نجوم الراي.. من التمرد إلى ناطقين باسم السلطة؟ كانت وما زالت أغنية الراي الناطق الرسمي باسم الهامشي والمسكوت عنه في المجتمع، فقد رافق الراي كل التغيرات والانقلابات التي عاشتها الجزائر، ربما لهذا كانت سوق الأغنية الرايوية الأسرع والأكثر تطورا ومسايرة للراهن. فما يكاد يمر أسبوع حتى تنزل إلى الأسواق أسطوانة أوتبعث بصوت جديد حاملا معه ظاهرة ما من ظواهر المجتمع، خاصة في مدن الغرب الجزائري مثل وهران و سيدي بلعباس، عاصمة الراي التي غنت الهامش والطابو من الجنسي والجسدي إلى البطالة والهجرة السرية.. اليوم تكفي جولة بسيطة إلى محلات بيع الأقراص لمعرفة بورصة الأغاني، التي تصنع اليوم الأذواق الشبابية ونوعية المواضيع المتداولة والوقوف أيضا على الجديد الاجتماعي من المواضيع والكلمات، فبعد أن غنى الراي الحرڤة والظلم والحڤرة مقتبسا كلماته من القاموس الاجتماعي لمنطقته، اتجه مطربو الراي مؤخرا إلى مقاربة الدراما التركية وتأدية أغاني مقتبسة منها.. ارتبطت أغنية الراي بالتطورات التي عرفها المجتمع ورافقت كل هزاته، حيث كانت ولادة هذا الفن صعبة ولم يخترق الأجواء العامة إلا في عهد الشاذلي بن جديد، لأنه كان طابعا منبوذا من طرف المجتمع وارتبطت سمعته بانحطاط الذوق والأخلاق، ويحيل إلى الملاهي الليلية التي احتضنت هذا الفن في بداية الخمسينيات، عندما ثار بعض المطربين على الطابع الكلاسيكي والشعبي الذي كان سائدا آنذاك. يربط الباحث المتخصص في الأغنية الرايوية، الحاج ملياني، بين تحولات المجتمع و تطور الراي، حيث يؤكد أن”المجتمع الجزائري عاش ولازال يعايش تحولات عميقة في تركيبته وبنيته الأساسية، خصوصا أن إفرازات محصلة الظروف والمراحل الصعبة التي مرت بها البلاد ترسخت كثيرا ولم يعد من الممكن تجاهلها أو إغفالها”. وحسب الباحثين الذين تناولوا أو كتبوا في الموضوع، فإن هذا الفن انطلق من الغرب الجزائري حيث الملاهي الليلية منتشرة بكثرة، وكان هذا في حد ذاته ثورة ضد الذوق السائد في الأغاني، كما كان تعبيرا عن عالم منبوذ ومهمش، لا يجد سوى الملاهي ليطلق العنان لرفضه ولعنه للواقع. لهذا كانت أغاني الراي ثورة بحد ذاتها في كل شيء، بداية من أسماء المطربين الذي يتخذون ألقابا مستفزة للمجتمع.. الشيخة الرميتي، كادير الجابوني، هواري الدوفان. وقد تتخذ تلك الأسماء طابع الاعتزاز بالانتماء إلى عالم الطبقات المسحوقة المرتبطة بالجهة أو الحي، مثل عزالدين الشلفي، كادير الوهراني، الشيخة الجنية، الشيخ العفريت، وغيرها من الأسماء والألقاب غير المقبولة اجتماعيا. كما يعتبر الراي أيضا ثورة في أنماط الموسيقى بابتداع أشكال جديدة لا تخضع لما كان سائدا من تقاليد في هذا الجانب. ومن هنا استمد هذا الطابع اسمه ”الراي” تعبيرا عن الحرية والرأي الشخصي، والتحرر من كل القيود في قول كل شيء بكل الألفاظ.. الشاذلي بن جديد يتبنى الراي ويدخله لعبة الصراعات السياسية إلى غاية الثمانينيات من القرن الماضي كانت أغنية الراي غير معترف بها اجتماعيا ولا سياسيا أيضا، وظلت