يساهم المبدعون في إشعال شموع الأدب، لكنهم يفارقون الحياة دون أن يحاول أحد إضاءة مسارهم بالالتفات إلى كتابة سيرهم الذاتية والبحث في تفاصيل يومياتهم، التي تحوي الكثير من الزخم على كافة الأصعدة والمستويات الشخصية والاجتماعية. ولأنهم شموع الذاكرة أيضا التي لابد من الاستناد عليها في تربية النشء وكذا في كسب الهوية الوطنية إجمالا، لا أحد يلتفت للأمر، وأحيانا تفوق الملتقيات الخاصة بشخص عبد الحميد بن هدوڤة مثلاً، عدد السير الذاتية التي كتبت حوله، هذا إذا تمكنا من إحصاء واحدة فقط تليق بمقامه. لذا إشكالية البيوغرافيا تطرح في كل مناسبة، وتظل شمعة من دون فتيل، ارتأينا معرفة آراء بعض الأساتذة والمبدعين ممن تحدثنا إليهم على هامش الملتقى الثاني ”أحمد رضا حوحو”، الذي احتضنته قسنطينة في الفترة الممتدة من 29 إلى 31 جانفي المنصرم. وإن اختلفت آراء هؤلاء في ظاهرها باختلاف زاويا الطرح ومستويات التناول، غير أنها اشتركت في جوهر واحد أكدوا فيه، وبشدة، على ضرورة الاهتمام بكتابة بيوغرافيا مبدعينا على اختلاف اللون الأدبي والفني الذي ينتمون إليه. فهل تلتفت الجامعة إلى هذا الموضوع؟ ومن المسؤول على شرخ الذاكرة الأدبية الجزائرية وكذا الوطنية؟ ملحق ”الفجر الثقافي” لهذا الأسبوع يفتح الإشكال. ذاكرتنا ليست على ما يرام كثيرا من رموز هذا الوطن لا تملك سيرة كاملة، أكاديمية وحيادية، كثيرون يستحقون التمجيد والوقوف عندهم طويلا، ليس من اجلهم، ولكن من أجل الذاكرة الوطنية التي من شأنها أن تثبت الهوية والوجود، ولكن كما يقول الكاتب والناقد السعيد بوطاجين:”إنّنا نكاد اليوم نضيّع الذاكرة، أوما يشكلها عبر الأزمنة المتعاقبة. ومن المتعذر حاليا العثور على علامات بعض الذين مروا من هنا وكتبوا عن البلد وناسه، أمّا المؤسسات فلم تقم بواجبها تجاه هؤلاء في ظلّ الغياب شبه الكلي لهذا النوع من التدوين. وقد تكون العصور السابقة أكثر تقدّما ممّا نحن عليه. ربّما كان ضيق الأفق أحد أسباب تهميش هذا الفعل الحضاري الذي لا داعي للتذكير بقيمته في الدول التي تعنى بالفكر والأدب، ومن المؤسف أن تغيب عنّا حيوات كتاب بحجم مالك حداد ومولود فرعون ومحمد ديب والطاهر وطار ومفدي زكريا وعبد الحميد بن هدوڤة، وما ينسحب على هؤلاء ينسحب على مالك بن نبي وبن شنب ومحمد راسم والأمير عبد القادر. ذاكرتنا ليست على ما يرام، وهو أمر يقلّل من أهمية تحصين الأمة التي تحتاج دائما إلى متّكأ من هذا النوع يمنحها حضورا ومعنى”. يشير الناقد السعيد بوطاجين، إلى فكرة أهم وإلى سيرة ملموسة تتعدى ذلك الجمع المعنوي الذي يصاحب عمليات كتابة السير فيقول:”لا توجد، على سبيل التمثيل، أماكن تحوّلت إلى متاحف. كل البيوت عندنا متساوية لأنّها من الحجارة والإسمنت. في حين أنّ بعض الإسمنت أبهى وأجمل ممّا هو عليه لأنّه كان يؤوي موهبة، عبقرية ما، وذاك ما يكسبه ذاكرة مختلفة وعلامات خصوصية”. ويضيف بوطاجين: ”إنّني أزعم أنّ هذا من ذاك، قد نتجوّل في البلاد قاطبة دون العثور على آثار عقبة بن نافع