خصّ المناصل الوزير صالح ڤوجيل صحيفة ”الفجر” بحديث، حول تجربته في الحركة الوطنية والثورة. ضمنه شهادته في الكثير من الأحداث التي عاشها سواء بمسقط رأسه عين ياقوت أو في باتنة مقر الدائرة؛ وكذلك بفرنسا التي هاجر إليها في بداية الخمسينيات من القرن الماضي.. ونقف معه في حلقة اليوم عند النقاط التالية: - أجواء النضال الوطني في مسقط رأسه وفي باتنة والهجرة ناحية شامبيري بفرنسا. اجتماعات خلية عين ياقوت عشية الثورة بالثنائي بوضياف - بن بولعيد، ثم بشيحاني النائب السياسي والإداري لهذا الأخير... - بداية الثورة وكيف التحقت خلية عين ياقوت بجبهة وجيش التحرير في باتنة أولا ثم في ناحية بوعريف التي كان على رأسها الطاهر النويشي (غمراس) أحد رفاق بن بولعيد. اجتماعهم ببن بولعيد غداة فراره من سجن الكدية، وكيف عاش الشاهد شخصيا حادثة استشهاده مساء 22 مارس 1956.. ويذكر في هذا الصدد أن الثائر قوزير أسر إليه بإختصار: ”أرقاز يموث ” أي مات الرجل... ”أليس فيكم.. فم يتكلم؟!” ولد المناضل المجاهد صالح ڤوجيل سنة 1932 بعين ياقوت (باتنة)، وسط عرش غاضب في حالة تمرد كامن منذ نحو 60 سنة.. عرش ولاد سي علي الذي عوقب أثر انتفاضة مستاوة سنة 1870، فحجزت منه أرضية الخصبة ناحية المعذر وفسديس لتوزيع على خمسة من المستوطنين الجدد، وقد اضطر إلى النزوح شمالا والإقامة بعين ياقوت، في أرض حجرية حدباء تقريبا. كان والده مؤذنا وإماما بمسجد القرية، فحرص على تعليم أبنائه باللغتين.. وتمكن صالح من الحصول على الشهادة الإبتدائية بمسقط رأسه، ومواصلة المرحلة الإكمالية بباتنة.. لكن ضيق حال الوالد جعلته يطلب منحة لمتابعة مشواره الدراسي.. طرح السيد ”ريكو” حاكم بلدية عين القصر المختلطة الطلب على أعوانه، فاعترض عليه أحد القيادة، بحجة صرف المبلغ في توظيف ”شنبيط” (حارس غاب) ”أولى وأنفع للبلدية”!. وهكذا وجد صالح نفس بالشارع، أسوة بالأغلبية الساحقة من أنداده.. وفي غضون 1944، بدأ يحتك بالنضال السياسي، فقد كان خاله مسؤولا لحركة ”أحباب البيان والحرية” بالقرية، فكان يستعين بابن أخته في تسجيل المنخرطين والإشتراكات خاصة.. وبعد نحو ثلاث سنوات ظهرت بالقرية أول خلية لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، وكان من نشطائها محمد العموري الذي ما لبث أن التحق بمعهد ابن باديس بقسنطينة سنة افتتاحه: 1947 1948. انضم الفتى صالح إلى هذه الخلية كمتعاطف ويذكر أول درس تلقاه فيها يتمثل في العبارة التالية ”لاتسكتوا على حقوقكم! أليس فيكم فم يتكلم؟!”. وفي سنة 1951، استعادت ليبيا استقلالها، فكان لهذا الحدث التاريخي انعكاس غير متوقع في عين ياقوت، فقد تناول المناضل العموري الكلمة بعد صلاة الجمعة ليهنئ الشعب الليبي الشقيق باستقلاله وبلغ ذلك السلطات المحلية فأمرت بالقبض عليه. اختفى المناض الطريد بعض الوقت، قبل أن يتمكن من الفرار إلى فرنسا، حيث سبقه إليها إثنان من أشقائه لكن بعد فترة ألقي عليه القبض هناك أثر صدور أمر بإحضاره.. ونقل إلى الجزائر عبر سجون ليون مرسيليا والحراش (أو سركاجي؟)