قرينة العيب والتهميش وتعبيرا عن انحطاط الأذواق. ولكن ”النجاحات” التي حققها هذا النوع من الغناء الذي أخذ يفرض نفسه يوما بعد آخر حتى خارج الحدود وسرعة انتشاره، دفعت صناع القرار في عهد الرئيس الشاذلي بين جديد إلى دمجه في الإطار العام، بل وتحولت تلك السياسة في جزء منها إلى صناعة نجوم الراي على مقاس السلطة، وما لبث أن تحول بعضهم إلى جزء من لعبة السياسة. يذكرالصحفي المتخصص في أغنية الراي، أحميدة العياشي، أن سنة 1981 وقعت ميلاد صوت مستفز، كانت تلك الشابة فضيلة زلماط التي دخلت أو اقتحمت ساحة الراي بأغنية ”البيرة عربية والويسكي ڤاوري” تعبيرا صريحا وجارحا عن جزائر التناقضات والطبقات حتى في الشرب، فالبيرة الرخيصة الثمن مقارنة بمشروب الويسكي كانت ملاذ قطاع واسع من أبناء البسطاء، بينما الويسكي الڤاوري غالي الثمن وقرين بالطبقة الميسورة!. لم تكن” البيرة عربية والويسكي ڤاوري” مجرد أغنية، كانت تعبيرا عن صعود وميلاد طبقة جديدة في جزائر ما بعد بومدين، ومرحلة الشاذلي بن جديد، حيث النظام ينتهج سياسة الانفتاح على الخارج والمجتمعات الاستهلاكية الغربية، وهي نفس المرحلة التي رافقتها ظهور مصطلحات اجتماعية تدل على ميلاد طبقة وصولية تسعى بكل الطرق إلى استنساخ مظاهر الحياة الغربية العصرية كانت تنعت ب”لاشيشي”. في عهد الشاذلي بن جديد أيضا تحولت أغنية الراي من طابع مهمش يغنى في زوايا الظل إلى طابع وطني جديد استعمل لاحقا في الصراعات السياسية بين السلطة والمعارضة، وتزامن هذا مع صعود نجم هذا النوع من الغناء في الغرب وقيادة نجومه إلى العالمية، حيث يذكر أحميدة العياشي أن الإعلام الحكومي آنذاك ”جريدة الشعب” شنت هجوما عنيفا على الأغنية ووصفتها بالمسيئة للذوق العام، وتحولت أغنية الراي بعدها إلى ساحة للنقاش والنقاش المضاد بين مختلف التيارات والأتباع على صفحات المجاهد الأسبوعي والثورة الإفريقية والوحدة. ولم يكن في الحقيقة هذا الصراع حول أغنية الراي إلا جزءا من الصراع حول هوية الجزائر، ومكانة الثقافة الشعبية التي طرحت للنقاش رسميا بعد أزمة الربيع الأمازيغي. كانت فترة الرئيس الشاذلي بن جديد غنية بصراع التيارات والإنفجارات الاجتماعية والاحتجاجات التي احتضنتها أغنية الراي التي استقطبت قطاعا واسعا من الشبان والبطالين والمرفوضين والبائسين. وقد تزامن هذا مع دعوة أنصار التيار البربري إلى اعتماد الثقافة الشعبية، خاصة الأمازيغية منها، ورفع الحظر الاجتماعي والسياسي عنها، وكان لابد أن يستجيب الشاذلي بين جديد إلى جزء من تلك الضغوط التي لا مناص منه، فأشرف كل من الهادي لخذيري والعقيد سنوسي، وهما من أبرز وجوه النظام آنذاك على جلب فرق أغاني الروك من الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا، وقدمت عروضا وحفلات في مركب 5 جويلية. وكان النظام يرمي من خلالها إلى الإيحاء بعهد جديد في جزائر الإصلاحات التي قادها الرئيس الشاذلي بن جديد، خاصة أمام تصاعد ضغط التيارالإسلامي و البربري المطالب بالحرية