1981، صوت كاللهب.. صارخ، عنيف وصاخب، اخترق جدران الصمت وأسوار الڤيطوهات ليظهر أمام الملأ مكتسحا حدود المحظورات والمحرمات.. صوت مغنية مغمورة، لا يتجاوز عمرها السابعة عشر، تسكن في عمارة متواضعة، متهالكة في حي الدرب بوهران.. درب يحاذي مسرح وهران، لكن يحاذي أيضا دار الدعارة التي يتردد عليها أبناء وهران من الأحياء الشعبية وضواحيها وشباب الخدمة الوطنية وزوار الباهية من مدن الشرق والأطراف النائية.. هذا الصوت، كان يحمل في ثناياه أغنية عربيدة، قاسية وعارية كحد الخنجر، أغنية تتحدث عن الشرب، عن الخمرة، عن البيرة والويسكي، فالبيرة التي كانت في متناول الفئات الدنيا، المهمشة تنعتها بأنها عربية، وذلك إحالة في عالم الملفوظين والفقراء وشبه المعدمين، والويسكي المنعوت بالڤاوري، أي الفرنسي/ الأوروبي إحالة إلى الطبقات العليا، الطبقات المتبرجزة الساعية إلى احتلال المكان الشاغر الذي تركه الكولونيالي، إلى التشبه به في التمظهر والسلوك والثقافة وسط السيطرة والهيمنة.. كانت أغنية “البيرة عربية والويسكي ڤاوري" بمثابة التحدي لكن الأعراف والعادات التي كانت تعيش لحظة مفترق الطرق ولحظة الإهتزاز العميق ضمن تلك الإختراقات العميقة للبنى الثقافو / إجتماعية التي أزيح عنها الستار في جزائر ما بعد هواري بومدين، جزائر الشاذلي بن جديد الراقصة بشكل معلن وسافر على أرض المفارقات والتناقضات.. لم تكن صاحبة الأغنية / الطفرة، الشابة فضيلة زلماط، من الوجوه المعروفة لدى متتبعي أغنية الراي التي كانت تعيش مخاضها الجديد باتجاه حقبة أخرى مغايرة لحقبتي الستينيات والسبعينيات، وإن كانت باشرت بخطواتها الأولى في مجال التمثيل عندما أدت دورا في فيلم “جلطي" لمحمد افتسان ولعب أدواره الرئيسية كل من عز الدين عبار، الشاب المنحرف الذي سيحاول اغتيال والده بطعنة خنجر وقام بدور الوالد العربي زكال، ثم كانت من بين مجموعة مغني الراي بوطيبة الصغير، ومع ذلك فلقد جاءت أغنيتها في سياق معين تمثل في بروز جيل جديد من مغنيي الراي، وهو ما أطلق عليها بجيل الشباب، وقاده بدون منازع الشاب خالد، وهو من مواليد 1960، وأصيل حي الكمين بوهران إلى جانب بونصوار المغناوي وڤانا المغناوي والشاب حميد والشابة رقية العباسية والشاب مامي وقادة راينا راي وجيلالي عمارنة والشابة زهوانية وغيرهم من الأصوات الجديدة التي راحت تشكل مشهدا جديدا وجذريا ونوعيا لتوجهات أغنية الراي في فترة الثمانينيات، “فالبيرة عربية والويسكي" لم تبق رهينة جمهور الراي الذي كان منحصرا بوهران وسيدي بلعباس وعين تموشنت بل اخترقت الحدود الجغرافية لتتحول إلى “توب" وطني حقيقي إخترق مناطق الجمهور غير الرايوي.. وأثارت وقتها الأغنية ردود أفعال حادة على أعمدة الصحافة المعربة والمفرنسة أي نفس الصحافة التي تحولت إلى أرضية للصراع الإيديولوجي بين المحافظين القوميين / الإسلاميين وبين الفرنكفونيين وأنصار الحركة الثقافية البربرية ودعاة الانفتاح بمختلف مواقعهم وتوجهاتهم السياسية والإيديولوجية.. ويومها شنت جريدة الشعب مقالات عنيفة على “أغنية البيرة العربية والويسكي" لكن أيضا على أغنية الراي، ووصفتها بالمنحطة والمبتذلة، والمسيئة للأخلاق والقيم الإسلامية، ونعتتها بالذيلية للإستعمار الذي حاربته جمعية العلماء المسلمين، لكن هذه الهجومات على الأغنية وعلى الراي