رحل في 10 سبتمبر الجاري المجاهد الدكتور الوزير إبراهيم ماخوس (*) بعد مرض عضال أقعده بضعة أشهر، وقد شيعت جنازته ظهر نفس اليوم بمقبرة سيدي يحيى في الجزائر. والفقيد مجاهد، تطوع من سوريا كطبيب في صفوف جيش التحرير الوطني الذي قضى في صفوفه نحو أربع سنوات ونصف. وغداة استعادة الجزائر استقلالها وسيادتها عاد إلى سوريا، ومالبث أن أصبح قياديا في حزب البعث، ليعتلي بعد حين قمة هرم السلطة، مع إثنين من رفاقه المتطوعين مثله في جيش التحرير، وهما نور الدين الأتاسي ويوسف زعين، لكن هذا الجناح الثوري القومي ما لبث أن ذهب ضحية الإنقلاب الزاحف في الحزب والدولة الذي قاده حافظ الأسد ابتداءا من عام 1970.. وبعد فترة من ذلك، فضل ماخوس المجيء إلى الجزائر في عهد الرئيس هواري بومدين، وعمل سنوات طبيبا بمستشفى مصطفى في العاصمة، إلى أن أحيل على التقاعد أواخر الثمانينات من القرن الماضي. وظل الفقيد طوال إقامته الجزائر مناضلا عنيدا، ومعارضا شرسا لنظام حافظ الأسد ووريثه بشار، وكان مواضبا مع عدد من رفاقه السوريين على إصدار نشرة دورية، تشرح مثالب النظام القائم، وتندد بتجاوزاته وانحرافاته.. وقد عايش بذهنه الحوادث الدامية التي تهز وطنه الأصلي، عايشها رغم معاناة المرض بمزيج من الأمل والألم.. رحل هذا المناضل القومي الكبير عن عمر يناهز 85 سنة، رحمه الله ووسع عليه، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم ذويه ورفاقه المناضلين السوريين جميل الصبر والسلوان. أطباء متطوعون في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، كان بدمشق مكتب للمغرب العربي، يمثل أهم الحركات التحررية وهي: حزب الشعب الجزائري، حزب الإستقلال المغربي، الدستور الجديد التونسي، وكان ينشط مكتب العاصمة السورية مناضل من تونس، هو يوسف الرويسي الذي وجد مادة خصبة لنشاطه، في عمليات الثوار التونسيين بدءا من سنة 1952، ثم في تحرك ثوار المغرب عقب الإطاحة بالسلطان محمد بن يوسف في 20 أوت 1953، وأخيرا في اندلاع الثورة الجزائرية ليلة فاتح نوفمبر 1954. في خر يف 1955 عينت جبهة التحرير الوطني المناضل عبد الحميد مهري، لفتح مكتب لها بدمشق، وكان تصاعد المد الثوري بالجزائر، وصداه القوي في الوطن العربي يلهب حماس الشباب السوري، وكان طلاب حزب البعث خاصة في الطليعة، لا من حيث الإهتمام فقط، بل كذلك من ناحية التحفز لعمل شيء ما، وتقديم دعم ملموس للشعب الجزائري الذي يواجه بإمكانيات جد متواضعة جبروت فرنسا الدولة الإستعمارية العاتية. كان ضمن هذه الطليعة (6) من طلاب كلية الطب من بينهم الطالب إبراهيم ماخوس (1) يترددون باستمرار على مكتب جبهة التحرير للتعبير بإلحاح متزايد عن رغبة التطوع في جيش التحرير.. كان رد مهري في البداية: أكملوا دراستكم أولا! وبعد أن أنهوا دراستهم قيل لهم: هيئوا أنفسكم! أي التدرب في الجيش السوري على مبادئ عامة في فن القتال، والطب الميداني على نحو خاص تماشيا مع تخصصهم.. وخلال فترة الإنتظار والتكوين، شارك ماخوس ورفاقه في مظاهرة حاشدة ضد حكومة دمشق احتجاجا على إبرام صفقة لبيع كميات من القمح إلى فرنسا، رغم أن صادرات القطر السوري آنذاك تكاد تنحصر في هذه المادة. وكان من نتائج هذه التظاهرة إسقاط الحكومة! في خريف 1957 استجابت