ويوغورطة وابن باديس وألبير كامو وكارل ماركس وأندريه جيد وأحمد شوقي وسرفانتيس، المساحات كلها تشبه صحراء لا حدّ لها لأنّ اهتماماتنا مختلفة، وليس من السهل في ظل الممارسات الراهنة، التأكيد على قيمة الأرض المؤثثة بهذه العلامات المضيئة التي يمكن أن تجعل البلد كتابا من الأسرار”. وهكذا تضيع آثار هؤلاء، ولا يبقى هداهم معنا، في حين كل بلدان العالم تعتز بهذه الشواهد وتعتبرها إرثا وطنيا لابد من الحفاظ عليه من أجل الأجيال القادمة، وكأنهم يحتفظون بالثقة فوجود بيت لمالك حداد، أومالك بن نبي، هو جرعة ثقة حقيقية في الانتساب لهؤلاء العباقرة.. ولكن ما يحدث عندنا هو شك متواصل.. نعود على موضوعنا ونطرح السؤال الأكبر وهو على من تقع مسؤولية كتابة السير الذاتية. وقبل أن نترك الكاتب والناقد بوطاجين طرحنا عليه هذا السؤال فكان جوابه:”تستدعي كتابة السير الذاتية للكتّاب والمفكرين عملا أكاديميا، إن لم تكن بحاجة في جوهرها، إلى بحوث متخصصة تسند إلى مهتمين بهذا الشأن، وخاصة في الجامعات الجزائرية التي، من المفترض نظريا أن تفكر في الموضوع بالنظر إلى قيمته الأدبية والتسجيلية”. ويوضح بوطاجين:”أقصد هنا التفكير في استحداث تخصص يولي أهمية للموضوع، أوإسناد بحوث في الدراسات العليا لطلبة لهم اهتمامات بحياة المبدعين، وهو أمر ممكن وقابل للتجسيد إن أعطيت للفكرة أهمية، ما يساعد حتما على الإحاطة بالكاتب، وبحياته وإبداعه وأفكاره ومسيرته، على تبايناتها وتناقضاتها”. الجامعة الجزائرية ليست منشغلة بالأدب في السنين الأخيرة، وهذا واقع عينيّ، حسب بوطاجين الذي يؤكد أنه عندما يصبح الأدب أحد موضوعاتها المركزية ستفكر لا محالة، في هذا التخصص، أو في أعمال بحثية تثري وجودها العلمي والمعرفي، شأنها شأن المخابر والهيئات المختلفة، ومنها دور النشر التي غابت عنها الفكرة، أوغيّبتها لأسباب مركبة. المسألة إذن ليست يسيرة كما نتصوّر. يجب توفّر النية الحسنة والميزانية وإمكانات البحث والنشر، وهي أمور غامضة ومتشابكة لدرجة عدم القدرة على الفصل بين الأشياء، ومع ذلك فإننا لا نملك خيارات كثيرة إن كنّا نرغب في التأريخ للفكر والأدب، كما تفعل بعض دور النشر في أوربا.” النية الحسنة والجامعة الحسنة.. والميزانية الحسنة من الضروري أن تكون هناك نية حسنة، نية لا تنام في جحور ضيقة الأفق، والعمل الأكاديمي هو الأحق بهذا، حيث أنه يجب أن يلتزم بالموضوعية والصرامة العلمية، خاصة أن موضة المخابر العلمية رائجة وتحصل على ميزانيات سنوية معتبرة. من أجل هذا يصر الروائي لحبيب السايح على دور الجامعة فيقول:”يجب النظر إلى كتابة السير الذاتية على أنها اختصاص لابد للجامعة أن تتبناه و تُقرره على طلبة ما بعد التدرج في اختصاصات الآداب وعلوم الإعلام والاتصال، باعتبار أن هكذا قرار يكمن أن يُسهم في تنمية مشاريع البحث الأكاديمي في الأدب والعلوم الإنسانية، وهو ما يسمح بالتأسيس لتاريخ الأدب الجزائري ورموزه، واستكمال باقي عناصر الذاكرة الجماعية التي تفتقد لكتاب سير ذاتية يهتمون