والديمقراطية. في منتصف الثمانينيات قاد نظام الشاذلي سلسلة من المحاكمات ضد التيار الإسلامي، وفي نفس الوقت أنشأ مهرجانا للراي كان إيذانا بإخراج أو تبني رسمي للأغاني التي كانت توصف من قبل بالملعونة، وصار النظام يصنع مطربيه ويستضيفهم في الإعلام مثل صحراوي، وجلطي وغيرهم.. يذكر المتتبعون أن هذه الفترة التي كانت غنية بصراع الكواليس في أجنحة السلطة والنظام وبين المعارضين والموالين لإصلاحات الشاذلي بن جديد، وقد تمظهرت تلك الصراعات من خلال الأحداث الثقافية والفنية، وكانت أغنية الراي إحدى مظاهر هذا الصراع، حيث سبق أن نشرت جريدتا ”ليبراسيون” و”اكتيال” الفرنسيتين موضوعا تعتبر فيه أغنية الراي مظهرا من مظاهر الانشقاق، لكن جرائد النظام ردت عليها باعتبار الراي هو ”طوق نجاة جديد يوظفه الاستعمار للتعبير عن حنينه إلى جزائر فرنسية”، كما يقول أحميدة العياشي. السلطة اضطرت تحت ضغط الشارع والتغيرات الاجتماعية إلى اعتبار الراي جزءا من الثقافة الشعبية للمجتمع الجزائري، وأخذت في صنع أسماء ونجوم موالين لها، وهذا كان إيذانا بميلاد تيار جديد من الراي النظيف الذي يبث في الإذاعة والتلفزيون . تحول بعدها الراي إلى جزء من اللعبة السياسية في الجزائر، وإن كانت جل أغاني المطربين في هذا النوع ظلت تغني الهامش والخيبات العاطفية والهجرة السرية وغيرها، وتحولت بعد أن اقتحمت الفضاء العام إلى سوق مربحة تدر الملايير على أصحابها، حيث تشير إحصائيات غير رسمية إلى وجود أكثر من 300 مطرب معروف وأكثر من 200 منتج عبر التراب الوطني يعتمدون على مدا خيل الراي. وتتصدر ولاية وهران قائمة الولايات التي يتمركز بها أكبر قدر من المنتجين والمطربين في هذا النوع. دخلاء صاروا يسجلون الأغاني مباشرة من الملاهي الليلية غير أن صاحب دار دنيا للأشرطة السمعية، صخري محفوظ، أكد في تصريح ل”الفجر” أن سوق الراي عرفت تغيرات جذرية ولم تعد كما كانت في السابق، فالدخلاء على المهنة صاروا يسجلون الأغاني مباشرة من الملاهي الليلية، بدون بذل أي مجهود في اختيار الكلمات والموسيقى، بينما المنتج الحقيقي يسعى إلى تقديم نموذج لا يناقض العصر ويستجيب للذوق الشبابي لكنه في ذات الوقت لا يخل بالآداب العامة. وفي هذا الجانب يؤكد المتحدث أن المنتج يصرف ما لا يقل عن 60 مليون سنتيم من أجل تقديم فنان وألبوم غنائي، بينما لا يربح هو إلا فرق 3 دج في كل ألبوم، خاصة مع ظاهرة القرصنة التي تقتل السوق وعجزت معها أجهزة الرقابة عن إيجاد حل. الراي من غناء الهامش إلى الترويج السياسي تفطنت السلطة في الفترة الأخيرة إلى الأهمية التي قدمها لها هذا الفن المنشر بكثرة في الأوساط الشعبية والشبابية، فعمدت إلى استمالة مطربي الراي وإقحامهم في اللعبة السياسية فوزارة الثقافة مثلا في كل موعد انتخابي، تنظم قوافل الفنانين إلى الولايات من أجل إقناع الناس بجدوى الانتخابات، حيث أطلق المازوني مثلا في الانتخابات الرئاسية التي أعادت ترشيح بوتفليقة لعهدة جديدة ألبومه ”فوطي فوطي وضم صوتك لصوتي”. كما استعانت