ارتفعت أصوات داخل الحكومة تزعم أن قانون العقوبات لا ينص على معاقبة الجرائم المرتكبة خلال الحقبة الاستعمارية في حق الجزائريين، وأن "إتفاقية إيفيان" تنص على "عفو عام" وهو تضليل للرأي العام الجزائري. * يقول المفكر الفرنسي موريس آلي صاحب جائزة نوبل لعام 1988، والعضو في الأكاديمية الفرنسية "من وجهة النظر القانونية فإن اتفاقية إيفيان تعتبر اتفاقية بين الحكومة الفرنسية وتنظيم لا يمثل الجزائر بكيفية مشروعة، وهي لا تلزم في الواقع سوى الحكومة الفرنسية وفرنسا. فهي لا تلزم بأي حال من الأحوال الحكومة الجزائرية المقبلة إلا من الجانب المعنوي" [موريس آلي: كتاب: الجزائر واتفاقيات إيفيان. ص 37]مستندا إلى أن الاتفاقية ولدت قبل ميلاد الحكومة الجزائرية، ويؤكد على أن الاتفاقية الفرنسية التونسية التي أبرمت عام 1954 نقضت بعد 8 أشهر من إبرامها. * ومن يدعى أن تجريم فرنساالمحتلة "نقص صريح" لا تفاقية إيفيان "إنما يريد ذر الرماد في العيون"، وعندما تعيب الحكومة على البرلمان الجزائري قبوله "مسودة مقترح قانون تجريم الاستعمار" فهذا يدل على تدخل الهيئة التنفيذية في شأن الهيئة التشريعية، وهو شبيه بتدخل فرنسا عبر حزبها في الشأن الجزائري. وأنقل هنا ما يقوله عبد الرحمان فارس عن "هؤلاء" في كتابه "الحقيقة المرة" ص 96: "ذات صباح، وبينما كنت في الفندق، استقبلت ضابطين جزائريين لم أكن أعرفهما، فقدما نفسيهما على أنهما: الملازم الأول رحماني، والطالب الضابط زريني، قال لي الأول: أنا ملحق بديوان السيد Bourges Maunoury وزير الدفاع، وهذا ما يتيح لي الاطلاع على جميع العمليات العسكرية التي تجرى في بلادنا، هذه الوضعية تسبب لنا أزمة ضمير، فلا يمكننا الاستمرار في التزام الصمت، وإننا، في هذه الحالة، نعتبر أنفسنا خونة، وقبل اتخاذ أي موقف سياسي، ولو اقتضى الأمر أن نفر من صفوف الجيش الفرنسي، فإننا نود مراسلة الرئيس Coty لنطلعه على أزمة الضمير التي صارت تقض مضاجعنا، فهل تريد الحكومة أن تطلع فرنسا على "المشروع" قبل إحالته على البرلمان حتى لا تصاب بأزمة ضمير؟ لقد كان السي عبد الرحمان فارس رئيسا (للجهاز التنفيذي المؤقت للدولة الجزائرية) واختارته فرنسا لعلاقاته الحميمية بمعظم رجالاتها. يقول فارس "بعد المقابلة الأولى أخبرت أن الجنرال ديغول يرغب في مقابلتي للمرة الثانية ما إن جلست حتى بادرني الجنرال، وفي صوته نبرة حادة، قائلا: "يا عزيزي الرئيس. لقد فكرت مليا في الجزائر وفي ما قلته لي خلال مقابلتنا السابقة: هلا تشرفني في حكومتي كوزير دولة". * هذه هي الحقيقة التي لا تقال، ولكن السيد عبد الرحمان فارس رئيس حكومة "الروشي نوار" اعترف بها في مذكراته. * لوبي الأقدام السوداء وحزب فرنسا * كان أول حلم يتحقق ل "لوبي الأقدام السوداء" هو إنشاء "نادي الحنين إلى الجزائر" عام 1973، وبعد 33 سنة صار يقدم نفسه كجمعية ل (جالية فرنسيي إفريقيا الشمالية)، بعد أن أسس عام 1993 جمعية "الذاكرة الفرنسية لما وراء البحار" وبعد إنشائه أكثر من 33 ناديا، دفع بالرئيس جاك شيراك إلى "إقامة نصب تذكري" له في 11 نوفمبر 1996، وكان خطاب التدشين واضحا: "بمناسبة هذا التكريم فإننا ننوه بمجهودات كل من ساهم في صنع مجد فرنسا، وتقمص إنجازتها الحضارية". * ومنذ صعود اليمين ممثلا في الرئيس شيراك و"لوبي الأقدام السوداء" يحقق انتصارات تلو انتصارات في طريق الاعتراف بهم ك "مستوطنين"، وكانت السنة الثقافية للجزائر بفرنسا، بداية الاهتمام الرسمي