بنقل تفاصيل حياة مبدعينا وتتبع أدق ما يتعلق بقامات الأدب الجزائري كلمة صوتا وصورة”. والحقيقة أنه موضوع شائك، في نظر السايح، الذي يؤكد أن السؤال يؤرقه في كثير من الأحيان، حيث قدم سنة 2008 شهادة في حق الأديب عبد الحميد بن هدوڤة عنونها ب ”عبد الحميد بن هدوڤة بلا سيرة” تأسف من خلالها لرحيل كبار الأدب الجزائري أمثال الطاهر وطار، عبد الحميد بن هدوڤة، أحمد رضا حوحو، مولود معمري، محمد ديب، مفدي زكرياء، إلى محمد إسياخم، محمد خدة، إلى مصطفى كاتب، عبد القادر علولة وآخرون، دون أن تستفيد الجزائر من تجاربهم الإنسانية، ويحمل السايح وزارة الثقافة كذلك جانبا من المسؤولية في ضياع سير هؤلاء التي لا تعوزها الموارد المالية ولا البشرية للتكفل بهكذا مهمة حفاظا على أسماء ثقافية وفنية أثرت المدونة الجزائرية بإسهاماتها، وهي المسؤولية التي يتحمل الإعلام الجزائري كذلك، حسب السايح، جزءا منها كونه لم يستغل ما هو متاح له من وسائل لتدوين سير مبدعي الجزائر”. للجامعة الجزائرية ثم وزارة الثقافة وأخيرا الإعلام وقنوات بثه المتعددة، يحمل الحبيب السايح المسؤولية، وهو مستاء جدا من الأفكار البليدة التي لا تحفظ للمبدع والثوري والفنان حقه في سير ذاتية موضوعية تقرؤها الأجيال القادمة وفي هذا الطرح يؤكد:”كم هو شاق أن نؤسس لتقليد كتابة السيرة وكاتبيها الذين يُسقطون جِزَماً من الضوء على الجانب الآخر الخفي، الكامن، المضمَر في حياة كل كاتب وفنان.. رفعاً لستار سميك يمنع القراء من النظر إلى مؤلفيهم وفنانيهم من داخلهم، لأن نصوصهم وأعمالهم ليست سوى أحد وجهي العملة”. هناك جهود شخصية تبقى غير كافية قدم الحبيب السائح ورقته حول بن هدوقة بلا سيرة، وقدم غيره كتبا حول شخصيات جزائرية معينة، على غرار شريبط أحمد شريبط، الذي قدم سيرة وأعمال زليخة السعودي، ولكن تبقى هذه السير غير كافية وتتطلب جهدا أكبر، الرأي الذي يتبناه الدكتور مخلوف عامر في هذا التدخل حول الموضوع: ”إن كتابة السير الذاتية لأدبائنا وإن كانت ضرورة إلا أن هناك تقصيرا في إنجازنا، وقد يعود هذا إلى فكرة المركز / المشرق التي ما زالت تلاحقنا وتولّدت عنها فكرة الاستخفاف بأدب الأطراف ومنه الأدب الجزائري الذي لم يحظ بعد بالمكانة اللائقة به في المنظومة التربوية”. ويضيف الدكتور:”لا شك أن هناك جهودا شخصية غير كافية كما اهتم بعض الكتاب بأحمد رضا حوحو منهم عبد المجيد الشافعي ومحمد الصالح رمضان وصالح خرفي، وبحث عبد الله ركيبي عن الشاعر جلول. وقد أشرف شريبط أحمد شريبط على معجم النقاد الجزائريين لأن إعداد عمل بهذا الحجم من المفروض أن يوكل إلى مؤسسات وجهود جماعية قد تنجز من خلال المخابر الجماعية والرسائل التي يعدها الطلبة الباحثون”، مشيرا إلى أن بعض المدارس النقدية المعاصرة تلغي حياة الأديب التي تبقى في حدود النص لكن السيرة الذاتية - شئنا أم أبينا - تترك بصماتها في الكتابة الأدبية وإن نحن لم نتبيَّنْ ذلك. من المفروض وقد شهدت وسائل الاتصال هذا التطور المدهش، أن تحصي كل ما يتعلق