كان عمار راجعي من الشباب الذين جرفهم تيار حركة أحباب البيان والحرية سنة 1344، كان عمره يومئذ 20 سنة (*)، فقد ولد في 21 يناير 1924 بالمشطاب غير بعيد عن مسكيانة (أم البواقي)، حيث التحق بالمدرسة الفرنسية واستطاع الفوز بالشهادة الإبتدائية، ليوصل دراسته في المرحلة الإكمالية، لكن ضيق حال العائلة المزراعة جعله يتوقف بعد سنتين فقط، ويلتحق بأشقائه العاملين بالمزرعة العائلية. وفي منتصف أكتوبر 1946، تمكن من الحصول على منصب شغل في مناجم الحديد بالونزة، ونظرا المستواه التعليمي ما لبث أن أصبح مسؤولا لمحطة توليد الكهربائي. وفي منجم الونزة -الذي كان بؤرة للنضال الوطني والنقابي- التحق بحركة انتصار الحريات الديمقراطية التي تأسست في نفس الفترة، كواجهة شرعية لحزب الشعب الجزائري السري. كان ينشط بقسمة مسكيانة القريبة من مسقط رأسه، وكان على رأسها يومئذ خياط يدعى عمران آيت بلقاسم. ويؤكد رفاقه في تلك المرحلة، أن المناضل الشاب عمار راجعي كان إلى جانب اهتمامه الوطني، مولعا بالمطالعة وهواية القنص التي جعلت منها راميا ماهرا. لذا عند اندلاع ثورة فاتح نوفمبر 1954، كان جاهزا للإلتحاق بها معنويا وبدنيا.. وكان أول من اتصل به بالعيد حوحة، الموفد من مسؤول الناحية عمر عون البوقصي، ليؤسس للنظام الثوري بمسكيانة وضواحيها. وفعلا، مالبث أن تول مسؤولية النظام المدني لجبهة التحرير الوطني في هذه البلدة، حيث شرع في تنظيم شبكات نصرة الثورة وإمداد جيش التحرير الوطني. ونظرا لسوابقه السياسية، اعترض مبكرا على فكرة إعدام أعيان بعض المشاتي الذين لم يقطعوا صلتهم بإدارة الإحتلال بعد لإنعكاسه السلبي على نظام الجبهة الوليد، ونجاعته في الإستعلام والإمداد خاصة. في ربيع 1955 نفذ الفدائيون في مسكيانة عملية جريئة، استهدفت عناصر من جيش الإحتلال، تعودت التردد على مقهى للمواشي. ففضل أثرها الإلتحاق بصفوف جيش التحرير، حيث تولى أمانة الناحية التي يقودها عمر البوقصي كما سبقت الإشارة. بعد قرابة السنة آلت إليه أمور جيش التحرير بالناحية، بعد انسحاب بلعيد حوحة جنوبا إلى ناحية النمامشة رفقة البوقصي، وكان مشكل الأسلحة يؤرقه شأن كل قائد، ما جعله يتوجه رفقة عبد الله بلهوشات والحاج علي حمدي الحركاتي (1) إلى أعماق الأوراس بحثا عن مساعدة، لكن وضعية قيادة المنطقة التي كانت ما تزال تعاني مخلفات استشهاد مصطفى بن بولعيد، لم تكن تسمح بذلك، فعادوا خائبين وكانت تعليماتهم لرفقاهم "حافظوا على أسلحتكم ما استطعتم! لا أمل في الأوراس إلى أن يأتيَ الله بالفرج!"، اتجه عمار راجعي عقب ذلك إلى تونس، وكان حظه أسعد، إذ عاد منها بأسلحة وألبسة عسكرية، جعلته يستأنف عملية التجنيد المنهجي: 1 قدماء الحرب العالمية الثانية والهند الصينية. 2 قدماء الخدمة العسكرية الإجبارية. 3 المتطوعون عامة بدءا بالشباب. وبفضل تدفق المتطوعين من الفئات المذكورة، استطاع أن يشكل 4 مجموعات مسلحة، فضلا عن دعم النظام المدني، ليشمل قرى أخرى مثل المسلولة، الرحية، عين الطويلة وبلالة.. وغداة مؤتمر الصومام -الذي أنشأ نظام الولايات وقمسها إلى مناطق- تم تثبيت عمار راجعي -برتبة نقيب- على رأس المنطقة الرابعة من ولاية أوراس النمامش، فسارع بتأسيس مجلس منطثة، راعي فيه تمثل أهم النواحي: عيسى بوحفص عن مسكيانة. الحاج علي حمدي عن عين البيضاء. فرحاتي حميدة عن أم البواقي. السعودي بوغرارة عن عين مليلة. وفي أكتوبر 1956 خرج إلى تونس مرة أخرى، رفقة عدد من مسؤولي المنطقتين الرابعة والخامسة، لحضور اجتماع دعا إليه أحمد بن بلة، مسؤول التسليح في الوفد الخارجي لجبهة التحرير.. لكن حادث اختطاف طائرة بن بلة ورفاقه -مساء 22 أكتوبر- حال دون الإجتماع المبرمج، فعاد إلى منطقته. إعداد