نظام سياسي دون ركائز إصلاح الدستور في الجزائر ارتبط دائمًا باعتبارات المصالح والتحالفات لجماعة النظام أكثر ممّا ارتبط بتقاطع أو تضارب أفكار وأهداف القوى السياسية المختلفة من أجل البحث عن فاعلية سياسية تُفضي إلى استقرار سياسي واستتباب أمني ونمو اقتصادي وازدهار ثقافي. يجب أن نكونَ صرحاء فيما بيننا، فالجزائر وبعد خمسين سنة من الاستقلال، لم يتمكّن أيّ حزب سياسي من الوصول إلى السلطة، فالرؤساء الأوائل استولوا على السلطة باسم الشرعية الثورية وبتزكية من حزب لم يكن يملك أيّ سلطة في اختيار أمينه العام، والرؤساء الذين أتوا بعد الشرعية الثورية بلغوا السلطة باسم (شرعية الأزمة) وبتزكية أحزاب لا سلطة لها في اختيار من يرأس بلادها، وكان الشعب في كلّ مرّة يجدُ نفسه أمام اختيار رئيس وكأنّه أمام قدر محتوم، وأنّ خياره الوحيد ليس الانتخاب، إنّما الدعاء (اللّهم إنّا لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألك اللطف فيه). في النظام الديمقراطي، يُفترَض أنْ تكونَ الأحزاب السياسية من أهمّ ركائز النظام السياسي، ليس لكونها تؤدّي مجموعة من الوظائف الأساسية كالمشاركة السياسية وتوفير إمكانية التعبير عن الرأي وتجميع المصالح، فأيّ نظام ديمقراطي يَعتمدُ إلى حدّ كبير على قوّة أحزابه، باعتبار أنّ قوّة النظام الحزبي واستقراره يؤدّيان إلى استقرار النظام السياسي، وأيّ تجاهل من النظام السياسي للنظام الحزبي، يعني فُقدانه للكثير من شرعيته، إلى درجة أنّه أصبح يُربط اليوم النظام السياسي الذي يقوم على نظام حزبي قويّ بالنظام الديمقراطي، ويُربَطُ النظام السياسي بالشمولية إذا قام على نظام حزبي ضعيف حتى وإن كان متعدّد الأحزاب. فكيف سيبني لنا دستورنا القادم نظامًا سياسيًا قويًا بنظام حزبي ضعيف؟ من الشعب و... المواطن، لا يجد غير النظام ليلومه على الأوضاع التي وصل إليها، فيراه السبب في فشل حمايته من انتهازيين وصلوا إلى مراكز قيادية تحت مظلّة الديمقراطية واستغلّوا أفكارها وقيَمها للعبث بمستقبل الشعب الذي لم يجد غير السلبية كوسيلة من وسائل المعارضة، فكلّما زاد لجوء السلطة لإفراغ المعارضة من عناصرها الإيجابية، كلّما زادت سلبية المواطنين وارتفعت أصواتهم بمخالفة الحكومة (10). يرى المحلّلون القانونيون أنّ لكلّ نظام سياسي عيوبًا ومزايا، وأنّ نجاح أيّ نظام أو فشله مَرَدّهُ بدرجة كبيرة طبيعة الشعب وثقافته إلى جانب التحدّيات السياسية والاقتصادية والأمنية القائمة أمام الدولة، فهل أخذنا برأيّ الشعب في هذا الدستور حتى يكونَ سندًا للدولة لرفع كلّ التحدّيات؟ هناك دائمًا مؤشّرات تدفع النظام إلى التغيير من جلدته، وقد دأبَ النظام عندنا على أن يطبخَ في الخفاء عمّا يفكّر فيه، وهنا تظهر حقيقة النيّة في التغيير الذي ينبغي أن يكونَ صاخبًا ليس فقط ليسمعه الجميع، لكن ليسمعه ويقرأه الجميع حتى يفهمونه. ما هي البدائل التي تطرحها السلطة حتى تختارَ لنا النظام الأمثل، فالعهد الذي تُقدّمُ لنا فيه السلطة البديل على أنّه الأمثل قد وَلّى، ولم يَعُدْ ينفع التطبيل لهذا البديل حتى يقبله الشعب، فمنذ الثورة الزراعية والشعب يرى أنّ السلطة تخيط له ثيابًا على غير مقاسه. عندما تدعو السلطة الشعب بقوّة للمشاركة في الانتخابات، فهذا يُعرَفُ بالديمقراطية التشارُكية، وإنّي أتعجّب من نظام يحكم بأنصاف الديمقراطية، فالديمقراطية كلّ لا يتجزأ، فلماذا لا توجّه الدعوة للمواطنين للمشاركة في وضع الدستور مثلما توجّه لهم الدعوة للانتخابات؟ ألا تقوم الديمقراطية أيضًا على مبدأ الاستشارة (الديمقراطية الإستشارية)؟ ألا تُبنى الديمقراطية على المفهوم القائل بأنّ الديمقراطية هي الحُكم عن طريق المناقشات؟ إنّ القوانينَ والسياسات يجبُ أنْ تقومَ على أسباب مقبولة من كافة المواطنين، وينبغي أن يتحوّلَ الميدان السياسي إلى ساحة لنقاشات القادة والمواطنين ليصغوا فيها لبعضهم، ويُغيّرُوا فيها آراءهم. عبر قرون من الصراع بين الحكّام والمحكومين على السلطة، توصّلت الدول الديمقراطية في القرن العشرين إلى الحكم الدستوري، أيّ خضوع الأمة، من القاعدة إلى القمّة للقانون، ثمّ اجتهدت في إلغاء الاستبداد الذي سيطر على النظام السياسي، و تطوّرت الديمقراطية التي انتقلت إلى مرحلة تحوّلت فيها الحرية من قيد يمنع الدولة من التدخّل إلى التزام يُجبرها على التدخّل لتقدّم خدمات إيجابية للأفراد تُعينهم بها على التحرّر، وبذلك تحوّل تدخّل السلطة من أمر كريه، إلى أمرواجب ومستحب (11). هذا حال المجتمعات التي حقّقت شوطًا في الديمقراطية، أمّا حالنا، فالنظام يتدخّل أيضًا، لكن ليس لدفعنا إلى الأمام، لكن لإبقاء دار لقمان على حالها، فبالرغم من أنّ الدولة الجزائرية ترفع شعار من الشعب وإليه، إلاّ أنّ هذا الشعب لا يُمارسُ الحكم بنفسه طالما أنّه لا يُشاركُ في نقاش تعديل دستوره، فالدولة قائمة أصلاً لخدمة مصالح الشعب ورعايتها، كما أنّ المشرّعين يسنّون التشريعات لتجسيد أهداف من ساهموا في إيجاد المشرّعين، فأين حقّ الشعب في الرقابة الذي يكفله هذا الدستور؟ تعني الديمقراطية أحقّية تغيير القوانين بسهولة كلّما حدث تغيّر في حال الشعب، أمّا في بلادنا، فحال الشعب كما هو، لكن الدستور يتغيّر، فقط لأن القمّة أرادت أن تتغيّر، دون أن تستأذنَ الشعب في هذا التغيير، ضاربة عرض الحائط المبدأ الذي ينصّ على أنّ الديمقراطية لا تُصبح حقيقة واقعة إلاّ برضا الشعب، ورضا الشعب لا يتمّ إلاّ بإسناد الحُكم إليه، ليباشر السلطة بنفسه، ومن ثمّ فإنّ الديمقراطية تبرز وجودها وحتميتها. إذا كان مبدأ الرضا هو أوّل شرط قانوني في أيّ عقد لتأسيس شركة تجارية صغيرة، فكيف لا يعمل النظام على مشاورة المواطن في هذا التعديل حتى يتحقّق هذا الشرط الذي يُعتبر أساس العقد الاجتماعي؟ تغييب مبدأ المواطنة الذين فكّروا في تعديل مواد الدستور، هل فكّروا قبل تعديل هذه المواد في تحقّق مبدأ المواطنة الإلزامي للحصول على الشرعية؟ وأنا أكتب هذا الموضوع، حاولتُ أن أضغطَ على ذاكرتي لأحصي عدد الملتقيات والأيام الدراسية التي حضرتها والتي نظّمتها المؤسسات والهيئات الرسمية لتوضيح مفهوم المواطنة وترسيخه، فعجزتُ عن تذكّر عددها لكثرتها، لكنّي تذكّرتُ المثل الألماني القائل: ”إذا سمعتَ كثرة الأقوال فلا تنتظر كثرة الأفعال”. تعني المواطنة صياغة طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة بالشكل الذي يكفل للمواطنين مشاركة واسعة تحقّق التنمية المستدامة عبر حشد كلّ طاقات المجتمع البشرية والمادية، وتشجيع مؤسّسات المجتمع المدني على المساهمة على رفع التحدّيات من أجل تدعيم العمل الجماعي وتعزيز القُدرة على تفعيل عمليات التنمية في جوّ يساهم في تجذير قيَم الديمقراطية. أين هي المواطنة في معادلة تعديل الدستور؟ أليست المشاركة السياسية جزء من هذه المواطنة التي تقومُ عليها الديمقراطية؟ ألا تتحدّدُ بنية المجتمع ونظامه السياسي وآليات عملهما من خلال نمط العلاقة بين المجتمع ونظامه السياسي؟ لقد صرفت مؤسسات الدولة الرسمية الأموال من الخزينة العمومية من أجل تنظيم هذه الأيام الدراسية حول المواطنة، ولا أنكرُ أنّ الجزائريين استفادوا و تقبّلوا هذا المفهوم برحابة صدر طالما أنّه يساعد على تثقيف المواطن ويدفعه لأن يكونَ مواطنًا إيجابيًا، لكن ما أنكره، هو أن أشاهدَ تنكّر النظام لما كان يدعو إليه في تلك الأيام الدراسية بعدَم إشراك المواطنين في عملية صُنع الدستور. المواطنة لا تقوم فقط على السياسة، والسياسة لا تقوم فقط على الدعاية، والدعاية لا تقوم فقط على الكذب، فالمواطنة تقوم أصلاً على العلم، والعلم يقوم على المناقشة، والمناقشة تبني لنا دولة الحوار والتفاهم والاتّفاق على أسس ديمقراطية، والدولة الديمقراطية تؤمن بأنّ مواطنيها يملكون من المؤهّلات والقدرات ما يسمح لهم بتصريف شؤونهم وإدارة قضاياهم وسنّ قوانينهم، فهُم الذين صنعوا الدولة وليس العكس. من أهداف تجسيد مبدأ المواطنة، تنشئة المواطن بغرس روح الوطنية فيه، وتنمية الشعور بالانتماء والرغبة في المشاركة و البناء، والرفع من مستوى وعيه بتحسيسه بكلّ المشكلات، ودفعه لتحمّل الاعباء، فكيف لا نُشركُ المواطن في مناقشة تعديل دستور بلاده؟ إنّ عدم إشراكه هو رسالة مفادها أنّه لم يبلغ بعد سنّ الرُشد، أو أنّه لم يبلغ بعد نسبة الذكاء التي تتيح له المشاركة، و لا تتوفّر فيه نسبة الوعي التي تؤهّله لتحمّل المسؤولية، وبالتالي فهو عاجز لإدراك حقائق مجتمعه. وصراحة، لا أفهم بعدها بأيّ وجه ستدعو السلطة الشعب للاستفتاء على هذا الدستور الذي لم تُشركه فيه ولم تشاوره في الأمر؟ حرمان الشعب الجزائري من مناقشة التعديلات والمشاركة فيها، يعني فتح الباب أمام إمكانية عدم حصول هذا الدستور على الرضا، فمن المنطق ألاّ يوافق أيّ شخص على أيّ شيء يجهله، وحتى في حالة التفويض، فإنّ الجهة المفوَّضة ينبغي عليها الرجوع إلى الشعب قبل التفكير في التعديل وليس بعد إحداثه، وعدم الحصول على الرضا يجعل هذا الدستور يفتقد إلى الشرعية التي يقصد بها القبول العام، ولا يمكنُ الحصول على هذه الشرعية إلاّ من خلال اشتراك الشعب مع نظامه السياسي في صناعة أهمّ توجّهات الدولة. لقد أكّد رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة أنّه حان الوقت لكي تتخلّص الجزائر نهائيًا من مفهوم الشرعية الثورية، وأعتقدُ أنّ تعديل هذا الدستور أكبر مناسبة لإعادة الشرعية إلى الشعب، إلى صاحبها الأصلي، فهل بعد 50 سنة من الاستقلال، ما زلنا نجهلُ كيف نحقّق مبدأ الشرعية؟ هل هذا يعني أنّه يصدق علينا قول السيد إبراهيم يسري (رئيس جبهة الضمير في مصر) عندما وصف حال الدول العربية بأنّها مازالت تُعاني من (طفولة سياسية) وأنّنا مازلنا حقًا على الخطوة الأولى نحو الديمقراطية؟ بمعنى أنّنا في السنة الأولى ديمقراطية، ومن يدري إن كنّا سننتقل إلى السنة الثانية أم نعيد السنة نفسها. الشعب يريد، ويريد هذه السنة أنْ يفوزَ في امتحان تعديل الدستور حتى ينتقلَ إلى السنة الثانية، أن ينتقل من الشرعية الثورية إلى شرعية الشعب، فالشيء الوحيد الذي يُضفي على هذه التعديلات الشرعية هي المشاركة وفي الأخير الرضا عبر الاستفتاء، لأنّ الاستفتاء والقبول هُما من سيمنحان القوّة لهذا الدستور، قوّة الشرعية لا المشروعية، لأنّ المشروعية تختلف عن الشرعية في كونها لا تتمتّع باعتراف المواطنين ولاباحترامهم، فشتّان من ينظر إلى الشرعية كمبدأ أخلاقي و عقلاني، ومن ينظر إليها كتعبير عن إرادة الامتثال لنظام الحكم بغضّ لنظر عن كيفية تحقّق ذلك. إصلاحات الوداع الواقعية، تعني الاستناد إلى الواقع، والواقع يعني التعبير عن هموم المجتمع وقضاياه المتنوّعة، مع الالتزام بمطالب هذا المجتمع، فوضع الدستور ينبغي أنْ ينطلقَ من تفسيراته لأهداف القاعدة لا من منطلق الدفاع عن أهداف القمّة، فإذا كان الدستور معبّرًا فقط عن حاجّة القمّة، فهذا يدلّ على انحيازه، لأنّ أيّ دستور- وحتى يضبطَ العلاقة بين الحاكم والمحكوم بشكل ديمقراطي- ينبغي أن يستمعَ لجميع الأصوات كي يُنتجَ لنا مواد متماسكة تمنح له فرصة العيش لسنوات وليس صالحًا فقط لعهدة رئاسية، اللّهم إلاّ إذا كانت السلطة تنظر إلى الشعب بواقعية ميتافيزيقية (مثالية) وتراه منفصلاً عنها. يقوم نظام الحكم في بناء ديمقراطي على مؤسسات ثلاث هي : التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، أمّا الدعامة الأساسية فهي الشعب، صاحب السيادة، ومصدر السلطات كلّها، ومن هنا، يجب أن نبدأ بالشعب، صاحب السيادة، لنرى كيف يُزاول سيادته (12). وعليه، فمن السذاجة أنْ ننتظرَ من الدستور الجديد أنّ يمنحنا المزيد من الحقوق و والحرّيات، لأنّها تُؤخَذُ بالممارسة ولا تُعطى بالدستور. تريد السلطة في بلادنا أن تجعلَ من ختام إصلاحاتها مسكًا بتعديل الدستور، وكان الجميع يتمنّى أن ينبعثَ من هذا المسك رائحة مصالحة حقيقية بين السلطة والشعب، وبين السلطة والأحزاب، مصالحة على كلمة سواء تجمع شملنا في مواد يحفظها الدستور كعهد لبداية عهد جديد، غير أنه من شَبّ على شيء شاب عليه، فالأكيد أنّ هذا الدستور سيكون مثل سابقيه، وستكون ديباجته (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (النمل /30)، وخاتمته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (المائدة: 3) الظاهر، أنّ ريمة لا تتخلى أبدًا عن عاداتها القديمة، وستعرضُ السلطة في الأخير الدستور على الشعب وكأنّه الباب الأخير نحو عالم الإصلاحات، أو الدرب الجديد نحو الأفضل، وستلقي في أذهان الشعب وعلى مسامعه، أنّ المواطن المُحبّ لبلده، والواعي بالتحدّيات هو الذي سينتخب بنعم، وعكسه هو من سيرفضه، مع إشعاره بأنّه حر وديمقراطي في كلّ تصرّفاته، ومثل هذا الخطاب، لا يختلف كثيرًا عن الخطاب الذي ألقاه أحد جنرالات فرنسا الذي جمع رجاله ليعرض عليهم أمر تعيين نابليون قنصلاً عامًا مدى الحياة فخاطبهم قائلاً : ”يا رفقائي الأعزاء، إنّ الأمرَ يتعلّقُ بتعيين نابليون قنصلاً عامًا مدى الحياة، وأنتم أحرار في آرائكم وتملكون كلّ الحرية في القبول والرفض، ولكنني مع ذلك يجب أنْ أنبّهكم إلى أنّ أوّل من يُصَوّت منكم ضدّ هذا الأمر سوف أعدمه رميًا بالرصاص أمام الكتيبة كلّها.. عاشت الحرية يا رفاق”. ..إنتهى
أ. رشيد حمليل كلية العلوم السياسية والإعلام - جامعة االجزائر [email protected] الهوامش (10) - أ. د. ماجد راغب الحلو، النظم السياسية والقانون الدستوري، الإسكندرية، منشأة المعارف، الطبعة الاولى، 2000. (11) -
(12) - د. مصطفى أبو زيد فهمي، النظم السياسية والقانون الدستوري، الإسكندرية، دار المطبوعات الجامعية، 2006.