رواية وحيدة للدكتور قحطان مهنّا صدرت العام 2010 بعنوان ”وداد من حلب”، لم تثر أية ضجة عند صدورها، مع أنها تعالج موضوعا حساسا جدا. رواية من الحجم الكبير 500 صفحة، يستحيل أن تجذب القارئ العربي ما دام عنوانها لم يثر أية جهة رقابية، لم تمنع الرّواية ولم تكتب عنها الصحافة، كأنها كتبت فقط لتتحوّل إلى تحفة درامية و تنال الإهتمام الذي لم تنله كرواية. كتب السيناريو عدنان العودة وأخرج باسل الخطيب العمل، وأدى الأدوار كوكبة كبيرة من نجوم الدراما السورية، على رأسهم سلاف فواخرجي في دور السيدة اليهودية وداد، وديمة قندلفت في دور جارتها ربيعة، المسلمة التي هربت من ظلم أخيها إلى الشام، و وائل رمضان في دور ”رأفت أفندي” شخصية جذابة تكون بمثابة الشّاهد على عصر التغيرات كلها والقارئ الموضوعي والناقل الأمين لها. لقد عودنا باسل الخطيب على أعمال سابقة تأخذ لبَّ المشاهد، وأظن أن نسبة عالية من المشاهدين العرب يتذكرون أعماله السّاحرة ”رسائل الحب والحرب”، ”هوى بحري”، ”عائد إلى حيفا”، ”نساء صغيرات” وأعمال أخرى يضيق المقام لذكرها، ثمّ لمخرجنا أيضا باقة من الأعمال السنيمائية المتميزة، وتقنيته في الإخراج الدرامي فيها لمسة سنيمائية و بصمة خاصّة به. عدنان العودة أيضا دخل عالم الدراما من أول عمل له بضربة معلِّم، برز بروزا غير متوقع بعمله ”فنجان الدم” الذي أخرجه الليث حجو، وأخذ فيه دور البطولة غسّان مسعود، و حافظ على مستوى نجاحه ذاك بأعماله القليلة التي تلته ”أبواب الغيم” الذي أخرجه حاتم علي، و”توق” الذي أخرجه التونسي شوقي الماجري. والجميل في شخصية عدنان العودة أنه قارئ ممتاز، إصطاد الرواية من بين بحر الكتب التي لم تقرأ، وحضرها لتكون دراما حول حلب، لكن لأن حلب تعرضت للدمار، فقد تغير عنوان المسلسل وفقا لمكان التصوير عدة مرات، حتى استقرّ على ” يا مال الشّام” وأصبحت دمشق فضاء حقيقيا لأبطال الحكاية و لفريق العمل الذي جسّدها، إذ صُوِّر كاملا في دمشق رغم الظروف الصعبة التي تعيشها. بل إن هذه الظروف سمحت لوجوه جديدة لتأخذ أدوارا جيدة في المسلسل في غياب النجوم الذين غادروا دمشق نحو بيروت و دول الخليج حفاظا على حياتهم. لا يمكن لمتابع العمل سوى أن ينبهر بأبطاله، ويشم عطورهم، وروائح بيئتهم الشامية الجميلة بين أواخر الأربعينات وأوائل القرن الحالي.. لا يمكنه سوى أن ينصهر ضمن خيوط الحكاية التي تقدِّم لنا مرحلة التّحولات الكبرى في تاريخ الشرق الأوسط، بدءا بالزمن الجميل الذي لم يكن فيه الدين جدارا سياسيا يفصل شعب الوطن الواحد إلى أزمة فلسطين التي تستمر إلى يومنا هذا، والتي خسر فيها اليهود العرب مكتسابتهم، وهدوء حياتهم التي حضوا به على مدى قرون في بلاد الشام و بلدان عربية أخرى. قصّة الحب التي تنمو بين وداد الحسناء اليهودية وبياع الكعك المسلم، لن تكون سوى قصّة عشق سريّة تختصر وضع اليهود العرب على الأرض العربية، علاقة كانت جميلة تتخللها أحلام عشقية كثيرة ولكنها تتصدّع فجأة بسبب غياب الشرعية التي توطد الرّوابط و تثبِّت القواعد. ينبثق الحلم الإسرائيلي من قلب التغيرات التي عصفت بالعالم و بالمنطقة و تسير الأحداث نحو وجهة التمزّق واللاثبات الذي يستمر عبر ثلاثة أجيال . حيث يقدم المسلسل الأسباب و النتائج لكل ما حدث في دمشق و فلسطين وكيف امتدّ في العالم كله . في هذا العمل المتقن البناء نستشف الوجه الآخر لليهود العرب، الوجه الجميل الذي تمثله وداد والتي تقف أمام العالم وتقول إن العرب لم يضطهدوها يوما، وأن أجمل أيام حياتها عاشتها بين أهل الشام، ثم نرى الوجه البشع للمشروع الإسرائيلي في زوجها الشرعي (أدى الدور مصطفى الخاني بشكل رائع أيضا) والمجموعة التي تحيط به لبلوغ هدف واحد هو إقامة دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية وجعل اليهود يغادرون البدان التي إحتضنتهم. يستحق هذا العمل العلامة الكاملة كعمل فني متكامل، كما من حيث طرح موضوع جديد في الدراما العربية دون مبالغات ومغالطات تاريخية كما يحدث عادة في الأعمال الدرامية المصرية. ويستحق أيضا الكثير من الإحترام، لأنه مغامرة كبيرة نمت في ”شام الحرب والموت والخوف” وخرجت بباقة أمل غير متوقعة تمثلت في لوحات العمل وجدنا فيها ضالتنا: باقات من الحب، وباقات من الثقافة، ومن التاريخ، ومن واقع يختلف تماما عن الحريم و القبضايات الذين أنجبتهم موضة ” باب الحارة”.. يبقى أن نشير أن إسم المسلسل مشتق من مطلع أغنية شهيرة من ”القدود الحلبية” ربما حفاظا على روح العمل الروائي و إحتراما للشخصية الروائية الرئيسية ” وداد من حلب” التي ظلت تعشق حلب حتى حين توفيت في الولاياتالمتحدة، فأوصت أن يكتب على قبرها هذه العبارة: ”وداد من حلب”. كما نشير أيضا أن العمل من إنتاج مؤسسة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي بدمشق. ويعرض حاليا على قناتي أبوظبي وقناة أل بي سي أنترناشيونال.