يقدم الدكتور محمد التومي المختص في أمراض القلب في مذكراته (1) صورة وافية، عن تجربته بالولاية الثانية أثناء ثورة التحرير، وعن منظومتها الصحية المتكاملة: بمستشفياتها وصيدلياتها ومخازن أدويتها، فضلا عن بيروقراطيتها كواحدة من لوازم الصحة بصفة عامة! ولأول مرة يلمس القارئ كثقافة التدخل الطبي في الميدان، وتضحيات رجاله ونسائه ومشاكلهم اليومية أيضا: قلة الأدوية، ضيق المستشفيات، غضب الممرضات..إلخ. ويقدم لنا الدكتور التومي تجربته أيضا في عبور خط موريس الجهنمي، وكيف نجا من صعقة قاتلة بفضل يقظة أحد رفاقه.. ويقف بنا مع قائد كتيبة إمداد مثقلة بالسلاح، ومدى عزمه وشعوره بالمسؤولية وكيف استطاع في شتاء (1957 1958) أن يوصلها إلى الولاية الثانية، بأقل ما يمكن من الخسائر: عدد ضئيل من الجرحى أثناء اجتياز حقول الألغام التي كان الثوار يطلقون عليها عبارة "حدائق جهنم"! والمؤسف أن هذه "الحدائق أدت في نفس الفترة إلى سقوط الشهيد الرائد علاوة بن بعطوش صعقا وكان عائدا من تونس رفقة قائد الولاية العقيد علي كافي.. وإلى جانب هذا وذاك تضمنت مذكرات الدكتور التومي ملاحق بالعديد من الوثائق، من أهمها وثيقة صادرة عن قيادة الثورة في مؤتمر الصومام، تتعلق بمهمة الشيخ إبراهيم مزهودي في ولاية أوراس النمامشة. طبيب قلب.. في قافلة إمداد كيف نجوت من صعقة قاتلة تقرر التحاق الدكتور محمد التومي بالولاية الثانية في أواخر 1957، رفقة كتيبة إمداد، يقودها عيسى عبد الوهاب، المجاهد المتمرس الذي قدم إلى الولاية في صائفة 1955، من ناحية النمامشة بالولاية الأولى المجاورة. تم تحضير عملية الدخول بمعسكر الولاية بضواحي ساقية سيدي يوسف، الواقع بالقرب من مناجم قديمة مهجورة، وأشرف على العملية الشهيد السبتي بومعراف مسؤول المنطقة الوسطى من القاعدة الشرقية الذي حرص على التمهيد لها، باستطلاع الطريق أولا.. وكان استطلاعا وجيها، لأن الفوج المكلف بذلك وقع في كمين للعدو كان يستهدف الكتيبة.. وقد استوجب ذلك تأجيل التنقل ب 48 ساعة، مع تمويه ذلك بمناورة في اتجاه الونزة غربا والاختفاء بإحدى الغابات، قبل العودة ليلا في اتجاه الشمال نحو منقار البطة، حيث مركز قيادة عبد الرحمان بن سالم قائد المنطقة الأولى. بعد ظهر اليوم الثاني تحركت الكتيبة باتجاه خط موريس، وهو عبارة عن شريط من الأسلاك الشائكة المكهربة بتيار ضغط مرتفع جدا، تحميه شرقا وغربا منطقة خالية، تتخللها الفخاخ القاتلة وحقول الألغام المميتة. صادف وصول الكتيبة على مقربة من مكان العبور وجود كتائب أخرى من الولايات المجاورة تهم بالدخول أيضا، ونظرا لخطر هذا التواجد الكثيف الذي يمكن أن يلفت انتباه أجهزة مراقبة العدو قرر المجاهد عبد الوهاب اجتياز خط موريس في نفس الليلة. وهكذا تحركت عناصر الكتيبة، يسبقها أدلاء مجربون وفق نظام صارم: كل جندي مدعو لوضع