، حيث تعرف على اثنين من كبار المناضلين: رمضان عبان وأحمد بوڤرة المحبوسين في ”قضية المنظمة الخاصة” ومضاعفاتها. حوكم العموري في باتنة، فتجند عرشه دفاعا عنه.. ونزل يوم المحاكمة إلى عاصمة الدائرة، في نوع من الضغط على القضاة الذين حكموا عليه في نهاية المطاف، بفترة من السجن مع وقف التنفيذ. عقد ذلك هاجر العموري ثانية وهاجر الشاب صالح أيضا، فالتقيا بضواحي ”شامبيري”، للعمل مع مشروع سد بالناحية.. ويذكر الشاهد في هذا الصدد: أنه كان من بين العمال عمدة برشلونة في ظل الحكم الجمهوري، قبل انقلاب الجنرال فرانكوا والحرب الأهلية الإسبانية. أن مسؤول الناحية لحركة الإنتصار كان يدعى أحمد الوهراني، وقد قرب إليه المناضل العموري، قبل أن يستخلفه لأن كان متعلما باللغتين. سمع العامل الشاب ذات يوم إشاعة تفيد بوفاة الحاج مصالي زعيم حركة الإنتصار، فترك مكانه في الورشة، وهب مسرعا إلى مستودع الإسمنت حيث أحمد الوهراني، فلما رآه في تلك الحالة من التأثر سارع بالتخفيف عليه قائلا بكل بساطة: رحمة الله عليه! ولن يتوقف النضال بوفاته، فأنت مصالي! وأنا مصالي! وهلم جرا..!.
التحاق خلية عين ياقوت بالثورة في غضون 1953 عاد الشاب صالح من ديار الهجرة، ليستقر بباتنة مع شقيقه الأكبر... وهناك تزوج واستأنف نضاله في نفس الوقت... استأنف نشاطه السياسي هذه المرة مناضلا، كامل الحقوق والواجبات في حركة انتصار الحريات الديموقراطية. بعد أن خضع إلى نوع من الإمتحان، أجراه عليه مسؤول الدائرة شخصيا المناضل إبراهيم حشاني... بعد فترة غادر هذا الأخير بباتنة، تاركا مكانه للمناضل الشاب البشير شيحاني.. كان شيحاني، كما يصفه المناضل صالح - ضعيف البنية، وكان مزدوج اللغة، حريصا في خطابه على المزاوجة بين العربية والفرنسية. وخلال أزمة حركة الإنتصار خلال ربيع 1954، حضر محدثنا رفقة العموري اجتماعا بقرية الزنج” (فيلاج النيقرو) في باتنة ترأسه كل من بوضياف وبن بولعيد.. وعقب الإجتماع التحقت جماعة عين ياقوت ”بحزب الثورة” الذي كان ممثلا آنذاك في ”اللجنة الثورية للوحدة والعمل”. وفي بداية أكتوبر 1954، زار شيحاني عين ياقوت واجتمع بخليتها - المكونة منم 9 مناضلين - في دار أحد الماضلين ليقول لعناصره: عليكم بالإستعداد، لأن ساعة الثورة قد أذنت. ويقتضى ذلك الشروع من الآن في أعداد مراكز آمنة، لجمع المؤونة واللباس والذخيرة. وشرح الموقف قائلا: إن الانطلاقة الأولى للثورة يتولاها المناضلون، ثم يلتحق بها أناس آخرون، وهاك طائفة يحملها ”السنغال” (القمع) على الخروج إلى الجبال... أما الشعب بصفة عامة فسلتحق بالثورة تدريجيا. وعد شيحاني