بالأدب الجزائري، وفي مقدمة ذلك مسارات الأدباء الخاصة والمتميزة لأنها وإن لم تكن تفاصيلها ذات علاقة مباشرة بالنصوص إلا أنها تبقى نماذج قد تكون مصدر إلهام للأجيال، ثم إن الأمر يعود أساسا إلى افتقادنا تقاليد ثقافية تستغرق مدة أطول من عمر أدبنا القصير. الخطاب النقدي الجديد أهمل البحث في السير التقاليد الثقافية، كما التقاليد الجامعية، لابد أن يكون لها مخطط واضح تعمل وفق منهجه، ولكن الروائي والأكاديمي محمد ساري يؤكد:”فيما سبق من الزمن كانت الرسائل الجامعية من ماجستير ودكتوراه كانت تقام وفق مقاييس النقد القديم وتتناول حياة كاتب معين ومؤلفاته وتتوقف عند جميع المحطات، لذلك يرى ساري أن الجامعة في دراساتها الكلاسيكية كانت تهتم بالسيرة الذاتية، لكن ابتداء من الثمانينيات وبدخول ما يسمى بالمناهج اللسانية من البنيوية والسيميائية وتحليل الخطاب وغيرها أصبحت المناهج لا تدرس الأدب من حيث المضامين، بل من حيث البُنى والأشكال فهمشت بذلك الدراسات النقدية القراء كونها موجهة لأهل الاختصاص. كما أبعدت هذه المناهج النقد عن الصحافة لأن وسائل الإعلام لا يمكنها الاهتمام بنصوص مُغلقة لا تقدم شيئا للأعمال الأدبية التي تملك رؤية معينة”. وعليه يعتقد ساري أن هذا سببا أساسيا جعل الجامعة الجزائرية لا تهتم بالسير الذاتية، كما أن هذا الاختصاص يتطلب، حسبه، الكثير من الجهد وأعمال التنقيب والبحث المتواصل والميداني والجامعة الجزائرية لا تتوفر على الصبر الكافي للقيام بهذه المبادرة الشاملة لمعرفة تفاصيل حياة مبدعينا. ولم ينف ساري اصطدام المتتبع لحياة المبدعين بشح المعلومات مما يرهقه ويدخله في دائرة الملل. لكنه بالمقابل لم يعف الجامعة من تحمل قسط كبير من المسؤولية، كونها لا تخصص رسائل جامعية تعنى بتقديم الكتاب الجزائريين والمشكل، حسبه، يتجاوز الجزائر لأن الظاهرة عامة في الوطن العربي الذي يشهد تدهورا كبيرا على مستوى الأرشفة والتدوين، الذي يهتم بأدق البحث تفاصيل ويبيح كل شيء. وفي خلاصة حديثنا مع الروائي محمد ساري صاحب البطاقة السحرية، أكد لنا أن البطاقة السحرية هي الجرأة والشجاعة: ”كي نصل إلى كتابة السير والبوح بكل شيء ونشره في كتاب يجب أن نتحلى بالشجاعة والجرأة الأدبية والسياسية، كما يتطلب الكثير من الوقت للبحث والتنقيب”. وأضاف أن إشكالية البيوغرافيا لا تتعلق بالأدباء فقط فحتى مناضلي الجزائر وشهدائها لا سير لهم، إذ لا نعرف شيئا كما استطرد قائلا عن حياة الشخصيات الثورية أمثال، مصالي الحاج، محمد بوضياف، ديدوش مراد، العربي بن مهيدي، بن بولعيد، آيت عميروش وآخرون. وربما السبب يعود إلى أن الشائع هو أن الثورة يقوم بها الشعب فلم نهتم بكتابة سير أبطال الثورة، واعترف ساري بغياب محاولات جادة في كتابة السير في الجزائر، تهتم بالحقائق وفق منهجية معينة تحسن التعامل مع المعلومات وتأخذ برأي الأغلبية دون الخوض في متاهة تصفية الحسابات وبعيدا عن المزايدة والمغالاة. عزوف أكاديمي عن تناول الأدب الجزائري على ذات النسق، أوضح عبد الحفيظ بن جلولي، أن البيوغرافيا في الجزائر مقصاة بعد أن أقصي الأدب الجزائري، حيث الملاحظ، حسبه، على الساحة الأدبية وجود عزوف عن تناول الأدب الجزائري نقديا، مرجعا الأمر إلى سببين.. يرتبط الأول بتعالي الناقد عن تناول الأدب الجزائري، أولكونه يأتي مشبعا بقراءات نصوصية مشرقية عربية تدفعه إلى العزوف عن تناول النصوص الجزائرية التي يعتبرها أدنى شأنا من تلك التي تشبع منها. الأستاذ بن جلولي الذي قدم قراءة في تجربة محمد مفلاح الروائية وتناول تجارب العديد من الكتاب الجزائريين في كتاب بعنوان ”في التجربة من الناص إلى النص”، يرى أن التجربة الجزائرية الروائية السردية أوالشعرية لا تجد ذلك الاهتمام الذي يبحث ويحفر عميقا في النص الجزائري الذي يملك خصوصية معينة. لذلك فالبيوغرافيا، حسب بن جلولي، تسبق أي عمل يرجى منه إما اكتشاف أو تكريم شخصية ما. وتساءل المتحدث لماذا تتأخر البيوغرافيا؟ مجيبا عن ذلك بأن السير الذاتية تتأخر إما لأسباب شخصية ذلك أننا لا نتحمل رؤية ذواتنا في الآخرين وهي إشكالية تطرح بشدة في الوسط الإبداعي، أو لأننا لا نريد تحمل مسؤولية البحث عميقا في الذات التي أمامنا، خاصة أن البيوغرافيا ترمي إلى البحث في السيرة الفكرية للكاتب. السيرة الذاتية يجب أن تسبق أي تكريم يُخَص به المبدع لأنها في حد ذاتها تكريما لمسار من العطاء يكشف الجوانب الخفية لشخصية معينة، وأشار المتحدث إلى غياب ثقافة كتابة البيوغرافيا عند المبدعين أنفسهم والاكتفاء بمذكرات لا تبوح بالكثير عند رجال السياسة. كما لم يرفع بن جلولي اللبس عن الجامعة الجزائرية بقوله إن المخابر الجامعية لا تلعب دورها في هذا المجال، رغم أن الأدب هو ذوق ومحبة قبل أن يكون تخصص. الوعي الباطني للفرد الجزائري هو بحثه عن الفعالية الكونية أو العالمية بعيدا وهي على مرمى حجر منه، فهناك الكثير من الأسماء تشكل بناءا دراميا داخل البانوراما الأدبية الجزائرية، لأن حياتهم الخاصة تشكل ذات الأصول والمنابع لطلوع فكرة الأدب، الذي لم يكن يوما وليد الصالونات الفاخرة بل وليد تجربة، والجزائري يقصي هذه التجربة ويبحث عن تجربة الآخرين”. وعليه ماذا يمكن أن نفعل من أجل أن لا يحدث شرخا في ذاكرتنا الأدبية والوطنية، حسب كل الآراء التي قدمناها يجب على الجامعة والمخابر، خاصة أن تهتم بهذا الموضوع وتحدد أدواتها المنهجية من جانب، كما يجب على وزارة الثقافة أن تفكر في الأمور التي لا تضيع ميزانيتها في الفنادق والإطعام وأن تلتفت إلى ما هو أهم وأقوى بل وما هو أمانة تملكه الأجيال القادمة.. الموضوع لم ينته، وهو مفتوح على شجاعة كبيرة، كما قال محمد ساري، من أجل أن لا تضيع الهوية. سيجيء الموت... ولن تكون له عيناك! رفع ”المتشوعر” غير السعيد ذو الرأي السديد ذراعيه في الهواء، لوّح بهما مهدِّداً بجد، فازدادت عيناه المسكينتان المحتفظتان بدمعتين جاهزتين للنزول في كل آن لمعانا، ظهرت قامته الضئيلة واضحة حتى بدا أن ”كوستيمه” سيبلعه، هدّد بيديه وصوته الرخيم بعد أن أنزلته من على المنصة شلّة