قدميه على آثار سابقة تجنبا لخطر الألغام الفردية المزروعة بكثافة، ومع ذلك انفجرت ثلاثة ألغام في طريق الكتيبة، أدت إلى عدد من الجرحى تم نقلهم على ظهور البغال. أما الدكتور التومي فقد نجا من صعقة مؤكدة في لحظة غفلة، أوشك خلالها أن يلامس بجبينه السلك المكهرب لكن رفيقه محمد الفلاڤ تدخل في الوقت المناسب لمنع هذا التلامس، منقذا إياه بذلك من موت محقق. كان العبور السريع يقتضي قطع بعض الأسلاك، ما يعني إطلاق إشارات الإنذار، والتدخل الفوري للمصفحات الحامية للخط، والتي تستعمل السكة الحديدة في تنقلها، لذا كان على الكتيبة أن تبتعد عن مكان العبور ما أمكن، لا سيما وقد أخذت المصفحات تنفث نيران رشاشاتها الثقيلة، تمكنت الكتبية فعلا على بعد نصف ساعة، من الابتعاد عن مرمى هذه العربات الجهنمية، لكن عليها كذلك وقد اكتشفت أمرها، أن تتجنب الوقوع في دائرة عملية التمشيط المؤكدة غدا، ويعني ذلك قطع شوطين بدل شوط واحد. أي السير بدون توقف 12 ساعة، بمعدل 5 إلى 6 كلم في الساعة، علما أن كل جندي كان يحمل 25 كلغ على الأقل. كان الفصل شتاء، فكان الجنود يسيرون معظم الأحيان ليلا في ظلام دامس، يشد بعضهم بعضا من أحزمة الذخيرة التي تطوق خصورهم. لم يكن الدكتور متعودا على المشي ساعات طويلة في ميادين وعرة، فما لبثت قدماه أن انتفختا، حتى ضاق بهما حذاء الميدان الذي ينتعله، وبلغ منه الأجهاد، إلى درجة النوم ماشيا دون أن يشعر، ولم يقدر ذلك حق قدره إلا في حدود السادسة من صباح الغد، عند النزول بأحد المراكز واحتساء قهوة ساخنة حلوة.. كل هذا الجهد والعناء، ولم تبارح الكتيبة بعد منطقة السبتي بومعراف! وقد بلغها أن عملية تمشيط كبيرة تجري في القطاع الذي تجاوزته، بفضل المشوار الإضافي الذي قطعته. كانت عناصر الكتيبة منهكة تماما، إلى درجة العجز بدنيا عن القيام بأي حركة.. في هذه اللحظة بالذات علمت أن وحدة من المجاهدين بالقطاع، تتأهب لنصب كمين في مكان غير بعيد عن معسكرها، ولحسن الحظ أن الكمين ألغي في آخر لحظة، لما كان في تنفيذه من مخاطر على كتيبة منهكة ومثقلة بالسلاح. أصبحت الأشواط التالية أقصر مسافة وأقل تعبا، وإن اضطر الدكتور لاستبدال حذاء أكبر بحذائه نظرا لانتفاخ قدميه. كان على الدكتور أن يودع الكتيبة في ضواحي عزابة، ليلتحق بالدكتور الأمين خان مسؤول الصحة بالولاية الذي كان يومئذ في جبل غدير، كان اللقاء في يوم شتوي كثير الثلوج، يتذكر الدكتور أنه تناول خلاله أطيب كسرة، وكانت من إعداد مسؤول الصحة شخصيا. أقام الدكتور بعض الوقت في مركز قيادة سي علي منجلي المسؤول العسكري بالمنطقة الثالثة، وهو قائد زاهد المظهر فولاذي الطبع.. وهناك التقى بالعديد من المجاهدين أمثال: علي بوحجة، صالح بوجمعة، السعيد حمروش، رابح لوصيف، السعيد مدور... وأخيرا توقف الدكتور بمستشفى بوزوري، وهو عبارة عن منزل