ووجهت أيضا بمقالات مضادة أثارت سجالا دام لشهور على أعمدة الصحف الوطنية، مثل الشعب، أسبوعية الوحدة التابعة للإتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وجريدة المجاهد وأسبوعية “الثورة الإفريقية" ومما ساعد على مثل هذه السجالات والنقاشات في أوساط المثقفين والإعلاميين، هو قيام حزب جبهة التحرير بطرح ملف الثقافة الشعبية إثر أحداث الربيع البربري... هل كانت إثارة مسألة أغنية الراي مفروضة أم مفتعلة؟! ظهرت أغنية الراي بعد فترة الحرب العالمية الثانية وإن كانت محصورة في المنطقة الغربية من البلاد، وحينها كانت تعبيرا عن تشكل حساسيات جديدة داخل ما يمكن تسميته بمشهد الأغنية البدوية والتي كانت تتمثل في التوجهات الكلاسيكية للقصيد الشعبي المعروف بقصيدة الملحون، وكان مصطفى بن ابراهيم (1800 / 1867) وسيدي لخضر بن خلوف، أهم ممثليها، على الصعيد الشعري، والشيخ عبد القادر الخالدي (1896 - 1964) والحاج محمد الغوايشي المدعو الشيخ حمادة (1886 - 1968) والشيوخ عبد المولى والمدني محمد بوراس، أهم وجوهها على المستوى الغنائي، وظهرت في الخمسينيات الشيخة الريميتي التي انتقلت بأغنية الراي من التقليد إلى الحداثة، سواء كان ذلك على مستوى البناء الشكلي، فالراي مع الشيخة الريميتي أحدث قطيعته الجذرية مع بنية القصيدة الشعبية بحيث أصبحت أغنية الراي متحررة من القافية ومن البنية التقليدية للقصيدة، وتحول الجسد إلى مركز الأغنية سواء كان الجسد، جسد المرأة، أو جسد الفضاء.. غنت الريميتي الحب الجسدي المتجاوز كل حدود العفاف مثل أغنية “شرك ڤطع" و “هاك أمانتك هاك، هاك قشك هاك" كما غنت الحرية والنبيذ والقرية وحياة التصعلك والبوهيمية، لكنها أيضا غنت “الثورة التحريرية" عندما منعت جبهة التحرير الوطني أثناء حرب التحرير الحفلات وإنتاج الأغاني، لقد تحدت الريميتي السلطة السياسية والعسكرية لجبهة التحرير، وغنت ثورتها ووطنها على طريقتها... ولدت الشيخة الريميتي في 8 ماي 1923 بقرية تسالة أوأسطاسيليس كما كان يسميها الرومان، وهي تبعد عن مدينة سيدي بلعباس بحوالي 15 كلم، إسمها الحقيقي سعدية بوضياف، انتقلت وهي لا تتجاوز سن السادسة عشر إلى حي بريانطو بسيدي بلعباس، اكتشفت في نفسها موهبة الشعر ثم الغناء، لتعيش بعد ذلك حياة المغامرة والبوهيمية بين سيدي بلعباس، وغليزان التي استقرت فيها لوقت طويل ووهران، ثم لتنتقل سنوات بعد الإستقلال إلى فرنسا، متنقلة بين ليون ومارسيليا وباريس، ثم بين العواصم الأوروبية والعالمية من ألمانيا، إلى طوكيو إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى كندا... في الستينيات تمكنت الشيخة الريميتي من إنشاء مدرسة لها خصوصيتها في فن أغنية الراي، اعتمدت لوقت طويل على الآلات التقليدية مثل القصبة والڤلال لكنها ظلت تتجدد مع الموجات التي عرفها الراي، فاستعملت في أغانيها كل الأدوات الفنية والموسيقية التي راحت الأجيال الجديدة توظفها وتنافسها فيها.. وبالرغم أن الشيخة الريميتي كان لها حضورها في الوسط الفني الجزائري، وكانت تدعى من طرف ممثلي السلطات المحلية لإحياء أعراس عائلاتهم إلا أن أغانيها ظلت محظورة، مثلها مثل باقي شيوخ وشيخات الراي من الإذاعة والتلفزيون الجزائريين وذلك طيلة عقود الإستقلال الثلاثة من أحمد بن بلة إلى هواري بومدين الذي كان يتضايق من