محمد عباس تحية رأس السنة.. بمدفع الهاون! وحرص قائد المنطقة الرابعة على تدشين سنة 1957 بعملية من نوع جديد استعمال مدف "الهاون" لقصف منجم المسلولة، وقد أشفع ذلك بتوزيع مناشير، تشير إلى أن العملية تحية بمناسبة رأس السنة الميلادية! وفي فبراير الموالي كان رد العدو قاسيا: استعمال الغازات السامة لإبداعة عدد من المجاهدين بقيادة مولود ڤاية كانوا لجأوا إلى غار بنفس الجبل.. لم يترك النقيب راجعي هذه الضربة الموجعة تمر هكذا، فقام في مارس الموالي بعملية عسكرية نفسية في جبل المسلولة، تحت شعار الثأر لضحايا الغازات السامة، وقد تحولت العملية التي قادها رفقة أعضاء مجلس المنطقة إلى معركة شرسة، استغرقت كامل النهار، وكانت حصيلتها استشهاد 18 مجاهدا، بعد إلحاق خسائر فادحة في صفوف العدو، وفي أبريل 1957 استدعي إلى تونس، لحضور تعيين قيادة موحدة جديدة لولاية أوراس النمامشة، برئاسة العقيد محمود الشريف، وقد أشرف على ذلك العقيد أوعمران نائب رئيس الوفد الخارجي للشؤون العسكرية، بحضور الرائد عميروش الذي كان في مهمة بتونس. وتلا تعيين القيادة الجديدة، ايفاد لجنة إعلام ومراقبة إلى الولاية الأول بقيادة الملازم الأول الحاج علي شريط، وقد سجلت اللجنة في تقريره عن زيارتها للمنطقة الرابعة ما يلي: الحالة السياسية: شعب المنطقة صامد، لإيمانه بقضية التحرر والإستقلال، صابر على ما يناله من مكاره بسبب ذلك، وهو متجاوب مع تعليمات جبهة التحرير، بدءا بمقاطعة إدارة الإحتلال التي لا تتردد في ممارسة أبشع ألوان الإنتقام، حرق القرى، تشريد السكان مع تفقيرهم وتجويعهم، حتى يعجزوا عن مساعدة الثوار بالمؤونة. ومع ذلك فالتموين بالمنطقة جيد، فضلا عن وفرة في المال واللباس، ويلاحظ التقرير أن رقابة العدول على التمون من المدن لم تكن مشددة. الحالة العسكرية: يتوفر جيش التحرير بالمنطقة على أسلحة حربية حديثة رغم قلتها، ويبدو عليه النظام والإنضباط والنشاط، وقد رحب بتكوين قيادة موحدة للولاية. وقد تلقت لجنة الحاج شريط أثناء وجودها بالمنطقة تقارير، تشير إلى سوء معاملة بعض المسؤولين للجنود والمواطنين. وفي صائفة نفس السنة بدا للعود أن ينتقم من قائد المنطقة أولا: باعتقال زوجته ورضيعها قرابة أسبوع، وتعذيبها بالكهرباء. ثانيا: بإحراق منزل العائلة وأمام هذه التحرشات الدنيئة قام جيش التحرير بتهريب الزوجة والأبناء إلى تونس، وشهد السداسي الثاني لسنة 1957 معارك ضارية بجبال المنطقة الڤريون، الفرطاس، الرحية وغرب بوخضرة.. كان قائد المنطقة يدرك جيدا مخاطر الأقسام الإدارية المخصص (صاص) في دائرة نشاطه، فكان يحذر باستمرار المواطنين من التعامل معها، منبها إلى دورها الكبير في: التجسس لفائدة الأمن العسكري (المكتب الثاني). العمل المنسق مع مصالح الحرب النفسية (المكتب الخامس). بقي النقيب راجعي على رأس المنطقة الرابعة من الولاية الأولى إلى غاية أوت 1958، حيث واصل كفاحه وسط جنوده، مشاركا في معارك ضارية بجبل فريڤر خاصة في ربيع نفس السنة. وقد خرج إثر ذلك إلى تونس على رأس كتيبة متمركزا بناحية تالة في مرحلة أولى، وقد تولى لاحقا قيادة عدد من المراكز الحدودية لجيش التحرير: تاجروين، ملاڤ، ڤرن الحلفاية وعين عناڤ.. في فبراير الموالي كان رد العدو قاسيا: استعمال الغازات السامة لإبداعة عدد من المجاهدين بقيادة مولود ڤاية كانوا لجأوا إلى غار بنفس الجبل. سقوط.. "أسد المشطاب" في ديسمبر 1959 شكل مجلس وطني جديد للثورة الجزائرية، كان الرائد عمار راجعي من أعضائه، بعد ترشيحه لعضوية مجلس ولاية أوراس، النمامشة. وقد عقد المجلس الجديد دورة مطولة بطرابلس استغرقت أكثر من شهر، كان راجعي من المتدخلين فيها، وعقد الدورة ظهرت التشكيلة الكاملة لمجلس