سابق لمستوطن يدعى فرسيس، يقع وسط أيكة في مكان مثالي من شبه جزيرة القل، يشرف على بحر في منتهى الجمال والصفاء.. إنه مكان ساحر، لا يمكن نسيانه باختصار بعد فترة قصيرة نزل العقيد كافي قائد الولاية في بوزوري عائدا بدوره من تونس، وقد نقل لإطارات المستشفى نبأ أليما: استشهاد نائبه السياسي الرائد علاوة بن بعطوش، صعقا بالخط المكهرب أثناء العبور. تجربة متكاملة.. في الطب الميداني يقدم لنا الدكتور محمد التومي في مذكراته صورة وافية عن الطب الميداني في الولاية الثانية الذي أصبح مع مرور الزمن يشكل منظومة صحية متكاملة: مراكز صحية، مستشفيات، صيدليات، مخازن أدوية، مدارس للرسكلة والتكوين شبه الطبي.. منظومة صحية بتكوينها البشري: ممرضون، ممرضات، متربصون، أطباء متخصصون إلخ.. مع ما تطرح هذه الجماعة البشرية من مشاكل متفاوتة الخطورة.. كان الطب الميداني في بداية الثورة في الشمال القسنطيني وفي المناطق الأخرى يكاد يتلخص في التدخلات الاستعجالية التي يقوم بها عدد محدود من الممرضين الذين يتواجد أكثرهم رفقة الوحدات، العاملة مباشرة مع العناصر القيادية من الولاية إلى القسم. لكن بعد فترة بدأ القطاع الصحي ينمو أسوة بالقطاعات الأخرى وعرف في هذا الصدد طفرة حقيقية غداة إضراب 19مايو 1956، والتحاق عدد من الطلبة والكثير من الثانويين خاصة بصفوف جيش التحرير الوطني. وفيما يتعلق بالولاية الثانية تحديدا هناك منشور تأسيسي بتم معنى الكلمة، صدر في 9 ديسمبر 1956 عن الدكتور الأمين خان ورفاقه، أدى إلى قيام منظومة صحية متكاملة كما سبقت الإشارة. كان أول اتصال للدكتور التومي مع هذه المنظومة من خلال مستشفى بوزوري، وكان يديره في ربيع 1958 المجاهد الممرض عمار بعزير مسؤول الصحة بالمنطقة الثالثة (القل سكيكدة ڤالمة) ضمن هذا الهيكل الصحي بدأت يتكيف شيئا فشيئا مع الظروف الخاصة للحياة والعمل في صفوف جيش التحرير الوطني. ونجد الوحدة الأساسية للمنظومة الصحية على مستوى القسم، ويدير الوحدة عادة ممرض أو ممرضة برتبة رقيب أول، وتجد هذه الوحدة ما يمثلها بحجم أكبر على مستوى الناحية والمنطقة. ويقام المستشفى النموذجي عادة وسط الغابة، في مكان آمن نسبيا، بالقرب من مجاري المياه ويتكون من عدة وحدات سكنية (ڤرابى): وحدة للفحص، وأخرى للجرحى، ومقر للحراسة يقيم به في الغالب 6 مجاهدين مسلحين جيدا، ويتوفر من جهة أخرى على مخابئ للأدوية والمؤونة، وأخرى لإيواء الجرحى الذين يصعب نقلهم في حالة الإنذار.. وتكون هذه الأخيرة عادة سرية، لا يعرف مكانها سوى عدد محدود من طاقم المستشفى. ونظرا لحاجة المنظومة الصحية المتزايدة لعناصر السلك شبه الطبي، أسست الولاية ابتداء من مطلع 1959 مدرستين للتكوين، بكل من أولاد مسعودة (المنطقة الأولى) وأولاد عطية (المنطقة الثالثة). والطريف أن مصالح الشرطة القضائية بسكيكدة بلغها