الإعلامي بما نسميهم "الحركى"، وجاء الإنجاز في شكل قانون 23 فيفري 2005 يؤكد في مادته الرابعة الاعتراف ب "الدور الإيجابي للتواجد الفرنسي فيما وراء البحار". * إن الذين يتمسكون ب (اتفاقية إيفيان) لم يقرأوا بعد المادة الأولى والثانية والثالثة من قانون تمجيد الاستعمار الذي اعتمدته الجمعية الفرنسية (البرلمان)، وهي مواد متناقضة مع جوهر الاتفاقية، كما يفسرها (حزب فرنسا في الجزائر). وفي هذا القانون خمس مواد تمس الثورة الجزائرية وتعتبر إهانة للشهداء. * فرنسا التي وصفت قتل الأرمن "بالإبادة الجماعية" في نص قانون 29 جانفي 2001، هي فرنسا نفسها التي وضعت المتاجرة بالزنوج والاستعباد ب "جريمة ضد الإنسانية" في نص قانون 21 ماي 2001، وهي فرنسا التي أسست لما يسمى ب (الإبادة الجماعية) لليهود في قانون 13 جويلية 1990. * ولكن هل هي فرنسا التي جاءت بقانون تمجيد الاستعمار؟ * يبدو لي أن إعادة قراءة تاريخ الجزائر هي التي تكشف لنا مواطن قوة وضعف فرنسا، وأهم مفكر أدرك الفكر الحقيقي لفرنسا هو فرانس فانون، فمن يقرأ كتابه (العام الخامس للثورة الجزائرية) يكتشف الحقيقة التي لا تقال في "التأريخ للعلاقة بين فرنسا الاستعمارية والشعب الجزائر وثورته المجيدة". * وحسب فرانز فانون فإن العدو اكتشف فجأة أن إدارة أعمال مؤتمر الصومام ل 20 أوت 1956 باللغة الفرنسية أزال "التحفظ العام التقليدي للجزائر إزاء استعمال اللغة الفرنسية في ظل الوضع الاستعماري". * ويرى فرانز فانون بأن "كفاح الشعب الجزائري هو الذي يسهل بث اللغة الفرنسية في الأمة... ولسوف يكون بث بلاغات الجزائر المقاتلة بالفرنسية، محررا للغة العدو من مدلولاتها التاريخية". [فرانز فانون: كتاب "العام الخامس للثورة الجزائرية" ص 90]. * ومنذ 5 جويلية 1830 لغاية 1947 كانت اللغة العربية ممنوعة في المنظومة التربية بالمدارس الخاصة ومدارس المحتل، وكانت المنظومة السياسية والمجتمع المدني تعقد مؤتمراتها باللغة العربية حتى تكسب ثقة الشعب فيها، وهذا فاستعمال الحكومة المؤقتة اللغة الفرنسية وكذلك الإذاعة الجزائرية السرية بهذه اللغة كان بمثابة "عملية شبيهة بالرقية" للتخلص من كراهية اللغة الفرنسية - كما يقول فرانز فانون- إننا نشاهد شيئا يشبه استلام لغة المحتل من قبل الساكن الأصلي". * لقد كان الجزائريون يسمون الإذاعة الفرنسية في الجزائر ب (راديو الكفار) ونبذوا لغة العدو، لكن هل نعتبر لجوء الثورة الى لغة المحتل"خطأ" أم مجرد "وسيلة اتصال". * يخيل لي أن من يعتبرون "الفرنسية مكسب وطني" هم الذين أسسوا لثقافة المحتل، وهم يمثلون "حزب فرنسا" في الجزائر، وحتى الآن ما يزالون متمسكين بفرنسا ومرهونين لديها. * ولو يفتح "ملف المنح" التي تعطيها فرنسا إلى الذين كانوا في إدارتها وتسلم لهم حتى الآن بالعملة الصعبة عبر مراكز البريد الجزائري ربما نكتشف أن عدد "مزدوجي" التقاعد في المنحة الجزائرية الفرنسية أكثر من عدد مزدوجي الجنسية الجزائر الفرنسية، ويفترض أن يُجَرّم القانون "حزب فرنسا" كما يجرم فرنسا الاستعمارية حتى لا يبقى "تجريم الاستعمار" قرارا سياسيا لفرنسا في الجزائر على حد تعبير كوشنار وزير خارجية فرنسا. * و"حزب فرنسا" في نظر المؤرخ الراحل محفوظ قدّاش هو لما كان يوصي به النقيب ريشار "الزواج المختلط والإدماج" والذين التحقوا بالجيش الفرنسي، وهو "حزب الكفار" في عهد الاحتلال الفرنسي للجزائر. [محفوظ قداش: كتاب جزائر الجزائريين 1830 - 1954. ص 176]. * وللحديث بقية.