جبهة التحرير لرغبة تطوع الأطباء الستة، وهم فضلا عن الدكتور ما خوس: نور الدين الأتاسي، صفوح الأتاسي، يوسف زعين، صلاح السيد، رياض برمدا. وقدم العقيد عمار أوعمران مسؤول الشؤون العسكرية في لجنة التنسيق والتنفيذ شخصيا لترتيب التحاقهم بجيش التحرير الوطني، وحسب شهادة الفقيد ماخوس، أن العقيد أوعمران إجتمع بهم في فندق متواضع بدمشق، ثم توجهوا إلى قيادة أركان الجيش السوري التي فتحت أمامهم مخازن الصحة العسكرية ليأخذوا منها ما يشاؤون وأخذوا فعلا كمية هامة من الأدوية والمعدات، منها غرفة عمليات كبيرة، و(6) غرف عمليات ميدانية متنقلة.. وأكثر من ذلك حصل المتطوعون على تفويض مفتوح، تلبية جميع حاجاتهم بعد الإلتحاق بالثورة. أشواق الكفاح الميداني سافر ماخوس ورفاقه الخمسة رفقة أوعمران إلى القاهرة، ومنها تم تسفيرهم إلى تونس عبر ليبيا.. وفي طرابلس استقبلهم ممثل جبهة التحرير بشير القاضي الذي حرص على استضافتهم، ليذوقوا أول مرة طعم الشربة الجزائرية، وقد تعرفوا بالمناسبة على بعض أبناء الشهداء الذين تكفلت بهم عائلات ليبية كريمة. وتم السفر إلى تونس العاصمة بوثائق جزائرية على دفعات ثلاث، فكان نور الدين الأتاسي رفيق ماخوس في الرحلة، كان سائقهما جندي فار من الجيش الفرنسي، قليل الكلام لا يرد إلا بعد إلحاح، سألاه: لماذا لم تلتحق بميدان المعركة؟ فكان جوابه: أن إدماج الفارين في جيش التحرير يستوجب فترة اختبار أولا، للتأكد من صدق التزامهم واستحقاق ثقة القيادة.. لما عرف السائق أنهما من الشام قال: بعد تحرير الجزائر سنشارك إن شاء الله في تحرير فلسطين. أجاب الأتاسي: هذا حلم! لكن السائق فاجأه قائلا: بل هذا أمل! نزل ماخوس ورفاقه بتونس ضيوفا على الدكتور التيجاني هدام، مسؤول الصحة العسكرية في قاعدة جبهة التحرير، فأبقاهم معه بعض الوقت، للتعرف على مصلحة الصحة والإحتكاك بظروف العمل، خاصة مستشفى الصادقية المركزي، حيث يوجد جناح للجرحى والمرضى الجزائريين، كان ذلك بعد أن اتخذ كل منهم إسما حركيا، فاختار مثلا ماخوس إسم مراد بالعربي تيمنا بالقائدين الشهدين ديدوش وبن مهيدي، بينما اختار رفيقه الأتاسي إسم عبد القادر بن عبد الوهاب، تبركا بالأمير عبد القادر الذي يحظى بمكانة متميزة لدى الأشقاء في سوريا. خلال فترة “التكيف” هذه، كان الدكتور ماخوس يساعد الدكتورين هدام وآيت إيدير في بعض العمليات الجراحية، وبسرعة عم الشعور الأطباء المتطوعين، بأن فترة التكيف طالت أكثر مما ينبغي! علما أنهم جاؤوا يدفعهم الشوق إلى الإلتحاق بالثوار داخل التراب الجزائري! ولم يكونوا على علم بوجود لاجيئين، ولا قواعد لجيش التحرير بالمناطق الحدودية! وكانوا معنويا وعسكريا في منتهى التحفز لذلك كما سبقت الإشارة. لذا ما لبث أن دب فيهم الملل بوضعيتهم في العاصمة التونسية، فأصبحوا يتساءلون فيما بينهم: ترى متى الإلتحاق بجبهة القتال؟! أليس جيش التحرير بحاجة إلى أطباء؟! وذات يوم بعد أن ثقلت عليهم معاناة الإنتظار، قرروا مفاتحة الدكتور هدام في الموضوع، فكان جوابه: أن مسؤولي الجبهة بتونس يرغبون في بقائهم للعمل بالمستشفيات التونسية، حيث وضعت أجنحة خاصة تحت تصرف أطباء جبهة وجيش التحرير! يا للخيبة! وهم الذين جاؤوا بفكرة الإلتحاق فورا بالخطوط الأمامية، لممارسة الطب الميداني على الساخن! حاول الدكتور هدام إقناعهم ببعض المبررت مثل: اختلال اللجنة، احتمال انكشاف أمرهم أو الوقوع في قبضة العدو، واستغلالهم دعائيا كشاهد على التدخل الأجنبي في تمرد جبهة التحرير، عدم وجود مراكز صحية ثابتة بالداخل..