منذ كنست ”ثورة” الياسمين نظام بن علي، وبدأت تظهر على شوارعها علامات الإسلام السياسي، ونحن نشد على أفئدتنا مما قد تؤول إليه أحوال هذا البلد الجميل، خاصة بعد الانتصار الذي حققته نهضة الغنوشي السلفي الذي حاول أن يهذب من هيئته ويلبس قناع المعتدل ليدخل القالب الأمريكي للإسلام السياسي. وها هي مخاوفنا تصبح حقيقة، بتعاظم خطر الإسلام المتشدد الذي لم يعد يهدد تونس وشعبها فقط، وإنما يهدد استقرار منطقة المغرب العربي كلها. فالقضية ليست قضية ”أنصار الشريعة” التي منعت من تنظيم مؤتمرها أمس في القيروان، بل لأن المواجهة تحولت إلى عصيان مدني ذكرنا بما حدث في شوارع الجزائر العاصمة في مثل هذا الشهر من سنة 1991، عندما خرج عناصر جبهة الإنقاذ في مواجهة مع السلطة، رافضين الالتزام بكل القوانين والأعراف، متحدين الأمن في مواجهة خلفت أضرارا وانتهت بغرق البلاد في أزمة أمنية ما زالت آثارها قائمة حتى اليوم. لا أصدق أن حكومة النهضة وزعيمها يعارضون التظاهرة السلفية وسياسة ليّ الذراع التي تقوم بها جماعة أبو عياض، أو أن السلفيين كسروا شوكتها، لأن ما يقوم به هذا التيار من فوضى ومن حالة فزع يزرعها في المجتمع التونسي، ستصب كل نتائجها في صالح النهضة، ليس لأنها تدعي الاعتدال، وبالتالي ستمثل أخف الأضرار في نظر البعض، بل لأن النهضة مثلما هي الجماعات الإسلامية بصفة عامة، اعتمدت دائما في مشروعها على الذراع المتشدد للإسلام السياسي. ألم تستفد جماعة نحناح في الجزائر من مغامرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وها هي تستقطب مناضليها وأصواتها في الانتخابات؟! لن يدين الغنوشي الأعمال الإجرامية والإرهاب والمواجهات الدامية التي يقودها التيار السلفي في حي التضامن بالعاصمة تونس، ولا في القيروان ولا في جهات أخرى من تونس، فليس من عادة الإسلاميين مهما وصفوا بالاعتدال إدانة العنف، فلم يسبق للأحزاب الإسلامية الشرعية في الجزائر أن أدانت العنف الذي أغرقت فيه جماعة علي بلحاج وعباسي مدني البلاد. بل بالعكس هي تستمد قوتها مما يزرعه هذا التيار من رعب وتخويف من المتشددين، وهو ما ستطبقه النهضة، وأول القطوف أن وزير العدل التونسي، صرح منذ أزيد من أسبوع بأنه لن تكون هناك انتخابات، متعللا بالوضع الأمني وبالإرهاب الذي بدأت تعاني منه مناطق عدة من تونس وعلى رأسها ما يعرفه جبل الشعانبي من عمليات إرهابية، ومن تركيز للجماعات القتالية هناك. ما يعني أن حكومة النهضة والرئيس المؤقت، سيبقيان إلى إشعار آخر. وفي انتظار ذلك، ستحكم النهضة قبضتها على مفاصل الدولة، وتضيق الخناق بذلك على التيارات الوطنية واللائكية، ويستحيل بذلك التداول الإيجابي على السلطة، خاصة بعدما خبر المجتمع التونسي حكم الاسلاميين وسوء تسييرهم لشؤون الدولة، وتبين للجميع، أن تونس خرجت من نظام شمولي لائكي، إلى نظام شمولي بصبغة دينية. مواجهات أمس بين قوات الأمن والجماعات السلفية، ما كانت لتكون لولا سكوت حكومة الغنوشي عن انتشار الظاهرة، بل كان أحد المشجعين لها عندما اجتمع بهم وأمرهم بإقامة معسكرات التدريب لأن بقاءه في الحكم غير مضمون ما دام الأمن والعدالة والجيش ليس بيده، وها هو التيار السلفي يعمل بالنصيحة؟!