نبأ هذا الإنجاز متأخرا! فأشارت إليه في تقريرها خلال السداسي الثاني من نفس السنة، مؤكدة تخرج دفعة من نحو 20 متربصا! وأغلب الظن أن هذه المصالح لم تتفطن لتخرج دفعة من المتربصين المعربين لاحقا! ومن منجزات المنظومة الصحية مدرسة لرسكلة عناصرها، بهدف تحسين مستواها، وإطلاعها على ما يستجد في عالم الطب، يندرج في هذا الإطار أيضا إصدار مجلة طبية ابتداء من 1961 (من 22 صفحة).. ولم تمنع الأوضاع الاستثنائية السائدة في الجبال الدكتور التومي من محاولة الاجتهاد في معالجة الجروح، بتجربة الأشرطة اللاصقة بدل الإمساك التقليدية، وكذلك الاجتهاد في اكتشاف بعض الأمراض الناتجة عن الأوضاع الخاصة التي يعيشها الثوار، من صنف الأمراض النفسية والوظيفية في نفس الوقت، على غرار: مرض المخابئ: سببه امتداد العزلة والصمت، وضعف تمثل الأغذية، فضلا عن نقص التعرض للشمس؛ التقليد الحركي للاإرادي؛ فقدان الصوت مؤقتا؛ الأملاح التنبؤية التي تتحقق حسب اللغة الشائعة.. ويفيدنا الدكتور في مذكراته دائما، بأن البيروقراطية من لوازم المنظومة الصحية حتى في الجبال! فقد تضمن الكتاب العديد من الوثائق المتعلقة بطلب الأدوية، والإقامة بالمستشفيات.. هذه الطلبات التي تقابل بالرفض أحيانا! على سبيل المثال ورد في رسالة بتاريخ 1 ديسمبر 1961 أن الجندي فلان المصاب بمرض عارض في عينه، يريد الإقامة بعض الوقت للعلاج بمستشفى أحد الأقسام، وكان قد فحص بنفس المستشفى، وأخذ دواء لاستعماله في تنقله مع وحدته، ترى ما كان جواب مسؤول المستشفى؟ فقد أجاب بكل بساطة: "إذا احتفظنا بجميع من يأتي للفحص، فإن علينا أن نضيف ڤربيين، ونسمح بتحول الأثر من حول المكان إلى طريق!. (يتبع) (*) صدرت أخيرا عن وزارة المجاهدين ضمن سلسلة مذكرات بعنوان طبيب في معاقل الثورة (باللغتين العربية والفرنسية). التأديب.. بالفلقة ! تتميز الولاية الثانية كما جاء ذلك في مذكرات الدكتور محمد التومي بكثرة الجنس اللطيف في سلك شبه الطبي.. فهناك زهاء (500) امرأة في قطاعي الصحة والتموين.. ومن هؤلاء من اخشوشنّ، حتى أصبحن ينافسن الرجال في تحمل المشي مسافات طويلة، وحمل الأثقال كذلك، ومنهن أيضا من تقلدن مسؤوليات، بما في ذلك إدارة مستشفيات هامة، ويذكر الكاتب في هذا الصدد، أسماء لامعة في سماء التضحية والاستشهاد مثل: زيزة مسيكة، مريم بوعتورة، يمنية شراد، عائشة ڤنيفي، مليكة خرشي..إلخ.. لكن هناك أيضا الوجه الآخر للعملة: وقوع شبه عصيان وسط ممرضات بأحد المراكز.. وتبع ذلك اجتماع لجنة الانضباط التي سلطت في تقريرها بتاريخ 27 ماي 1958 العقوبات التالية على الثائرات: التجريد من السلاح والحرمان من المنحة الشهرية لفترة معينة، النقل إلى ناحية أخرى.. وخصت اللجنة الممرضة الرئيسية وشريكتها بعقوبة الفلقة: عشر ضربات للأولى، وخمس للثانية، مع وقت التنفيذ بسبب المرض!.