إلخ مثل هذه المبررات لم تصمد أمام خيبة ماخوس ورفاقه فردوها بقوة، ومن حججهم في ذلك: 1 أن ليس هناك من ضرورة لبقائهم في المستشفيات التونسية، لأن طاقة الأطباء الجزائريين بها تبدو أهم من حاجة هذه المستشفيات، بدليل أن هؤلاء الأطباء يقضون أكثر الوقت في معالجة مرضى تونسيين، مقابل رواتب كبقية الموظفين! وكشاهد إضافي على هذا الفائض، أن مستشفى الصادقية المركزي كان يحتوي على 30 سريرا لا أكثر! 2 أن بقاءهم بالعاصمة التونسية يفرغ تطوعهم من محتواه، ويحد من مشاركتهم في الثورة التي لن ترقى في نظرهم بالبقاء في تونس إلى مستوى الجهاد المنشود.. بعد فترة انتظار أخرى عاود ماخوس ورفاقه الكرة، لكن بطريقة لا تسمح بمزيد من المماطلة: أمام السماح لهم بالمشاركة في العمل الطبي الميداني، أو العودة مكرهين إلى سوريا! هذا الطرح أحرج الدكتور هدام الذي أجابهم بصراحة أكثر هذه المرة: أن بعض المسؤولين يتخفون من التأثير السلبي لبعض الحقائق الميدانية البعيدة عن نظرتهم المثالية، الأمر الذي قد يصدمهم ويصيبهم بالخيبة! وهنا كان رد الأطباء المتطوعين: نحن مناضلون قبل كل شيء، ولسنا مثاليين، إلى الدرجة التي تتصورون، وقد جئنا، ونحن ندرك تماما إمكانية الإصطدام بمثل هذه النقائص والسلبيات التي لا تخلو منها أية ثورة. جراح... بشفرة حلاقة! توصل الدكتور التيجاني هدام مع الأطباء السوريين في نهاية المطاف إلى حل وسط: الإنتقال للعمل بالمراكز الصحية على امتداد الشريط الحدودي بين اللاجئين والقواعد الخلفية للولايات، قبل ظهور جيش الحدود لاحقا، وبفضل هذا الحل غمرهم الشعور بأنهم أصبحوا مجاهدين بأتم معنى الكلمة، لا سيما بعد أن تسلموا لباس الميدان خاصة القشابية الشهيرة والأسلحة المناسبة من مسدسات ورشاشات.. وكان توزيعهم على المناطق الحدودية كما يلي: عين الدكتور ماخوس ونور الدين الأتاسي بالقطاع الجنوبي بالقرب من مدينة تالة، حيث عدة مراكز صحية مثل مركز مزرعة المقراني وقاعدة خلفية للولاية الأولى كان على رأسها يومئذ العقيد محمد العموري.. وعين الدكتور يوسف زعين وصفوح الأتاسي بالقطاع الأوسط، حيث مراكز تاجروين على مقربة من ساقية سيدي يوسف، وقاعدة خلفية للولاية الثانية بقيادة العقيد علي كافي حينئذ. وعين الدكتور صلاح السيد ورياض برمدا بالقطاع الشمالي حيث مراكز ناحية غاز الدمار التي كانت تضم أيضا قاعدة خلفية تابعة للقاعدة الشرقية بقيادة العقيد عمارة العسكري (بوقلاز).. صادق ماخوس والأتاسي في طريق الإلتحاق بالقطاع الجنوبي بساقية سيدي يوسف العقيد علي كافي، فاستقبلهم بحفاوة ورحب بهم ترحيبا حارا، وقد استضافهما أياما قبل العودة إلى شمال قسنطينة رفقة بعض مساعديه، أمثال الرائد الشهيد علاوة بن بعطوش، والنقيب الطاهر بودربالة... وشهد شهر فبراير 1958 غداة وصول ماخوس ورفيقه إلى تالة حدثا سعيدا: إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وتأسيس الجمهورية العربية المتحدة، وقد احتفل الطبيبان المتوطعان بهذه