السلطة بالشاب مامي عندما كان الرئيس في مستشفى فال دوغلاس العسكري في فرنسا، حيث تحول يومها مامي إلى ناطق رسمي باسم الحكومة والمتحدث الوحيد باسم صحة الرئيس، عندما خرج أمام الكاميرات عقب زيارة مجاملة للرئيس، وهو يقول للشعب الجزائري رئيسكم بخير!!. وقد كشفت الصحف مؤخرا أن خزينة الدولة دفعت ما لا يقل عن 200 ألف أورو للإفراج عن الشاب مامي، الأمر الذي يطرح ألف سؤال عن علاقة مامي بالمحيط الرئاسي؟!. ومع ظهور حراك الثورات العربية أطلق الشاب نجيم أغنية جديدة ضد التظاهر يقول فيها ”اولاش اولاش خلونا طرانكيل.. ما خصتناش المظاهرات خصتنا السكنة والخدمة، خلونا من الخلاط خلونا من السمير”. وأخذت السلطة، بالموازاة مع ذلك، إجراءات صارمة ضد المطربين الخارجين عن النص، حيث أدخل عز الدين الشلفي إلى السجن بسبب أغنية عن الحڤرة انتقد فيها الوالي ”شوف شوف الحڤرة شوف، و عندنا واحد حمار”، وقبل أيام أيضا أدانت المحكمة الشاب فيصل بتهمة إهانة رجال الأمن في إحدى أغانيه. استعمال أغنية الراي في السياسة ليس فقط داخليا لكن استعمل أيضا خارجيا، حيث كثيرا ما تسابقت كل من الجزائر والمغرب إلى تبني هذا النوع من الأغنية في المحافل الدولية، حيث تحرص المغرب على تبني كل أغنية وتنسبها إلى التراث المغربي حتى لو كانت أصولها جزائرية. كما حدث أن كانت أغنية الراي سببا في صدام غيرمعلن بين الجزائر والمغرب بسبب قصة الصحراء الغربية، كما حدث مع رضا الطلياني الذي اتهم بأنه اعترف بمغربية الصحراء، الأمر الذي دفع بالإذاعة والتلفزيون إلى منع بث أغانيه، حتى وإن اعترف المغني أنها كانت زلة لسان وهو بعيد عن معرفة اللعبة السياسية. رغم هذا يرفض المنتج محفوظ صخري، صاحب دار دنيا، اعتبار الراي ذات محتوى سياسي إلا في حالات نادرة وشاذة، لأن الراي - حسبه - هو تعبير بالدرجة الأولى عن الخيبات الاجتماعية، والعاطفية للشارع الجزائري لدرجة استعمال تعابير متطرفة و خطيرة للتعبير عن الحب من ”الموس والكابوس” و”الكلاش”، ”نسرقك ونديرك في الدار واحد ما يشوفك ونعضك بسناني ونخاف لا نقتلك نهار نهار”.. أغنية لعز الدين الشلفي. أبطال الدراما التركية.. نجوم أغاني الراي الجديدة مؤخرا، ومع انتشار موجة المسلسلات التركية اقتحم نجوم الرأي الساحة هم أيضا بالاقتباس من هذه الأعمال، حيث صار أبطال الدراما التركية نجوما جديدة في أغاني الراي الجديدة، حيث قدم الشاب عقيل ألبوم ”العشق الممنوع”، والذي فاقت مبيعاته كل التوقعات مستوحى من قصة المسلسل التركي بنفس العنوان، و قدم بعده الشاب رضا أغنية ”عشقت في مهند”. ويؤكد أغلب بائعي الأقراص والأسطوانات في العاصمة أن أغاني الراي اليوم صارت ”بارومتر” التغيرات الاجتماعية، فلا يكاد يمر يوم دون أن تطرح أغنية ظاهرة جديدة، واليوم صار أمثال الشاب وحيد والشاب رضوان والشيخ رفيق وسميرة الوهرانية، ونعيمة كلاسيك، أسماء مطلوبة بكثرة من طرف نوع معين من الشبان، فيما تبقى الشابة دليلة سيدة الراي النسوي بدون منازع في سوق الكاسيت إلى إشعار آخر..