أغنية الراي إلى الشاذلي بن جديد، والذي في فترته سيدخل الراي في العلاقة مع السلطات من مرحلة الردع والحظر إلى مرحلة جديدة.. في فترة السبعينيات حاول الراي أن يرفع التحدي وذلك من خلال التغلغل في أوساط الناس من خلال التجديدات التي باشرها كل من بلمو، وسيد أحمد زرڤي وبوطيبة الصغير وذلك من خلال النقلة الموسيقية الجديدة، والخطاب النقدي الصريح للفساد والإنفتاح بشكل مباشر على الجسد.. وكانت هذه الفترة بمثابة المقدمة الحقيقية لأن يكسر الراي تلك القيود التي كانت تكبله بها السلطات الرسمية.. وفي فترة صعود الشاذلي بن جديد انتبه فريقه إلى الراي الذي أصبح فعلا ظاهرة ليست اجتماعية وحسب، بل ظاهرة ثقافية وسياسية باعتبار الراي كان المعبر الحقيقي وإن بشكل عنيف وحاد عن الفئات الملفوظة والمهمشة المتمثلة في النساء والشباب البطال، والفئات الجديدة الحالمة بحياة الحرية والرخاء.. وكان ذلك متزامنا مع صعود حركات احتجاجية ذات أطياف متعددة وشديدة الاختلاف والتنوع، المطالبون بإعادة الإعتبار للثقافة واللغة الأمازيغيتين، وأنصار إقامة الدولة الإسلامية والعودة إلى مجتمع السلف الصالح، والتواقون إلى الحداثة والعيش على الطريقة الغربية والمنادون بضرورة بقاء الجزائر في المجال العروبي الإسلامي والوطني، كان اختفاء هواري بومدين المفاجئ مولدا لكل هذه الرغبات والتحولات، ولقد اهتدى الشاذلي أمام بروز سلوكات جديدة وانتقالها إلى السطح، مثل فئات لاتشي/ تشي إلى الإستعانة بخبراء ومستشارين أشاروا عليه بإنشاء مقام الشهيد، ورياض الفتح كرمز على النية في الإنفتاح والإنتقال إلى مرحلة ليبرالية تحت رعاية الدولة، وكان رياض الفتح الذي بناه الكنديون على المستوى الرمزي يدل على مؤشرات ميلاد الجزائرالجديدة.. الجزائر غير الإيديولوجية والمقبلة على الحياة، حياة الطمأنينة والرخاء.. وكان رياض الفتح يحتوي على محلات تجارية وقاعات سينما ومطاعم تكون بمثابة الفضاء للفئات الجديدة قيد الولادة في فترة الانفتاح.. وكلف الشاذلي بن جديد ليأخذ هذا التوجه معناه الحقيقي رجلين للسهر على مشروعه العزيز على قلبه، وهما مسؤول جهاز الأمن بالداخلية، ووزيره للداخلية فيما بعد الهادي لخذيري، وصديقه من المؤسسة العسكرية العقيد سنوسي... قام الهادي لخذيري الذي شن حملة القمع دون هوادة ضد الربيع البربري عام 1980 برسم خطة لتلميع وجه نظام الشاذلي على المستوى الثقافي والإيديولوجي والأخلاقي، وكانت هذه الخطة تتمثل في جذب الوجوه الكبيرة من المثقفين والناشطين في مجال المجتمع المدني، فعرض على شخصيات مؤثرة مثل المحامي ميلود الإبراهيمي والروائي رشيد بوجدرة والمحامي يوسف فتح الله والمحامي علي بن فليس لأن ينشئوا منظمة لحقوق الإنسان، وهو رد على رابطة حقوق الإنسان التي بادر بإنشائها مناضلون قريبون من الحركة الثقافية البربرية كعبد السلام وعلي يحيى عبد النور وسعيد سعدي، لكن أيضا ألقى الهادي لخذيري بكل ثقله لجلب فرق أغاني الروك من الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا لتقدم عروضها أمام الآلاف من الشباب والطلبة في قاعة مركب 5 جويلية، وكذلك مغنيي الراي من وهران وسيدي بلعباس وذلك لاستقطاب الشباب من خلالهم للانضواء تحت راية الإصلاح التي كان يبشر بها الشاذلي بن جديد، وفي الوقت ذاته على التهديد الذي كان يلوح به