الولاية الأولى كما يلي: العقيد محمد الطاهر عبيدي (الحاج لخضر) قائدا. الرائد عمار راجعي نائبا سياسيا. الرائد الطاهر الزبيري نائبا عسكريا. الرائد علي السويعي نائبا مكلفا بالأخبار والإتصال. بالإضافة إلى الرائد مصطفى مراردة (بالنوي) الذي كان داخل البلاد، يقود الولاية بالنيابة. وكان من قرارات مجلس الثورة في تلك الدورة، دخول العديد من المسؤولين المتواجدين خارج الجزائر، بدءا بالقادة الميدانيين وفي مقدمتهم مجالس الولايات. في بداية فبراير 1960 تلقى مجلس الولاية الأولى أمرا بالدخول قبل نهاية مارس، من بلقاسم كريم باسم اللجنة الوزارة للحرب (2). وتطبيقا لهذا الأمر تأهب الأربعة إلى الدخول، يتقدمهم الرائد علي السويعي الذي تمكن من عبور خطي شال وموريس، والإلتحاق الأوراس في أبريل الموالي رفقة النقيب عبد الصمد.. وفي 14 مارس كانت المحاولة الأولى من راجعي والزبيري اللذين كانا مصحوبين بفوج من خيرة المجاهدين (11 نفرا) وكان راجعي مؤتمنا على وثائق الولاية والأموال المخصص لها.. لم يحالف النجاح في هذه المحاولة الرائد راجعي ورفاقه، رغم تمكنهم من اجتياز خط شال، لأن العدو تفطن للأمر وحاول تطويقهم، ما جعلهم يعودون مضطرين إلى نقطة الإنطلاق.. وكانت محاولة العبور الأولى ما بين الونزة وجبل بوخضرة. وكانت محاولة ثانية في أبريل الموالي من ناحية بكارية جنوبتبسة (3) بالقرب من ملتقى خطي شال وموريس وفشلت أيضا، لأن دليل الجماعة أخطأ الطريق، وقد انتبه الرائد راجعي إلى ذلك، بعض ضياع وقت ثمين واقتراب الفجر، فتقرر الرجوع إلى نقطة الإنطلاق ثانية. واختارت الجماعة في المرة الثالثة الإلتفاف على السد الملغم والمكهرب، عبر الصحراء جنوب نڤرين.. لكن التعب والعطش كانا لها بالمرصاد، ففضلت العافية بالعودة على أعقابها أيضا. وقاد المحاولة الرابعة العقيد قائد الولاية شخصيا بمساعدة الرائدين راجعي والزبيري، ومشاركة نحو ثلاث كتائب من جنود الولاية، وقد أحبط العود المحاولة هذه المرة، عندما تصدى لها بقوات ضخمة، تعززها الدبابات والطائرات. وكانت المحاولة الخامسة والأخيرة من نقطة عبور المحاولة الأولى: جبل بوجابر، قلعة أسنان وجبل بوخضرة كان ذلك في أواخر يونيو 1960، وقد أشرف الرائد راجعي شخصيا على العناصر التي كلفت بقطع الأسلاك، والقيام بالأعمال الممهدة للعبور وتمكنت الجماعة مرة أخرى من اجتياز خط شال، والتمركز بجبل الڤلب (العوينات) شرق خط موريس.. ومن هذا المكان اقتربت من الخط، وقامت بالحفر للتسلل تحته، وأخذ عناصرها يتسللون فعلا الواحد تلو الآخر، وجاء دور الرائد راجعي، فمرر سلاحه إلى السابقين من رفاقه، ثم راح يزحف للحاق بهم وكان قويا البنية ممتلئ الجسم، فلامس الخط بثيابه المبلل عرقا، فصعق فورا. قام رفاقه بسحبه محاولين انعاشه، لكن بدون جدوى فما كان منهم إلا أن تركوا جسده الطاهر مسجى تحت النبات الكثيف، وعند مرورهم بدوار المروانة، طلبوا من المواطنين القيام بدفنه.. هكذا ينتهي مشوار هذا البطل في لحظة غفلة أو تعب، رغم أنه سبق أن عبر خط موريس ذهابا وإيابا نحو 12 مرة، وقد ترك الرائد الشهيد أرملة و5 أطفال..وقد رثاه الشاعر الشعبي الحبيب صيام بقصيد عنوانه "أسد..مشطاب"، من أبياته: رايد مثقف قايد متعلم ولىّ عرش الكفرة كمشة قداموا عزو الله بالشهادة وتكرّم وعلى جنبو طاح رافع أعلامو عيط عيطة اتفطن الصّم "تحيا الجزائر" كانت اختامو (1) من أنصار رمضان عبان في تونس وقد لقي مصيرا مماثلا بالمغرب (2) من أعضاء اللجنة فضلا عن كريم، كل من بوالصوف وبن طبال (3) حسب شهادة العقيد الزبيري في مذكراته. (*) أعددنا هذه العجالة حول الرائد الشهيد اعتمادا على كتاب من إصدار جمعية الشهيد الرائد عمار راجعي دار الهدى، عين مليلة 2009.