يستغرب الفرنسيون اليوم كيف أن ال”فيس بوك” جعل من قصة بائع المجوهرات اللبناني الأصل ستيفان الترك، الذي تعرض محله لسرقة في مدينة ”نيس” الفرنسية، وأطلق النار على أحد اللصين وأرداه قتيلا، قضية وطنية وسياسية، تهز الرأي العام. ليس فقط لأن صفحة ”فيس بوك” المناصرة لبراءة الترك جمعت أكثر من مليون ونصف المليون مؤيد، ولكن دخل على الخط اليمين المتطرف لصالح براءته، وضد القتيل. هذه الظاهرة باتت تطرح أسئلة حول مدى قدرة ”لايكات” ال”فيس بوك” على تحويل الجاني إلى ضحية، والعكس صحيح. وهو ما يجعل أهل اللص/ القتيل يشعرون بالصدمة، وبعض الفرنسيين يتساءلون عن مدى أحقية المواطن في الدفاع عن نفسه حتى بالقتل بالمسدس، بينما اللص يفر بما اختلسه منه، وحياته ليست في خطر. وهو ما حدث مع ”المجوهراتي” الموضوع حاليا تحت الإقامة الجبرية. فهمت إسرائيل منذ حرب 2006 التي شنتها ضد لبنان أهمية التأثير على الرأي العام من خلال الإنترنت. ولم يدخر اللبنانيون جهدا في تلك الحرب للتواصل مع العالم الخارجي ونقل معاناتهم عبر مواقع ”فيس بوك” و”تويتر”، والتأثير على مواطنين أوروبيين وأميركيين. بعد تلك التجربة جندت إسرائيل فريقا مدربا كشفت عنه ”يديعوت أحرونوت” مؤخرا، مكونا من 1600 شخص أُعدوا أكاديميا في إحدى الجامعات الإسرائيلية ليتولوا حرب التعقيبات على مختلف المواقع المهمة، حين يتعلق الأمر بالدفاع عن إسرائيل وصراعها مع العرب، ليس فقط باللغات المنتشرة كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وإنما أيضا بالعربية والكورية والتركية وحتى الروسية والسلافية. وبحسب دراسة أُعدت خصيصا، أثناء إعداد هذا الفريق، فإن 7 في المائة فقط من زوار المواقع يعقّبون، و40 في المائة يقرأون هذه التعقيبات، مما يعطي الكتابة والرد أهمية كبرى، يتوجب الاهتمام بها، على أعلى مستوى، ومأسستها إن اقتضى الأمر. تنامي أهمية الرأي العام لم يأتِ صدفة، ولم يولد من فراغ، فمؤسس موقع ”فيس بوك” مارك زوكربيرغ قال أكثر من مرة إنه رفض آراء مستشاريه الماليين الذين نصحوه تكرارا ببيع موقعه رغم أن المبالغ كانت مغرية، لا لعدم الرغبة في المال، بل لأنه كان يعتقد صادقا أن البشرية بحاجة لفضاء للتعبير الحر، في مواجهة حيتان الإعلام وسطوتهم على عقول البشر. جوليان أسانج، وإنْ انتهج وسيلة أكثر راديكالية وتطرفا، فقد أعلن تكرارا أن موقعه هدفه كشف الحقائق، وأن من حق الناس معرفة ما يدور خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة، حيث تقرر مصائرهم. وليس مباحا للسياسيين أن يتفقوا على شيء ويبوحوا بغيره. هكذا يبدو أن الثورات العربية استفادت من هذا الطوفان الغربي المتعطش لحرية بلا حدود، وجاءت استكمالا لفكر نما في ما وراء المحيطات واجتاح العالم، وفعل في كل أمة فعلته. ومن يريد أن يخفف من أهمية ما لعبته مواقع التواصل الاجتماعي من دور في لجم أوباما