منذ أسابيع، تطرقت في هذا الموقع إلى مقارنة بين الديبلوماسية الجزائرية غداة الاستقلال، وإلى خطاب الرئيس الأسبق أحمد بن بلة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعن البعد الاستراتيجي لهذا الخطاب الذي بيّن الفهم العميق لرجال الجزائر المستقلة حديثا للسياسة الدولية وللتحديات التي على الجزائر أن تخوضها، وبين خطاب وزير الخارجية مراد مدلسي بمناسبة ذكرى احتفال الجزائر بانضمامها إلى الأممالمتحدة، وكم كان الفرق شاسعا، بين الرجلين والموقفين. ولأن المقارنة كانت صادمة، اتصل بي زميل - صحفي سابق بالتلفزيون - وقال لي، ما دام أنك تحدثت عن الديبلوماسية الجزائرية غداة الاستقلال، ومدى فهمها للتحديات العالمية، عودي إلى اليوتوب، وشاهدي خطاب الرئيس الراحل هواري بومدين - رحمه الله - سنة 1978، سترين مدى فهم الرجل للتحديات الإفريقية، وللرهان المضروب على منطقة الساحل، وكأنه يعيشها اليوم معنا. ارجعي إليه فهو يفسر بوضوح أزمة مالي اليوم وأسبابها وأبعادها! وهذا ما فعلته، وها أنا بمناسبة الذكرى ال34 لرحيل هذا الرجل السابق لعصره، أعود إليه. يومها تحدث بومدين عما أسماه ”قضية أسرى الزويرات”، وهم 8 جنود فرنسيين أسرتهم قوات البوليزاريو سنة 1977، وتدخلت فرنسا عسكريا لفك أسرهم، لكنها لم تنجح، فقامت الأممالمتحدة بالتدخل لإطلاق سراحهم. بومدين قال إن قضية أسرى الزويرات ما هي إلا حملة ضباب للتغطية على حقيقة النوايا الفرنسية في المنطقة، وأن فرنسا لم تتخل عن أطماعها الاستعمارية في شمال إفريقيا وفي إفريقيا كلها، وعندما تقول فرنسا، إن إفريقيا للأفارقة، معناه أن إفريقيا للفرنكفونية، ففرنسا لم تتخل - كما قال رحمه الله - عن استراتيجية المصالح، وأن الحكومة الفرنسية ضغطت على إسبانيا لتسلم الصحراء لحلفائها وعملائها في المغرب، وقد استغلت أزمة الصحراء لتدفق السلاح على المغرب، وليس هذا السلاح للدفاع على الحدود المغربية، وإنما من أجل استراتيجية تكرس الاستعمار الجديد في المنطقة. وفرنسا تعمل لكي تكون لها منطقة نفوذ في البلدان الإفريقية الناطقة بالفرنسية. ولهذا الغرض افتعلت أزمة الصحراء الغربية. وأضاف بومدين أنه نبه الرئيس الفرنسي اليميني جيسكار ديستان لخطورة هذا الموقف. وأتوقف هنا عن خطاب الرجل! فماذا يجري اليوم في منطقة الساحل، ثمانية مختطفين فرنسيين في مالي والنيجر، ومناطق إفريقية أخرى، وسعي فرنسي لتنفيذ القرار الأممي الذي افتكته فرنسا، من أجل تدخل عسكري في شمال مالي، بحجة محاربة الإرهاب وإعادة شمال مالي إلى سيطرة الحكومة المالية. ومن جهة أخرى يسعى المغرب الحليف الأبدي لفرنسا إلى ”حشر” أنفه في قضية مالي، ليكون له موطئ قدم على حدود الجزائر الجنوبية تحت مظلة أممية. وها هي صحيفة ”الوطن” الجزائرية تنشر أمس، في صفحتها الأولى موضوعا عن ألاعيب المغرب، ومحاولته التدخل في قضية مالي، واستجوبت مسؤولا في المخابرات المغربية، الذي لم يخف وقوف بلاده إلى جانب فرنسا في سعيها لافتكاك قرار التدخل العسكري، حتى أن ممثل المملكة في الأممالمتحدة هو من ترأس جلسة مجلس الأمن حول مالي، وموقفه كان مماثلا للموقف الفرنسي، داعما للتدخل العسكري الذي ترفضه الجزائر. ولأجل إضفاء الشرعية على موقفه، يدعي المغرب هذه الأيام أنه فكك شبكة إرهابية تابعة للقاعدة في بلاد المغرب، حتى يعطي شرعية لموقفه مما تسعى فرنسا لتطبيقه في الساحل، لأن المغرب غير ممثل في القيادة العليا للساحل، التي مقرها بتامنراست. التاريخ يعيد نفسه، والحمد لله أنه في هذه القضية بالذات، لم تنطل الحيلة على الديبلوماسية الجزائرية، التي عبر عنها مساهل أحسن تعبير في كذا تدخل له في الصحافة، وقال لتبقى الجبهة الداخلية متماسكة، أما في الخارج فلن يزعزعنا أحد!؟ رحمه الله الرجل وأسكنه فسيح جنانه، فقد كان سابقا لعصره.