تحت تصرف الجزائر نخبة من المُدَرسين، الفنيين، المختصين والباحثين الذين تحتاج إليهم الجزائر في التعليم، التفتيش، تنظيم الامتحانات، المسابقات وتسيير المرافق الإدارية لهذه المؤسسات. أما قضية اللغة، فقد نصت الاتفاقيات على أن تُحترم اللغة العربية للمتمدرسين في الجزائر وتحترم اللغة الفرنسية للمتمدرسين في فرنسا من الجزائريين، والاتفاقيات لم تنص على ازدواجية اللغة وإنما نصت على احترام لغة البلد، حيث تقول المادة رقم 2 من نص الاتفاقية في شقها الثقافي "تتضمن المناهج التي تسير عليها المنشآت التعليمية، تعليم اللغة العربية في الجزائر واللغة الفرنسية في فرنسا" أما بالنسبة لازدواجية الاستعمال اللغوي فهذا ما حتمته الظروف بعد الاستقلال لأنه من غير المنطقي أن يأتي الفرنسي للتدريس في الجزائر باللغة العربية. وتقول المادة 6 "باستطاعة رعايا كل من البلدين سواء كانوا أشخاصا معنويين أو حقيقيين فتح منشآت تعليمية خاصة للبلد الآخر مع مراعاة القوانين والنظم الخاصة بالنظام العام وآداب السلوك" هذا في مجال التعليم، أما في المجالات الثقافية والإعلام من منشورات ونشريات والإعلام المسموع والمرئي من تلفزيون وسينما فقد جاء في الباب الثاني الخاص بالتبادل الثقافي والذي خصصت له 3 مواد، وهي 9،10 و11 فقد نصت المادة 9 على "أن يسهل كل بلد في إطار سيادته دخول ونشر جميع وسائل التعبير عن الرأي الخاصة بالبلد الآخر "أما المادة 10 وهي مادة مهمة جدا" يشجع كل من البلدين في أرضه اللغة والتاريخ والحضارة الخاصة بالبلد الآخر ويسهل الدراسات التي تجري في هذه الميادين والمهرجانات الثقافية التي ينظمها البلد الآخر" وتنص المادة 11 "على أن يبق الاتفاق مشترك بين البلدين الخاص بكيفية المساعدة الفنية التي تقدمها فرنسا للجزائر في ميدان الإذاعة والتلفزيون والسينما" أما ما يجرى اليوم في فرنسا والمتعلق بالتاريخ فنحن لا نراه تطبيقا للاتفاقيات، لأن هذه الأخيرة في هذه النقطة بالذات تنص على تشجيع الباحثين الجزائريين وغير الجزائريين لدراسة التاريخ النزيه المرتبط بسيادة البلد الآخر، وما تقوم به فرنسا من نشاطات في هذا المجال بالذات من ندوات تاريخية واستنطاق شهادات أو استقراء الوثائق والمستندات يصب في مصب قانون فبراير الممجد للاحتلال، لأن فرنسا بهذا القانون تكون قد خرقت خرقا بينا كل نصوص الاتفاقيات الماضية بل مست حتى النية المستقبلية. فرنسا تنصلت من بنود اتفاقيات إيفيان فيما يتعلق بالجانب الثقافي في كل ما يخدم الجزائر ويساعد على نهضتها العلمية، التعليمية، الفكرية، الإعلامية والحضارية، واكتفت بما يخدم مصالحها خاصة في مجال لغتها الفرنسية ولذلك نلاحظ بالعودة إلى سنة 1962 وما شهدته أزمة الدخول المدرسي في سنة 62-63 من تنصل فرنسا من التزامها مثلما وعدت الحكومة الجزائرية بتقديم 60 ألف معلما، أستاذا ومتعاونين تطبيقا لنصوص هذه الاتفاقيات لم تبعث فرنسا منهم ولا نسبة تستحق الذكر، وكادت أن تدخل الجزائر في أزمة. ولأنه لا توجد إطلاقا قوانين ملزمة لتطبيق اتفاقيات إيفيان كان أول من انتقدها هو، موريس ألي، أستاذ الاقتصاد في المدرسة العليا للمناجم وبجامعة باريس ومدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي، وهو أيضا أول من دعا إلى تقسيم الجزائر إلى مجتمعين وحرر بيان الدفاع عن المجتمع الحر في جانفي 1959، وكتب كتابا عن اتفاقيات إيفيان يقول فيه على سبيل المثال في الصفحة 40 "إن اتفاقيات إيفيان لا تقدم لفرنسيي الجزائر سوى حماية مقنعة فما هي إلا تعتيم مُصاغ اُريد به إخفاء حقيقة السياسة الديغولية". وعليه تبقى إيفيان مجرد اتفاقيات بروتوكولية وُقعت في فترة فرضتها الظروف السياسية التي كانت تجتازها فرنسا، ولتثبت هذه الأخيرة لشعبها أنها لم تخرج مهزومة وقعت اتفاقيات إيفيان، وتثبت لأبنائها الذين أصبح يطلق عليهم في فرنسا بأصحاب "الأقدام السوداء" أنها حافظت على حقوقهم الشخصية، الاقتصادية والثقافية، لكن ما يتأكد في هذه الاتفاقيات وقد كتبه الفرنسيون أنفسهم في نقدههم هو أن هذه الاتفاقيات غير ملزمة لأي طرف، وإنما كانت تلجأ دائما في حالة حدوث النزاع إلى القانون الدولي والمحكمة الدولية وكما هو معروف فهذه الأخيرة قراراتها ليست إلزامية ولا تنفيذية. وما نسكتشفه نحن كباحثين، هو القائمين على الدولة كلما أراد الباحثون الجزائريون الخوض في أمور تتعلق بالوطن يقال لهم توقفوا فذاك التاريخ الرسمي ولا يُسمح إلا للفرنسيين البث فيه، لذلك يبقى السؤال الذي لم نجد له جوابا مطلقا هو مدى التزام كل طرف بالشق الثقافي من الاتفاقية؟ وهل خدمت وتخدم هذه الاتفاقيات الجزائر؟