المناسبة القومية، رفقة بعض المجاهدين الجزائريين في مقهى متواضع بالمدينة.. ويذكر الدكتور ماخوس بتأثر ما قال أحد المجاهدين في ذلك السياق: أن إعلان هذه الوحدة يعني أن الثورة الجزائرية اقتربت من النصر بنسبة 50٪ كانت المراكز الصحية بالشريط الحدودي عبارة عن مستوصفات للطب العام ونظرا لإفتقارها إلى التجهيزات والأدوات اللازمة للجراحة، وكانت أقرب مصلحة للجراحة بمستشفى الكاف على بعد 25 كلم، وكان يشرف عليها الدكتور بشير منتوري. وتستقبل كبار الجرحى، قبل تحويلهم إلى تونس أو عواصم أخرى إذا اقتضى الأمر، أما الحالات غير الخطيرة فتعالج بالمراكز، الحدودية، حسب الإمكانيات المتاحة مثلما فعل الدكتور ماخوس على سبيل المثال أمام مسبّل أصيب بعدة رصاصات اخترقت إثنتان منها جسده دون أن تصيب الأجهزة الحيوية لحسن الحظ بينما استقرت إثنتان في ذراعه الأيسر، فقد اكتفى بشفرة حلاقة لاستئصالها! . الثورة الجزائرية.. مفخرة العرب لم يكن النشاط الطبي يستغرق كامل وقت الدكتور ماخوس ورفيقه، فكانا لذلك يتابعان أخبار الجهبة مثل بقية المجاهدين من الولاية الأولى، ويعيشان باهتمام خاص وقائع التصدي للخطوط الدفاعية الخطيرة المتمثلة في خط موريس ثم شال بعده، ويذكر الدكتور في هذا الصدد بعض الوسائل المستعملة لإقتحام هذه الخطوط الجهنمية مثل: 1 إطلاق الحيوانات لإحداث ثغرات في حقول الأنعام 2 استعمال براميل خشبية لإحداث أنفاق عازلة تحت الأسلاك المكهربة، يعبر منها المجاهدون زحفا 3 استخدام مقصات ضخمة عازلة، لقطع هذه الأسلاك المكهربة. ويذكر الدكتور ماخوس أنه ورفاقه، نبهوا قيادة العمليات العسكرية إلى أهمية سلاح “البنغلور” في هذه العملية، باعتباره وسيلة تفجير فعالة. وهو عبارة عن أنابيب معدنية مشحونة بالمواد المتفجرة يتم تمريرها بحذر تحت الأسلاك المكهربة، ويحدث انفجارها عادة فجوات تبلغ حوالي 12 مترا. وقد شاركت فرق من الهندسة العسكرية من سوريا ومصر، في تدريب الثوار على هذا السلاح واستعماله بفعالية متزايدة. جعلت جيش الإحتلال يعيش هاجس اقتحام جيش التحرير هذه الخطوط بكثافة، ويتخوف من تكرار عملية ديان بيان فو بكيفية أو بأخرى. ويرى الدكتور ماخوس على ضوء تجربته ورفاقه، أن الثورة الجزائرية من أعظم ثورات القرن العشرين.. علما أن ظروفها كانت أشد قساوة مثلا، من الثورة الفيتنامية التي كانت تعتمد على قاعدة محررة في الشمال، وتستند إلى عمق استرتيجي حليف من الصين والإتحاد السوفياتي، فضلا عن العامل الجغرافي المتمثل في بعدها الشاسع عن فرنسا. وبناءا على ذلك يجزم بدون تعصب قومي بأن الثورة الجزائرية هي مفخرة العرب والإنسانية. وقد شكلت الثورة الجزائرية بفضل المشاركة المتميزة فيها منطلق نجاح خاص للدكتور ماخوس، ورفاقه، بعد استقلال الجزائر والعودة إلى سورية الشقيقة، فقد تبوأ ثلاثة منهم أسمى المناصب في الدولة: الدكتور نور الدين الأتاسي رئيسا للجمهورية الكدتور يوسف زعين رئيسا للحكومة الدكتور إبراهيم ماخوس نائبا لرئيس الحكومة وزيرا للخارجية شهادة الدكتورة ماخوس منشورة في كتاب وداعا فيتنام.. أهلا يا جزائر. وزارة المجاهدين دار هومة للنشر، الجزائر 2013
(1) ما خوس بلدة شمال غرب سوريا، قريبة من لواء “الإسكندرونة السليب” حسب تعبير أشقائنا السوريين