الإسلاميون المتشددون مثل جماعة مصطفى بويعلي، وتطورت هذه الخطة لتصبح مكملة لعملية الاحتواء المتعدد من طرف حكم الشاذلي بن جديد لما يحدث داخل المجتمع، وذلك من أجل وضعها ضمن رؤية متحكم فيها عندما قام العقيد السنوسي بالتعاون مع الهادي لخذيري بالتحضير لمهرجان الراي برياض الفتح الذي كان يصفه الإسلاميون بسخرية لاذعة ب “هُبل" دلالة على الجاهلية الجديدة.. وهكذا ففي جويلية 1985، وهي نفس السنة التي بدأ جناح من النظام في محاكمة جماعة مصطفى بويعلي، منحت جزائر الشاذلي بن جديد أهمية كبرى لمغنيي الراي وذلك بالسماح لمغنييه وفرقه المشاركة ولأول مرة في احتفالات الشباب بذكرى الإستقلال ليلي بعد ذلك أول مهرجان لأغنية الراي بالجزائر العاصمة.. وكان التيار المحسوب على التوجه الليبرالي هو من يقف وراء ذلك لجعل الراي ضمن لعبة سياسة الإنفتاح، ويقول لي أحد، من أوكلت لهم مثل هذه المهمة في حوار معه “... أجل، لقد ظلم الراي كثيرا وطويلا في فترة هواري بومدين الذي كان على المستوى الثقافي والإيديولوجي اشتراكيا لكن محافظا، بحكم تكونه في تونس ثم بالأزهر، ثم تأثره الكبير بأفكار الجناح المحافظ من جمعية العلماء.. لقد فضل بومدين أن يفتح المجال للفنانين والمثقفين الذين يخدمون استراتيجيته المتمثلة في الدفاع عن التعريب وجزائر الثورات الثلاث، مثل عبد الحميد بن هدوڤة والطاهر وطار في مجال الأدب، ومحمد الكحلاوي، ورابح درياسة وعبد الرحمن عزيز وسلوى وغيرهم، من الشباب الذين غنوا للثورة، ولثورات بومدين الثلاث، (الثورة الزراعية، والصناعية والثقافية) وكان يكفي أن يلتحق بربه حتى يختفي كل هؤلاء المثقفين والفنانين من على الساحة"، ويضيف “أننا عندما التفتنا إلى أغنية الراي في الثمانينيات، لم يكن القصد كما يدعي بعض الفنانين الملتزمين القبائل أننا أردنا تطويق الأغنية القبائلية التي كانت في الأساس احتجاجية، ونقدية، بل أردنا أن ننصف أغنية الراي التي تعرضت للرقابة والتهميش لكنها مع ذلك ظلت حية وقريبة من الشباب والمسألة لم تكن تنطوي على نية سيئة من قبلنا في ذلك الوقت، الدليل كانت هناك مقاومة شديدة لها حتى من داخل النظام.." خلال مهرجان الراي، تمكن مغنوه ولأول مرة في حياتهم من التخلص إلى حد ما، من الرقابة التي كانت مسلطة عليهم من طرف التلفزيون والإذاعة، وكانت المنشطة في القناة الثالثة، الصحفية زهية ياحي من الذين قاموا بالترويج لوجوه جديدة وصاعدة على أمواج الأثير في لقاءاتها وتغطياتها لإبداعات شباب الراي، ومن بينهم الشاب خالد والشاب مامي ثم فيما بعد الزهوانية والشاب صحراوي، لكن هذا التشجيع من طرف الجناح الليبرالي في السلطة، ووجه بهجوم وتشكيك من المتخوفين وغير الراضين على التوجهات الجديدة للشاذلي بن جديد.. إن الصراع لم يبق داخل الكواليس على الأرضية السياسية بل اتخذ شكل صراع ثقافي وإعلامي، فجريدة المجاهد التي كان يتزعمها تيار المحافظين والإصلاحيين راحت تنشر أكثر من مرة الآراء المعارضة لمشكل هذا الإنفتاح على الراي، بل وراحت تشكك في أغنية الراي نفسها، لما تحمله من شبهات ومسؤولية في تدهور القيم والأخلاق وانعكاسات ذلك على انحطاط المجتمع الجزائري فبتاريخ 30 أوت 1983 تشير أسبوعية الثورة الإفريقية الموالية للجناح المناوىء للإصلاحيين والتوجه الليبرالي “بسبب أغنية الراي انتشرت قيم الإنحطاط