والزعماء الأوروبيين عن شن حرب على سوريا، كانت قاب قوسين أو أدنى، فلعله لم يتابع ما كان يدور من أحاديث تؤكد أن الرأي العام الغربي فقد الثقة في حكامه وزعاماته وقدرتهم على اتخاذ القرارات الحكيمة. وما المناظرات على صفحات الصحف بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والسيناتور الجمهوري الأميركي جون ماكين، التي اشتعلت مؤخرا، بعد صفقة الكيماوي، إلا استكمال لهذه الحرب الإلكترونية الشرسة بين فكرين ومنطقين مختلفين في رؤية العالم والتعامل معه، ومحاولة من كل منهما للتأثير على جمهور الآخر، القابع خلف الشاشات. وإذا كان بوتين اختار ”نيويورك تايمز” في عقر دار أوباما ليقول له ”إنه من المرعب أن الولاياتالمتحدة أصبحت تستسهل التدخل العسكري في شؤون الدول”، ويتساءل ”هل هذا في مصلحة الولاياتالمتحدة؟”، ثم يخبره بأن ”الملايين من سكان العالم أصبحوا يرون الولاياتالمتحدة رمزا للقوة الغاشمة”، فإن المضحك حقا أن ماكين نشر رسالته الجوابية إلى بوتين في المقابل في ”البرافدا” الناطقة باسم النظام الروسي ليرد بالقول إنه ”مؤيد لروسيا أكثر من نظامها” نفسه، ويتحسر على فساد قادتها، ويعلن رغبته في تعرية تزويرهم، ناصحا بوتين بأن ”إعادة العظمة إلى روسيا لا تكون بالتحالف مع أكثر طغاة العالم عدائية وخطورة، ومن خلال دعم النظام السوري الذي يقتل عشرات الآلاف من شعبه للبقاء في السلطة”. بالطبع لم يكن السياسيان اللدودان بحاجة لكتابة مقالات، ليسمع كل منهما رأيه للآخر، فالمستهدف هم الناس، والمقصود هو مخاطبة الشعب الآخر، وهذا جديد، ويستحق الاهتمام. جديرٌ التذكير بأن فيلما لا تتجاوز مدته 17 دقيقة وتدور كل أحداثه على شاشات ”لاب توب” فاز مؤخرا في ”مهرجان تورونتو الدولي” للسينما عن فئة الأفلام القصيرة. في الفيلم تنقل الكاميرا حيوات كاملة لأشخاص كل تواصلهم هو عبر أجهزتهم الإلكترونية، وهم يتحدثون عبر ”سكايب” أو ”فيس بوك” ويستمعون إلى ”آي تيونز” ويثرثرون ب”التشات”، ويستخدمون ما أمامهم من برامج ليتبادلوا مشاعر الحب والغيرة وحتى الثأر والإثارة. وفيلم ”نوح” هذا الذي يحمل اسم بطله، لا نرى فيه الأيدي وهي تطبع ولا حتى الوجوه الأصلية أو الغرف التي يوجد فيها الأشخاص. فنحن أمام شاشة وكلمات ووجوه من يتحدثون عبر ”سكايب”، وحركات الفأرة السريعة وهي تقفز من مكان إلى آخر. ومع ذلك لا نشعر بالضجر أو الاستغراب، وإنما هم في الفيلم أشخاص يشبهوننا حد الإدهاش. شعوران متناقضان ينتابان المتفرج، إحساس بالأسى من حياة باتت أزرارا وتواصلا غرائبيا من خلال برامج التواصل الاجتماعي، وشعور آخر بالاستسلام لواقع بات مفروضا علينا ويتوجب التعايش معه بحسناته وسلبياته. قد تكون الرغبة في مزيد من الحرية هي التي أطلقت العنان لكل هذه الفضاءات، لكن استغلال الحريات والتحايل عليها قد يصبح بمرور الوقت، وتكاثر الخطط، أخطر من العبودية ذاتها.