خلية عين ياقوت بالعودة قبل موعد الثورة رفقة بن بولعيد، لكنه لم يعد، فعاش المناضل صالح ورفاقه مفاجأة ليلة فاتح نوفمبر، كغيرهم من المناضلين الجاهازين للإلتحاق بالركب. علم لاحقا أن بولعيد ورفقة شيحاني بالقرية فعلا، لكنهما انشغلا بمشكلة طارئة في عين مليلة التي كان بها يومئذ خلية من 12 مناضلا... وكانت عين مليلة آنذاك حلقة هامة لقربها من تلاغمة التي تتوفر على كميات من الأسلحة من مخلفات الحرب العالمة الثانية، علما أن الجيش الثامن للحلفاء - بقيادة مونغومري وايزنهاور كان قد نزل بها بعض الوقت... لكن بعد اندلاع الثورة بأيام، تلقى قائد ناحية بوعريف الطاهر النويشي (غمراس) رسالة من بن بولعيد، يطلب منه الاتصال بجماعة عين ياقوت وضمهم في أقرب الآجال... اتصل النويشي بالعموري فعلا في حدود 20 نوفمبر، ليكلفه بمهمة في باتنة: تنظيم شبكة إسناد الناحية أولا قبل الإلتحاق بالجبل. استثمار العموري رفاقه في أمر هذه المهمة، فتردد بعضهم في البداية مفضلا الإلتحاق بالجبال فورا، لكن في الأخير تم قبول المهمة، فدخلت الجماعة عاصمة الدائرة. وشرعت في أداء المطلوب منها، ووظفت في ذلك الروابط العائلية خاصة. ظلت الجماعة تنشط بباتنة إلى غاية فبراير 1955، حين تفطن الأمن الإستعماري لوجودها، فاضطرت إلى الإلتحاق بالجبال هذه المرة. خرج المناضل صالح وشقيقه محمد رفقة العموري باتجاه ناحية بوعريف، حيث الطاهر النويشي ومعه الحاج لخضر (محمد الطاهر عبيدي) وكان التحاق الثلاثة - عبر جبل الشلعلع - قبل معرفة نبأ اعتقال بن بولعيد ناحية بن قردان في 11 فبراير. وعشية خروج الأخوين ڤوجيل طلبا السماح من والدهما، معتذرين عما يمكن أن يسبب له ذلك من متاعب إضافية، بدءا بالتكفل بالعائلة... فبارك مسعاهما قائلا: ”لو كنتم في سنكما، لخرجت بدلا منكما!”.
الثائر.. ڤوزير ڤوزير من ثوار الأوراس قبل الفاتح نوفمبر 1954.. وهو مساعد سابق في الجيش الفرنسي، شارك في حرب الريف بالمغرب مطلع العشرينات من القرن الماضي.. في بداية الخمسينات كان نقابيا في منجم ابيشمول للرصاص، وحدث أن عاش المنجم حركة إضراب، كانت شملت العديد من مناجم البلاد، وأمام انسداد الموقف، ورفض الإدارة الإستجابة لمطالب المضربين، بادر قوزير بحرق أدوات عمل المنجم، واعتصم بالجبال منذ ذلك الحين.. وقد أدركت الثورة، فانضم إلى صفوفها، وكان عن استشهاد قائد المنطقة يناهز 55 سنة.... كان ڤوزير يتحدث الفرنسية بطلاقة، فكان سي مصطفى لذلك يناديه ”بابا”! ( على الطريقة الفرنسية) أرقاز.. يموث! تمكن قائد منطقة الأوراس مصطفى بن بولعيد -المحكوم عليه بالإعدام- من الفرار من سجن الكدية بقسنطينة، مساء 10 نوفمبر 1955... ولما وصل المنطقة، وجّه رسائل الى مسؤولي المواحي يدعوهم الى اجتماع، موصيا باصطحاب الشباب المتعلم الذي التحق بالثورة أثناء غيابه. وتم الإجتماع في