في أوساط الشباب، وانتشرت الآفات الإجتماعية مثل تناول الكحول، وكل ذلك ساهم في ابتعاد الشباب عن العمل..." وبتاريخ 22 أوت 1986، تشير “أن تشجيع الراي سيكون مضرا بالمجتمع وتعمق فيه ذلك الشرخ بين المدينة والريف" خاصة وأن المدينة التي ينطلق منها الراي هي مصدر كل هذه الآفات والشرور والفساد.. وفي شهر أوت 1985، تشير جريدة المجاهد في ردها على جريدة ليبراسيون واكتيال الفرنسيتين اللتين اعتبرتا الراي تعبيرا عن الإنشقاقات الجديدة عن ثقافة نظام الحزب الواحد، وعن ريح جديدة تبشر بالتغيير وتجاوز عهد التحجر والهيمنة، اعتبرتا الراي هو طوق نجاة جديد يوظف الإستعمار للتعبير عن حنينه إلى جزائر فرنسية، وبالتالي يصبح الراي في قفص الإتهام لأنه أصبح يخدم مصالح الأعداء، والذين لا يحبون للجزائر الحرية والتقدم.. إن ردود الأفعال التي أثارتها عملية احتواء الراي جعلت من هذا التيار الليبرالي لا يذهب إلى أقصى نقطة في منطقه بل عمل على تعديل خطابه شيئا فشيئا وذلك باعتباره أن الراي جزء من الثقافة الشعبية والفلكلور الجزائريين، لكن يجب أن تطهر كلماته وتنظف لتتلاءم مع العادات والقيم الجزائرية، ومن هنا شجعت الأوساط الرسمية بعض الكتاب والموالين لها من الشعراء وكتاب الأغنية القيام بتأطير أغنية الراي ليكونوا بمثابة جواز مرور الأغنية الرايوية على الأثير وعلى شاشة التلفزيون، وأصبح هذا الراي يطلق عليه في وسائل الإعلام الرسمية المرئية والسمعية والمكتوبة بالراي النظيف، مقابل الراي المتوحش، الراي التالف.. وشجع التلفزيون الحكومي وقتها على صعود الشاب جلطي من العاصمة وتلميعه من خلال اللقاءات الإذاعية والتلفزية، ومن خلال إنتاج فيلم غنائي يلعب فيه الدور الرئيسي، وكان ذلك برعاية التلفزيون الجزائري ومديرية الأمن بوزارة الداخلية، وكان هدف هذا التيار الليبرالي داخل الحكم ترضية المتشددين وقطع الطريق أمامهم لكسب عاطفة الرأي العام الوطني وبالتالي عدم إحراج الشاذلي بن جديد أمام أصدقائه وحلفائه من الإسلاميين مثل الشيخ محمد الغزالي والشيخ محفوظ نحناح ووزيره للشؤون الدينية عبد الرحمن شيبان.. ودفع بشاعر مثل سليمان جوادي ومحمد عنڤر ليرافقوا مغنيي الراي، مثل خالد بكتابة أغاني نظيفة، ولقد شعر مغنيو الراي بمثل هذه الرقابة التي لا تقول عن إسمها فلجأوا هم الآخرون إلى التحايل وتقديم أغاني تحت الطلب على مستوى الكلمات حتى يسمح لها بالمرور على شاشة التلفزيون وفي التظاهرات الثقافية الكبرى التي تشرف عليها المؤسسات الثقافية للدولة، وفي العام 1987 عندما تم تنظيم المهرجان الثاني بوهران كان المشرفون عليه من السلطات المحلية مدعمون من وجوه جامعية أوكلت لها مهمة إدراج النقاش حول الراي ضمن التوجهات الكبرى للحكم آنذاك... وبالتالي كان الراي الذي كان الدلالة الفصيحة لهدير المجتمع يستدرج وفق خطة ليبراليي الشاذلي بن جديد في أفق سياسة الترويض الذي حاول الشاذلي بن جديد أن يباشرها أول الأمر مع الإسلاميين، واليساريين وأخفق فيها مع نشطاء الحركة الثقافية البربرية حتى عندما أغراهم بفتح ملف الثقافة الشعبية ليواصلها مع رمز الغضب والإحتجاج، أغنية الراي، وكان ذلك في العام 1987 أي عام قبل انفجار الشارع الجزائري في أحداث أكتوبر 88 الدامية حيث خرج الصراع بين أجنحة الحكم من السرايا إلى الشارع في وضح النهار...