أخرى من ”المتشوعرين” اتفقوا فيما بينهم أنّ ما كان يقرأه لم يكن شعرا على الإطلاق رغم أن ما يكتبونه ليس شعرا أيضا، على الرغم كذلك من أن ”التشوعر” حق وطني يكفله الدستور بوضوح لا نقاش فيه. قال ذو الرأي السديد: ”سأنتحر احتجاجا على تحالفكم ضدي ستعرفون أمام جثتي كم كنتم ظالمين في حقي، ستساوي أعمالي ما لم تساويه حياتي ستتسابقون وتتزاحمون لتخليد ذكراي، ويدفع بعضكم بعضا عن المنصة ذاتها التي طردتموني منها لتلفقوا قصصا عن خصالي التي لا تعرفون”، كان يبدو صادقا لدرجة أن كثيرا ممن شاهدوا الأمر توقعوا خبرا على الصفحات الأولى من جرائد الغد وعناوين تقطع القلب وبالخط العريض على شاكلة: ”الشويعر غير السعيد ذو الرأي السديد يلقي بنفسه من ”طروطوار” حومته فيسقط جثة هامدة”، ”الشويعر العظيم الذي لم يخلق مثله في البلاد ينهي حياته بخمس طلقات نارية في الرأس”، ”خليفة محمود درويش الخطير يغرق نفسه في شبر ماء معدني احتجاجا على ظلم شلة المتشوعريين”، التقط ”الشويعر” غير السعيد بقرون استشعاره الشعرَوية المرهفة اهتمام الحاضرين فراح يخاطب نفسه واعدا إياها بتوضيب ميتة دراماتيكية أصلية لم يسبقه إليها أحد: ”يا فرحي وسعدي سأنال التقدير الذي أستحقه أخيرا سأحتل كل الانطلوجيات المعدة للشعراء المنتحريين سيكتب اسمي إلى جانب نتشه، همنغواي، مايكوفسكي، سيرغي يسني، خليل حاوي وسيلفيا بلاث، سأذكر كلما ذكروا راح يشاور نفسه سأنتحر أمام مقر اتحاد الكتاب؟ أم هنا والآن في الحين؟ أم الأفضل انتظار عيد الحب أنه على الأبواب مناسبة رائعة سأصير سيرة على لسان العشاق، وربما حولوه من عيد سان فالونتان إلى عيد سان متشوعر، سأنتحر بكل طريقة ممكنة حرقا، شنقا، غرقا سأقطع أوردتي وأبتلع مليار قرص منوم، فكر في قصيدة يودع بها الجماهير العريضة على أي وزن سيكتبها في البحر البسيط أم في الطويل أم سيجعلها على خفيف احتار في أمره وقبل أن ينظم البحر الأبيض المتوسط إلى قائمة خياراته قرّر الإستغناء عن الوزن لأن قصيدته العصماء لا تحتاج إلى وزن سيجعلها وجدانية مؤثرة حزينة تبكي الحجارة، فكر كثيرا استحضر شياطين تشوعره قلّب قصائد المنتحريين. فكر أن القصيدة ستتطلب الكثير من الوقت فأجلها إلى ما بعد كتابة وصيته، قر]ر أن يوصي بممتلكاته التي تكاد تكون لاشيء إلى جمعيات الرفق بالإنسان كما أوصى بنشر أعماله الكاملة في طبعة فاخرة تليق بميتته الدراماتيكية، كان سعيدا وهو ينهي كتابة وصيته لثقته أنها ستنفذ حرفيا، لم يخش حتى من تكاليف نشر أعماله الكاملة في طبعة فاخرة كم سيكلف طبع ثلاث قصائد يا ترى؟ -احتساب قصيدة الانتحار العصماء- بل قصيدتين ونصف -باعترافه- الناس يصيرون أصدق وهم يقتربون من الموت. عاد المتشوعر غير السعيد ذو الرأي السديد إلى بيته وهو يحلم بالموت الذي سيجيء وستكون له عيناه، انكب من وقتها على قصيدته العصماء لا أظنكم ستقرؤون يوما عنوانا على صفحات الجرائد الأولى بالخط العريض عن انتحار متشوعر سيرث الله الدنيا قبل أن ينهي قصيدته العصماء. مساهمة لحنان بوخلالة