أواخر نوفمبر بجبل وستيلي، وحضره سي صالح رفقة الطاهر النويشي قائد الناحية، وينقل الشاهد في هذا الصدد: - أن سي مصطفى روى لهم بعض أطوار فراره، ومنها أنه اضطر ورفيقه -محمد العيفة مغلاوي- إلى السير في مياه وادي الخروب لقطع أثرهما، خوفا من ملاحقتهما بالكلاب المدربة على اقتناء الأثر. وأنه لجأ الى أحد المواطنين بدوار في ضواحي عين كرشة (أم البواقي)، فلما أدرك أنهما مجاهدات قال لهما: أبشرا بهروب بن بولعيد من السجن! وقد استنتج بن بولعيد من ذلك أن الثورة انتشرت في أوساط الشعب. -أن سي مصطفى أكد لهم أن المعركة ضد الإستعمار يمكن أن تستغرق 10 سنوات على الأقل، لأنه باختصار ليس من السهل دحره. - أنه حدثهم كذلك عن نظام الثورة الذي ستكتمل هيكلته شيئا فشيئا، عن آفاق جيش التحرير الذي سيعرف سلم المرتب ضمن هذه الأفاق... وهي مرحلة دقيقة حسب قوله، لذا ينبغي الإحتياط لما يمكن أن تثير من حساسيات. وفي ختام اجتماع وستيلي كلف سي مصطفى العموري بالتوجه إلى المنطقة الثالثة لتجديد الإتصال بكل من بلقاسم كريم وعمار أوعمران. بعد فترة من عودة سي مصطفى قرر تأسيس وحدة مغاوير، أسند قيادتهاغ إلى أحمد عزوي. رغب سي صالح في الإلتحاق بهذه الوحدة، لكن قائل الناحية تلكأ قليلا في تلبية رغبته، قبل أن يقبل بعد لأي التحاقه بمجموعة الحاج لخضر... في غضون الأسبوع الثالث من مارس 1956، كانت مجموعة الحاج لخضر على موعد مع اجتماع هام بنارة يترأسه سي مصطفى.. فلما وصلت المجموعة المكان المحدد (تافرنت)، لاحظت عمر شقيقه يقف وحيدا حزينا باكيا.... ولم تجد أثرا لقائد المنطقة... أدرك المجاهد الثائر ڤوزير حيرة سي صالح وهو يبحث عن جواب لغياب سي مصطفى، فانفرد به ليهمس في أذنه: ”أرقاز يموث!” (مات الرجل). صدم السامع لهول النازلة... وبعد أن استعاد وعيه، تعاهد مع الحضور على كتمان سر استشهاده، ريثما يتم تدبير استخلافه في هدوء... محمد ڤوجيل.. شهيد آخر بدون قبر الشهيد محمد ڤوجيل شقيق سي صالح يكبره بعشر سنوات، وكان قد شارك في الحرب العالمية الثانية، وخاض غمار معركة ”مكونتي كاسينو” الشهيرة على الجبهة الإيطالية، فهو مقاتل متمرس إذا... فلما التحق بناحية بوعريف في فبراير 1955 افترقا، فانضم محمد رفقة العموري إلى فوج الحاج لخضر، بينما بقي صالح مع قائد الناحية الطاهر النويشي. تدرج محمد في الكفاح ضمن جيش التحرير الوطني إلى أن أصبح مسؤول ناحية، تمتد من تلاغمة شمالا إلى مروانة جنوبا.. وبضواحي مروانة استشهد في 29 أوت 1956 في معركة طاحنة، استعمل فيها العدو سلاح ”النابالم” المحظور، ومثل العدو بجثمانه، فوضع فوق ناقله مصفحة طافت به عبر مروانة، طمعا في ترهيب السكان وإبعادهم عن طريق الكفاح من أجل تحرير الجزائر. ولم تتوصل عائلته لمعرفة مكان دفنه إلى حد الساعة... فهو إذا في عداد الشهداء بلا قبور، وما أكثرهم!.